سيتعرّف المشاهد العربي إلى نفسه من خلال التاريخ، وسيحيك قصته الأثيرة بعيداً من الشاشات. هذا ما توقّعه معظم المهتمين والمتابعين للدراما العربية منذ أن أضرم محمد البوعزيزي النار في جسده وأشعل زمن الربيع العربي الذي سرعان ما تحوّل خريفاً مغمّساً بالدماء.
وسط الترقب والعدوى السريعة في الوطن العربي، حصلت المعجزة السورية بعدما تعبت كاميرات الإعلام وهي ترصد ساحات فارغة في دمشق كان يُفترض أن تمتلئ بالمتظاهرين وفق دعوات متكررة على الفايسبوك. لكن لم تغب شمس الـ 15 من آذار 2011 حتى كان السوريون يتناقلون فيديو رديء الجودة نُشر على يوتيوب لمجموعة من السكان والعاملين في حي الحريقة الدمشقي العريق وهم يهتفون بصوت واضح «الشعب السوري ما بينذل». وما هي إلا أيام حتى اندلعت أحداث درعا وطغى صوت الرصاص وكرت سبحة الاحتجاجات في المناطق السورية. وبينما كان النظام يواجهها بقمع ممنهج ويعتمد على نجوم التلفزيون لمخاطبة الشارع وتهدئته، وقعت الدراما في حيرة. كيف تواصل النجاح الذي بدأته منذ عقد من دون أن تغوص في إشكالية الثورة؟ ومَن ذاك الذي يتجرأ على الغوص في وحل ما يحدث، مجابهاً النظام الذي يفرض سطوة وسيطرة أمنية ومونة واسعة على غالبية نجوم الدراما؟ ثم كيف لهذه الدراما أن تستمر وقد كان أحد أبرز أسباب نجاحها تصديها للواقع السوري وملامسة قضايا الناس، لتصل إلى فضح ممارسات المؤسسة الأمنية وتجاوزتها؟
وسط حالة التردد وضياع البوصلة، اختار معظم صنّاع الدراما سياسة النأي بالنفس. في موسم 2011، قدّموا حوالي 28 عملاً لم يتطرق سوى أربعة منها إلى الأزمة أبرزها «خربة». رغم نجاح العمل الكوميدي، إلا أنّ المسلسل بدا ساذجاً في مقاربة الأزمة. وهناك لوحات من «بقعة ضوء 8»، ثم حالة إسقاطية في «الولادة من الخاصرة1»، فيما تصدت الرقابة للعمل الكوميدي «فوق السقف» فأوقفته بعدما دخل في عمق القصة وصوَّر تظاهرات بشكل مباشر لكن بطريقة كوميدية ساخرة.
على أي حال، كان موسم 2011 بمثابة إعلان عن الاستمرارية في كل الظروف ولو ظلت الصناعة السورية الأكثر رواجاً بعيدة عن الواقع. في العام التالي، طغى صوت الرصاص على الحراك الذي بدأ سلمياً وازداد الانقسام بين الشعب السوري، واتسعت الخلافات في صفوف الفنانين وانتشرت قوائم العار والشرف من طرفي النزاع. مع ذلك، أنتج السوريون حوالي 23 عملاً وقد بدأت الجرأة تتضح في المادة المقدَّمَة. لم يعد ممكناً غض الطرف عما يحدث. بعض المحاولات جاءت كسيحة وعجزت عن ملامسة الظرف الطارئ وبعضها نجح بشكل نسبي. هكذا، قدم الممثل الشاب يامن حجلي تجربة «خلصت» ليحكي في حلقات قصيرة عن تعليق الشعب السوري آماله على نهاية الأزمة. تلك النهاية التي وعدته بها مؤسسات النظام الإعلامية من خلال لازمتها الشهيرة «خلصت» التي تحوّلت إلى شعار بعد فترة وجيزة من اندلاع الاحتجاجات. وحاول سامر المصري من مكان إقامته في دبي مراقبة الحدث بطريقة إسقاطية في مسلسله الكوميدي «أبو جانتي2»، فاتُّهم بالتهريج والسطحية. وبنت رشا شربتجي في «الولادة من الخاصرة2» رؤية استشرافية للحالة الاحتجاجية التي زحفت باتجاه التسليح. لكنّ أكثر الناجحين كان «بقعة ضوء 9» الذي لامس بجرأة وواقعية حال السلطة والمواطنين. هكذا، تحولت لوحة «أنت أو لا أحد» إلى حديث الشارع. ولاحقاً، صار الحديث عن أعمال تلامس الواقع مطلباً ملحّاً لدى الجمهور. جاء رمضان 2013 ليقدّم حوالي 21 مسلسلاً أفردت هامشاً أكبر للوضع السوري. وُصف بعضها بأنّه جزء من عملية تسييس الفن وتطويعه في خدمة الأطراف المتصارعة. حتى أن المحطات الفضائية راحت تشذب المسلسلات وتحذف ما يخالف سياستها. هذا ما فعلته محطة «أبوظبي» مع مسلسل «الولادة من الخاصرة 3» (منبر الموتى) لتخفي أي مشهد يظهر ولاء الجيش السوري للوطن أو صدق بعض ضباطه، فيما وصلت إلى تلفزيون السوري قائمة مؤلّفة من أسماء يحظَّر ظهورها على الشاشة الوطنية. واتُّهم نجدت أنزور بالترويج للنظام في مسلسله «تحت سماء الوطن» الذي أنتجته «المؤسسة العامة». أنتجت الأخيرة أيضاً «وطن حاف» وهو محاولة كوميدية للدخول في عمق معاناة السوريين، فيما انفرد مسلسل «سنعود بعد قليل» برصد التداعيات الاجتماعية على المهجّرين السوريين في بيروت. وسط تلك الحالة، سمعنا أصواتاً هنا وهناك عن محاولات لنجوم المعارضة السوريين لإنجاز مسلسلات تخصهم وحدهم. وإذا بفؤاد حميرة ينجز مسلسلاً على الانترنت بعنوان «نساء ورئيس» لم يتجاوز عتبة التهريج، متبنّياً أكثر الروايات سطحية وسخافة ضد النظام السوري.
وبعد، هل يمكن القول اليوم إنّ هامش الحرية اتسع في الدراما السورية؟ الملفت أنّه قبل الأزمة، كان «بقعة ضوء» يمثل هامشاً واسعاً لانتقاد السلطة والقبضة الامنية بسخرية. وفي ما يخص بقية الأعمال، كانت شركات الإنتاج تغامر في إنجاز مسلسلات تزعج الرقيب، لكنه لم يكن يستطيع إيقافها، خصوصاً أنّ نجوم الدراما كانوا قادرين على التواصل مع أرفع المسؤولين وأخذ الضوء الأخضر منهم. لكن بعد «الثورة»، انخفض هامش الحرية بسبب ظهور تنظيمات مسلحة متطرفة في تأييدها للنظام هددت نجوم الدراما وتوعدتهم بسوء المصير إن كان في مسلسلاتهم ما لا يروق لهم.
لكن الخسارة الأكبر كانت في الموت المتتالي الذي طال نجوم الفن السوري. حصدت النيران المندلعة أرواحاً كثيرة على رأسها الكوميديان الكبير ياسين بقوش، والممثل الشاب محمد رافع، والممثل طارق سلامة، وعدد من الفنيين، إضافة إلى بقاء مجموعة من الفنانين والإعلاميين رهن الاعتقال كالسيناريست عدنان الزراعي والمخرج المسرحي زكي كورديللو وابنه مهيار.