دمشق | ليس من المبالغة القول إنّ الفن التشكيلي هو أعظم نتاجات الانتفاضة/ الحرب السوريّة. كما يصحّ القول بشيء من التعميم إنه كان الثمرة الأكثر ديمقراطيّة لهذه المأساة التي ستدخل عامها الرابع. ورغم ما قد تحمله العبارة من تبسيط، إلا أنّه يمكن اعتبار أنّ «ديمقراطية الفن التشكيلي» لا تحتاج إلى أكثر من حساب على الفايسبوك، ودرجة ما من الموهبة، وستتكفّل الذائقة المختلفة بالضرورة، والتسويق الرائج أخيراً لكل ما هو سوري بما تبقّى. والأهم هو هذا الحضور الفني الهائل للمعارض الدائمة في مواقع التواصل الاجتماعي، كأنه إشارة خافتة إلى أنّ زمن «الشلليّة» والمحسوبيات قد انتهى بدرجة ما.
ورغم التفاؤل الذي تغرق فيه الجملة الأخيرة، إلا أنّه لا بد من التأكيد بأنّ هذه «الديمقراطية» ذاتها، كانت (وستبقى إلى فترة لا بأس بها) السبب الأكبر في إعادة البضاعة الفنية القديمة المرافقة للشعارات الكبيرة ودكتاتوريّتها. إنّها اللوحة الموغلة في المباشرة التي (رغم أهميتها التوثيقية) ستشكّل عبئاً من نوع آخر، عبء الدكتاتورية الجديدة.
دكتاتورية الثورة «الجديدة» التي تدّعي بأنّها ــ في وجه من وجوهها على الأقل ــ مناهضة لـ «الثورة» البعثيّة القديمة عام 1963 بكل مآسيها، وبالأخص المأساة الثقافية. يمكن اعتبار أنّ «ديمقراطية الفن التشكيلي» استمدّت شرعيّتها وانطلاقتها من أولى «الخربشات الثورية» على جدران المدن مع اندلاع الانتفاضة. كانت تلك الخربشات إيذاناً برحلة فنية جديدة صارخة، بعد عقود من الصمت حيث كرّست ثقافة الجدران الكاكية الجوفاء، حيادية اللون.
إلى إن استدعى الأمر وجود مناسبة (وطنية أو قومية) فتتلوّن حينها الجدران «عفوياً» بألوان العلم السوريّ أو الشعارات القومية.
وليس من المصادفة ملاحظة عودة هذه «الموضة»، أي رسم العلم السوري على جدران وأبواب المحلات التجارية، وكأنها إشارة ضمنيّة إلى أنّ قبضة السلطة عادت بقوة، وبأن «فسحة الديمقراطية» التي شهدت كراً وفراً بين الشعارات والشعارات المضادة طوال ثلاث سنوات، ستعود إلى زيّها العسكري الصارم، ولونها الموحّد.
لا يتّسع المجال لتعداد أسماء كل من رسم خلال السنوات الثلاث الماضية، سواء كان قد ولد فنياً في هذه الانتفاضة، أو كرّس تجربته بصبغة جديدة، أو تمّت استعادة أعماله القديمة. ولد مئات من الفنانين خلال ثلاث سنوات، ويكفينا تأمل بسيط في هذا الرقم المرعب لندرك كمّ الأعمال القادمة، بجيّدها وسيّئها الذي سيكون «كابوساً» حقيقياً لأي متابع أو ناقد فني. آلاف اللوحات الكاريكاتورية، ومئات أعمال الـ «ديجيتال آرت»، ومئات أقل من لوحات الأنماط التشكيلية الأخرى، من دون أن ننسى عشرات المنحوتات.
كلّ هذه الأرقام تستدعي سؤالاً مهماً: من أين ولدت كل هذه الأعمال؟
وكما كان لمواقع التواصل الاجتماعي فضلٌ في انطلاقة هذه الأعمال، كان لها فضل تجميعها في انتظار تقييم نقدي ينبغي ألا يتأخر. لم يقتصر الأمر على «الصفحات الاختصاصية» في الفايسبوك، بخاصة صفحة «الفن والحرية» التي تم إنشاؤها مع اندلاع الإنتفاضة لتواكب طوفان الأعمال الفنية المتوالدة يومياً، بل ظهرت أيضاً مواقع إلكترونية فضّلت «الاتجاه المغاير» في التوثيق، بعيداً عن فوضى السلاح والحرب اليومية، وبدأت بتوثيق المبادرات المدنية للانتفاضة، بكل اتجاهاتها الإبداعية، مثل قسم «مبدعون سوريون» في موقع «Syria Untold حكاية ما
انحكت».
في هذه الصفحات والمواقع، سنتابع معظم الأسماء الفنية التي ظهرت خلال السنوات الماضية، بـ «فوضى» جميلة، يتجاور فيها المبدعون على اختلاف تجاربهم ومدارسهم وأجيالهم.
هل سيتكفّل الزمن بغربلة هذا الطوفان الفني السوري؟ لا إجابة جازمة. الأمر مرتبط بمدى التسويق المرتبط أساساً بأجندات سياسية بالضرورة، لا سيما بعد ولادة «وباء» المنظمات غير الحكومية.
لكن يمكننا ملاحظة أن الاهتمام بدأ ينحسر عن «اللوحة اليومية» في الكاريكاتور، لصالح الأعمال «الجادة» بمدارسها المختلفة لا سيما الـ «ديجيتال آرت» الذي شهد تطوّراً لافتاً كماً ونوعاً خلال السنتين الماضيتين على وجه الخصوص. هل الأمر مرتبط بتغيّر الذائقة الفنية أم بتغيّر الميل السياسي؟ لا يمكن الجزم، لكن يمكن القول بثقة بأنّ اتساع «ديمقراطية الفن» سيكون هو السبب الأكثر أهمية في الغربلة. أشعلت حرية الجدران شرارة النار الأولى ضمن المستنقع السوري، ولعل امتدادها الافتراضي في جدران التواصل الاجتماعي سيسهم في دوام ألقها. في البدء كان اللون، وربما سيكون هو الختام.