زيد قطريب*الحرب تبلغ عامها الثالث، بعينين وحشيتين ووجه معفّر بالدماء! صورة لا يمكن أن تعبر عنها كلمة «خلصت»، ولا الانعطافات التي حدثت خلال مئات من الأيام عندما كانت بمثابة تمرينات ثم تحولت إلى معادلة قدرية جعلت الدم يتغذى على الدم! كأن الخراب كبر اليوم وشبّ عن الطوق ليغدو أكثر حرفية وفداحة، في حرب أكثر ما يُرعب فيها أنها لن تبلغ سن الرشد قبل أن تقضي على من تبقى من أسماء الأصدقاء في قائمة الهاتف أو الفايسبوك أوالحيّ، في أكبر عملية لمسح جغرافيا النتوءات الاجتماعية والذهنية التي تحولت هي الأخرى إلى جنازات جعلت من تبقّى يدفنون كل يوم جزءاً منهم في ما يشبه أسطورة جديدة في مهارات الفناء!

وإذا حسبنا أنه إلى جانب كل خراب أو قتل، يوجد نص كامن في الظل، يمكننا أن نتخيل تلك اليوتوبيا الخرافية التي اخترعها شعراء في موازاة تراجيديا الفداحة. على الأقلّ، كي يتمكنوا من الاستمرار فوق خطّ الموت، وبأقلّ ما يمكن من حياةٍ راحت تتقلص وتنحسر لصالح دراكولا تناسل وأنجب أطفالاً شرهين بكامل معداتهم ومسوغاتهم لتظهر الحرب في حقيقتها كأنها نص مقابل نص أو نصوص مقابل أخرى. نصوص مدعومة بكل الماورائيات و«الأماميات»، وأخرى غير قادرة سوى على استخدام كاف التشبيه وحروف العطف. تلك المنازلة غير المتكافئة من حيث الخسائر والفتك، ولدت على الجانب الآخر قبائل من الأشعار والروايات التي تنمو ببطء في شهيق الحرب من دون أن يجرؤ على إعلانها أحد إلا في ما ندر. حرب موازية أيضاً حتى على صعيد المصطلحات، راحت تنشأ بين ما يسمونه مثقف الداخل والخارج حول سلامة المفردة. هل نسمي هذه حرباً أم مؤامرة، أم إنها ثورة انعطفت وضلت طريقها لينكشف المشهد على مكنات تعمل ليل نهار على رفد ذلك الأوار بالبنزين اللازم ليبقى مشتعلاً حتى لو وصل الأمر إلى هدم المعبد وقتل الآلهة وتدمير المسرح مع الجمهور؟
من المؤكد أن أحداً من السوريين لن يشعل شمعة الحرب في سنتها الثالثة، أو يغني «سنة حلوة يا جميل». اللهم إلا إذا تحدثنا عن المسترخين في أكناف البذاخة والعيش الرغيد الذين تحولوا إلى معلقين في مباريات عالمية لا يعنيهم فيها سوى أن تستمر بأشواط إضافية ما دام وابل الأهداف يخترق شباكاً أخرى، خصوصاً إذا كان تمديد المباراة يعني مزيداً من السمسرة وقبض الأموال والتهام البوشار آخر السهرة أمام شاشات التلفزيون. والأسوأ في كل ذلك ربما، هو مجموعة السطوات التي ولدت في هذه المرحلة وشكلت عبئاً على المثقف إذا فكر أن يغرد خارج حماسة «استاد» الجمهور. الحرب التكنولوجية شحذت سكاكينها في العتم سلفاً، وهي جاهزة للانقضاض على صاحب الدريئة إذا تورط وأطل برأسه أمام المدى المجدي لسلاح المنهمكين بالتصفيق على المدرجات أو داخل الملعب. المطلوب هنا، أن تشارك ولو بشتيمة أو تخوين تسوقه عبر تعليق صغير مثل الأوراق الثبوتية أو الكفارة التي تبقيك إلى حين في مأمن من الطعن علناً في الصدر! هكذا يبدو الأمر ببساطة كلما ارتفعت حرارة الحرب وتقدمتْ في العمر لتصبح أكثر مهارة في الإلغاء والسفك. كأن عملية تحويلك إلى نص مهادن متواطئ وهزيل، مسألة لا يختلف عليها أحد سوى في الملكية النهائية التي ستؤول إليها قصيدتك إذا افترضنا أنك شاعر أو مسرحيّ أو مدمن طواحين هواء!
كبرت طفلة الحرب، وتحولت إلى أرشكيجال ضخمة على باب العالم السفلي، في يدها منجل هائل تقطر منه الدماء، وفي عينيها موت سحيق يلتهم كل شيء. هكذا هو المشهد، حتى تصدق الأسطورة فيزهر أمل ولو هزيل في حقول الدم!
* شاعر سوري