التباين الحادُ في مواقف وسائل الاعلام إزاء قضية ما ليس أمراً جديداً. وربما كان هذا التباين أحد أهم مقومات الإعلام. ليسَ منطقياً أن يرى الجميعُ حدثاً واحداً بعينٍ واحدة. لكن التباين المحمود حتماً هو ذلك الناشئ عن اختلافٍ في الرؤى المهنية، لا المنبثق عن اصطفافات سياسية. وبات من المسلم به أنّ الأزمة السورية تحولت إلى واحدة من أعقد المسائل التي تجاوزَ فيها التناول الإعلامي مرحلة التباين المهني، لينخرط في أنفاق طويلة متوازية، لا يبدو ثمة أمل في تلاقيها.
خلال ثلاثة أعوام هي عمر الأزمة، لا نكادُ نلمحُ اختلافاً فعلياً في طريقة تناول الإعلام للشأن السوري، خصوصاً وسائل الإعلام العربية. إلى حدٍّ يمكن معه تشبيه الـ 15 من آذار (مارس) 2011 بموعد انتظام طلاب مدرسةٍ ما في الطابور الصباحي، حيثُ يكون موقف كل تلميذ محدَّداً وفق توجيهات «الناظر». وأي محاولة لتغييره من دون توجيهات جديدة، تضع التلميذ تحت طائلة العقوبة. في جوهر الأمر، يبدو هذا «النهج» شديد الإخلاص لطبيعة العمل الإعلامي في المنطقة العربية، حيث الاختراقات نادرة الحدوث، والمواقف السياسية بوصلة ثابتة لوسائل الإعلام، بما فيها تلك التي يُصدِّرها القائمون عليها بوصفها «ملكية خاصة ومستقلة».
على هذا المنوال، اصطفّ الإعلام العربي (في معظمه) ضمن نسقين أساسيين: «مع النظام»، و«ضد النظام». رفع معسكر «الضد» السقف عالياً، بل ربما ألغاه، لتتصدر شعارات «الحرية، والديمقراطية» واجهاته، بما في ذلك الوسائل الرسمية. تبدو الحالة (خصوصاً في الإعلام الرسمي) غريبة وغير مألوفة بالنسبة إلى إعلام اعتاد تمجيد أصحاب الشأن، و«الذوات الملكية، والأميرية»، ولا تكادُ علاقته بما يدور في الدول العربية «الشقيقة» تتجاوزُ إعداد تقارير مطولة عن «العلاقات التاريخية» بين كل دولتين يعتزم «أصحاب الجلالة، والفخامة، والسمو..» فيهما، تبادل الزيارات.
وغير بعيدٍ من هذا، تخندق «معسكر الـ مَع» في صف «القيادة الحكيمة». وقرّر نبش «الأرشيف الأسود» لـ «الإخوة الأعداء»، ضارباً عرض الحائط «عمق العلاقات التاريخية» التي دأب أيضاً على التغني بها، مثله في ذلك مثل سابقه. وبين هذا وذاك، تحول الشعب السوري إلى لعبة شدّ، تتقطع فيها الحبال، ولا يهتز رمش للمتجاذبين. وسط هذه المعمعة، وجد إعلام عربي ثالث نفسهُ حائراً. إعلام دأب أساساً، وقبل موجة «الربيع العربي» على القفز بين الحبال. ولا يمكن له في حال من الأحوال أن يرضى بالخروج من «السوق السورية». وكتحصيل حاصل، اختار هذا الإعلام تناول الشأن السوري وفق سياسة «ضربة على الحافر، وضربة على المسمار» من دون أن ينتبه (أو ربما من دون أن يكترث) إلى أنّ كلّاً من الضربتين ستترك أثراً دامياً على الشعب السوري.
بالانتقال إلى استعراض تعاطي الإعلام الغربي مع الأزمة، لن تكونَ النتائج مختلفةً من حيث النتيجة، ولو اختلفت من حيث الشكل. يكاد «الربيع العربي» أن يكون المناسبة الأولى التي يفصل فيها هذا الإعلام بين الشعوب العربية، وأنظمة الحكم.
في الشأن السوري على سبيل المثال، بقي تناول الإعلام الغربي لسنوات طويلة يختصر البلد بصورة الرئيس بشار الأسد، وزوجته، محتفياً غير مرة بهما، كنموذج خارج عن الصورة النمطية المعتادة للحكام العرب. ويمكن تلمس هذه الحفاوة حتى مع بدايات «الربيع العربي». ها هي مجلة Vogue مثلاً، تحتفي عبر تقرير مطول نُشر في 25 شباط (فبراير) 2011 بـ «أسماء الأسد... وردة في الصحراء». قبل ذلك بأسبوعين، كانت صحيفة Wall Street Journal تحتفي بالرئيس الأسد على طريقتها، مبرزةً تعليق المصورة التي التقطت صوراً للأسد خلال الحوار الشهير الذي أجرته الصحيفة معه. يومَها، أفردت الصحيفة حيزاً خاصاً لانطباعات المصورة كارول الفرح: «لا أستطيع أن أصدق. كنت ألتقط صوراً للرئيس الأسد، في مكتبه، عن قرب، لكنه كان كما يتضح عبر الصور، كان ذلك حقيقياً».
لكن على نحو مفاجئ، بدا أن الإعلام الغربي اكتشف فجأة وجود الشعب السوري. وبدءاً من آذار 2011، بدأت صورة الأسد تتحول هناك إلى «دكتاتور»، لتكرّ السبحة، وصولاً إلى تقديمه كـ «سفّاح». وبالتزامن، كان التحول يطال صورة زوجته، ليتحول التهليل لأناقتها، إلى مهاجمة لـ «بذخها»، وتفرد الـ «غارديان» البريطانية على سبيل المثال، حيزاً لنشر «تسريبات إلكترونية عن شراء أسماء الأسد حذاءً بـ 7 آلاف دولار».
ربما كانت وكالة «رويترز» صاحبة قصب السبق في تلك التحولات. الشأن السوري الذي قلّ أن يحضرَ على صفحاتها قبل الأزمة، إلا في سياق الحديث عن المسائل الإقليمية، أو عبر تحقيق من طراز «الخبز الناعم يلقى رواجاً كبيراً في سوريا خلال رمضان» (نُشر في رمضان 2010). هذا الشأن تحول فجأةً إلى خبرٍ أول، أخذ على عاتقه منذ بدء الأزمة تشريح المجتمع السوري طائفياً، سابقاً بذلك تكفيريي المعارضة السورية.
هكذا، قرأنا في سياق خبر نشرته بتاريخ 24 آذار 2011 (بعد أقل من عشرة أيام على اندلاع الأزمة)، عبارات مثل: «والأجواء يوم الخميس مختلفة تماماً عن عام 1982 (...) عندما كانت الأقلية العلوية تحكم قبضتها على البلاد». و«وردد المحتجون في درعا وأغلب سكانها من السنة هتافات ضد تحالف بلادهم مع إيران الشيعية».
آذاران سوريّان، تفصل بينهما ثلاث سنوات، وعشرات الآلاف من الضحايا، وأضعافهم من المشردين، ومئات آلاف المقالات، والساعات التلفزيونية في لعبة يُمثل الشعب السوري الحلقة الأضعف فيها، وتتحول الحقيقة خلالها إلى كرة تتقاذفها الأرجل.