لا تُحصى الآثار المنهوبة بعد الحرب مثلما تحصى الأرواح والخسائر البشريّة. هناك استحالة في تتبعها بعد خروجها من البلاد. الأمر يشبه البحث عن أشخاص يعانون من النسيان وجدوا نفسهم في بلد جديد. لن يعرفوا إلى أين يعودون. هكذا، أيضاً تُسلب القطع الأثرية، لكنه يكون استلاباً مضاعفاً في هذه الحالة. تصل القطع المسروقة إلى البلد الجديد وهي تفتقد لأيّ معلومة عن حياتها السابقة في منشئها الأوّل، وهكذا يتمّ تداولها في سوق الآثار السوداء التي تعدّ التجارة العالميّة الأكبر بعد تجارة السلاح والمخدّرات. انقضاء الحرب وتوقّف العمليّات العسكريّة ليسا إلا البداية. بداية البحث عن الآثار المنهوبة في طريقها بين المهرّبين والسوق السوداء، والمزادات والجامعين الفنيين. التجربة اللبنانية في نهب الآثار، هي الدليل الأبرز على ذلك، خصوصاً ما وصلَنا قبل ثلاث سنوات فقط من قطع أثريّة كانت قد سُرقت خلال الحرب الأهليّة.
عمل موزاييك يعتقد أنه من حلب، عرض للبيع على فيسبوك


أحد الأعمال العراقية المستعادة بعد سرقتها إثر الاحتلال الأميركي

بخلاف تدمير الآثار الذي يحدث على مرأى من العالم، وقد فاخر به تنظيم «داعش» في شرائط مصوّرة، فإن تهريبها وسرقتها يحدثان في الأروقة الخلفيّة. كلّ العالم شاهد تفجيرات آثار تدمر السورية، في حين كانت تتم صفقات القطع الأثريّة وتهرّب في الخفاء، باتجاهين شمالي وجنوبي، عبر تركيا ولبنان، وفق ما تشير إليه الأبحاث حول حركة تهريب الآثار السوريّة. هذا ما يؤكّده أيضاً تقرير صدر أخيراً عن «المؤسسة الثقافية الفدرالية الألمانيّة»، بكشفه أرقاماً صادمة عن كمية الآثار المنهوبة من الشرق الأوسط خلال فترة ثلاث سنوات (بين عامي 2015 و2018). التقرير الذي أعدّه باحثون من معاهد ثقافية ألمانية عدّة يأتي ضمن مشروع ILLICID الذي أطلقته الوزارة الألمانية الاتحادية للتعليم والبحوث قبل سنوات، بدعم من اليونيسكو، كمشروع بحثي متعدّد الاختصاصات يركّز بشكل خاص على الإتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية من العراق وسوريا. ثمّة نتائج عدّة مقلقة يتوصّل إليها التقرير، إذ ينطلق بداية من ألمانيا كمركز أساسي للإتجار الدولي غير القانوني بالتحف والقطع الأثريّة، ليتوصّل إلى أن 98% من تلك الآتية من شرقي البحر المتوسط لم يتم التحقّق منها أو من معلوماتها، أي أنها تعدّ أعمالاً مهرّبة نُقلت بطريقة غير شرعيّة. في المقابل، تم التعرّف إلى هويّة 2.1% فقط من هذه القطع.

واحدة من القطع الأثرية العراقية المستعادة بعد سرقتها خلال الاحتلال الأميركي للعراق

الدراسة استندت إلى مسح وفحص 6000 قطعة، كانت قد عُرضت للبيع في ألمانيا وتمّ تداولها على المنصات الإلكترونية وكتالوغات المزادات وفي المعارض التجاريّة. معلومات قليلة تمّ تثبيتها، منها أن هذه اللقى الأثريّة وصلت من لبنان وسوريا وإيران وفلسطين المحتلّة والعراق ومصر والأردن وقبرص وتركيا. لكن حوالى 40% منها يُحتمل أنها جاءت من العراق وسوريا. ما يصعّب من أمر التحقّق من البلد المصدّر، هو أن القطع الأثرية تعود إلى الممالك القديمة التي احتلّت أكثر من بلد، مثل القطع الرومانية على سبيل المثال التي لا يمكن التأكّد من أين أتت تحديداً، بسبب اتّساع مساحة المملكة الرومانية.
والآن بعدما بدأت ألمانيا بتتبع اللقى المنهوبة الموجودة ضمن حدودها، فإن التقرير يثير، بطريقة أو بأخرى، قضيّة الآثار المهرّبة من سوريا والعراق إلى كلّ أنحاء العالم، والتي لم تصل إلى أيدي الباحثين بعد.
هل يعني صدور تقرير كهذا أن ألمانيا هي وحدها المعنيّة بأمر السرقات من بين كلّ دول العالم؟ إنها مجرّد نقطة استقطاب أسياسيّة من دول كثيرة تنشط فيها تجارة الأعمال المهرّبة. في حديث مع Artnet، يشير المحقّق الثقافي الهولندي آرثر براند إلى الأسباب التي تجعل من ألمانيا نقطة مركزية في تجارة الآثار المهرّبة، منها تقليدها القديم في جمع الأعمال الفنية، وقوانينها الصارمة التي تحمي جامعي هذه الأعمال، ما يصعّب من مهمّة ملاحقتهم.
سوق الآثار السوداء تعدّ التجارة العالميّة الأكبر بعد تجارة السلاح والمخدّرات


لكن الأهم من ذلك، هناك اللاجئون الذين وصل عدد كبير منهم إلى ألمانيا في السنوات الماضية، والذين نقلوا معهم أعمالاً وقطعاً فيما لا يزالون يسهمون في عقد صفقات التهريب حتى الآن. وهنا، لا ننسى المزادات العالميّة، التي تعدّ سوقاً سوداء لكن علنيّة وشرعية بطريقة أو بأخرى. يوجّه براند مباشرة أصابع الاتهام إليها، مؤكّداً أنها تصرف النظر معظم الأحيان عن الأعمال المسروقة، طالما أن جامعي الأعمال الفنية يريدون شراءها.
لا يقدّم التقرير جديداً في استنتاجه بأن معظم الآثار المسروقة جاءت من منطقة الشرق الأوسط، ولا أن المنطقتين اللتين تعرّضت آثارهما للاستباحة هما سوريا والعراق خلال حروبهما الأهلية. تقارير سابقة في السنوات الماضية، رصدت حركة تجارة الآثار وتهريبها، وتوصّلت إلى أنها نشطت من المناطق الأثرية التي كان يسيطر عليها تنظيم داعش في سوريا والعراق، بعضها ما كان يتمّ العثور عليه في أسواق لندن ومزاداتها. وهذا التقرير الذي يعدّ وثيقة أساسيّة، هو الخطوة الأولى للبحث عن الآثار المسروقة، ربّما عبر سنّ القوانين لاستعادة هذه اللقى التي كانت تُباع بهدف تمويل تنظيم داعش وحركات جهاديّة أخرى استخدمت أساليب مؤذية في التنقيب عن الآثار مثل القنابل والقذائف التي تلحق الأضرار بالقطع.

معظم الآثار المسروقة جاءت من منطقة الشرق الأوسط


يقترح التقرير بعض الخطوات لضبط هذه التجارة. منها، تنظيم منتدى للبائعين في سوق الآثار لوضع مبادئ توجيهيّة لاتّباعها في عمليّاتهم التجاريّة، فضلاً عن إنشاء قاعدة بيانات للسلع الثقافية والأثرية، عبر نشر المعلومات المتاحة عن القطع ومصدرها، ما يسهّل من أمر التوصّل إليها، خصوصاً أن البحث عن الآثار يفتقر إلى توثيق، ويصعب الوصول إلى أي معلومات عنها، بخلاف اللوحات والأعمال الفنية التي تظهر على قواعد بيانات مثل موقع Art Loss Register الذي يبيّن الأعمال المسروقة والمزيّفة. حتى يجيء الوقت لذلك، ربّما يجب ملاحقة المزادات العلنية كسوذبيز وكريستيز التي تبيع هذه الأعمال، وتتغاضى عن منشئها، مشجّعة بذلك على سرقتها وفق طلبات جامعي الأعمال الأثرية.



تهريب في زمن الحروب
حالتا العراق وسوريا، هما مجرّد حلقة لما حدث في مناطق مشتعلة أخرى. السنة الفائتة، أفضى تحقيق لـ موقع Live Science إلى أن حوالى 100 قطعة هُرّبت منذ سنة 2011 من اليمن. وخلُص إلى أن هذه الآثار التي بيعت في أميركا والإمارات وأوروبا، كان بعضها قد سُرق ما قبل الحرب، وبعضها الآخر بين عامي 2015 و2018، حيث هُرّب من السعودية إلى أميركا. هذا ما حصل خلال الحرب الأهلية في لبنان حين تولّت الميليشيات بيع الآثار وتهريبها من المواقع التي كانت تسيطر عليها. الأمر لا يقتصر على الشرق الأوسط، إذ يشمل أيضاً يوغوسلافيا خلال الحرب الأهلية بداية التسعينيات، فقد تحوّلت متاجر التحف الأثرية إلى أمكنة لغسل الفن والآثار المنهوبة. حركة نمور التاميل لجأت أيضاً إلى بيع الآثار نهاية التسعينيات لتمويل حربها في سريلانكا. وفي الفترة نفسها قام جهاديو طالبان أيضاً بسرقة وتهريب الأعمال الأثريّة الأفغانيّة.