18 كانون الأول (ديسمبر) 1927، كتب الفيلسوف وعالم الاجتماعي الألماني فالتر بنيامين (1892-1940) في مقالة بعنوان «الملامح الرئيسية لانطباعي الأول عن الحشيش»: «بالنسبة إليّ، كان الأمر كالتالي: نفور واضح من التحاور حول أمور الحياة العملية، المستقبل، التواريخ، السياسة». إن الحشيش ليس مجرّد مخدر يستعمله أشخاص من أجل النشوة اللحظية الفارغة. على مرّ العصور، كان الحشيش طريقاً لتطور الوعي بكسر حدوده وبناء أفق جديد له، وهذا ما دفع العديد من الفلاسفة والأطباء الأوروبيين إلى تجريبه حتى على أنفسهم والكتابة عنه.يعبّر عن هذه الفكرة فيلم «ثرثرة فوق النيل» (1971 ــ مقتبس مِن رواية بالعنوان ذاته لنجيب محفوظ ـ إخراج حسين كمال)، حيث لعب الفنان عماد حمدي دور أحد أبطال الرواية «أنيس أفندي زكي» عاشق الجوزة المحشية بالحشيش، وخادم المزاج لأجل نومة مجانية في عوامة الشلة. وهذه الشلة تعبّر عن أغلب فئات المجتمع المصري آنذاك مثقفين وبورجوازيين وموظفي البيروقراطية المتكونة حديثاً. وقد شكل المونولوج الداخلي شخصية عماد حمدي (أنيس زكي) حيث يعبر عن ثقل وعيه الوجودي بالحياة في حوار دائم مع نفسه، ويبدأ بنقد السلطة والمجتمع والحياة والقيم، طارحاً الأسئلة وباحثاً عن الإجابات من دون أن يسمع أو يدري أحد عن هذا الصراع الداخلي.

تناول وائل غنيم ما جرى في كواليس ثورة يناير من ركوب الإخوان الثورة، وانحطاط المُعارضة المصرية

ومع مرور الزمن، يبدو أن وسائل التواصل الاجتماعي قد حلّت محل المونولوج الداخلي أو الحوار الصامت مع النفس، حيث نحن كجماهير كما سمعنا ضمير ووعي أنيس أفندي من دون أن يدري، نسمع أخيراً ضمير ووعي وأفكار وائل غنيم، لكنه يدري هذه المرة.
وقد عاد إلى الواجهة وائل غنيم أحد أهم وجوه الثورة المصرية الشابة التي اندلعت في كانون الثاني (يناير) 2011 وأطاحت برأس النظام المصري محمد حسني مبارك الذي بقى في السلطة قرابة 30 عاماً. أعاد وائل تفعيل صفحة «كلنا خالد سعيد» التي برز اسمها بعد مقتل الشاب خالد سعيد على يد قوات الأمن المصرية عام 2010 كإحدى أهم منصات التواصل الاجتماعي للدعوة إلى تظاهرات ضد قوات الأمن المصرية وإسقاط النظام.
عُرف وائل غنيم بشخصية الناشط الثوري التقليدي الداعي للديمقراطية والمحب للجميع والحالم بمستقبل أفضل لبلاده قبل أن يخفت نجمه مع صعود الإخوان المسلمين إلى السلطة ثم سقوطهم وفشلهم السريع في الحكم واستيلاء الجنرال عبد الفتاح السيسي على عرش مصر. واستمرّ صمت وائل لسنوات منذ 2013 حتى عاد أخيراً بشخصية جديدة نشيطة داعياً إلى شكل جديد من التغيير، تغيير النفس والذات على حد تعبيره.
عبر عشرات الفيديوهات شبه اليومية، يظهر وائل غنيم وفي يده سيجارة حشيش غاضباً، رافضاً لأيّ حوار في المجمل، خصوصاً لو بدأ المُحاور حديثه بخلفية مسبقة عن وائل غنيم الماضي، صاحب الشخصية الرتيبة للشاب المهذب النموذجي الذي يشغل منصباً مرموقاً في «غوغل» إحدى أكبر شركات العالم، ثم الثوري المُلهم. يتحدث وائل بشخصيته الجديدة الأقل تحفظاً والأكثر حِدّة بداية عن ذكريات ثورة 2011 حيث تناول بعض ما جرى خلف الكواليس من ركوب الإخوان الثورة، وانحطاط المُعارضة المصرية. إذ يشير إلى التناقض بين حياتهم الشخصية وما يدعون الناس إليه في المجال العام. وتبدو انطلاقة فيديوهات وائل بمثابة تخلّص مِن عبء سنوات الثورة وذكرى الشهداء ووطأة الاتّهامات بأنه متآمر وأن «ثورة يناير» أرادت تدمير الدولة المصرية.
مع مرور الأيام، ينتقل وائل إلى مرحلة أكثر نشاطاً يمكن أن نطلق عليها «أنا كنت هناك». جملة كثيراً ما يردّدها عندما يجيب متابعيه على تويتر عن كل جملة أو سؤال تقريباً موجّه له. يسرد مراحل تطور شخصيته منذ أن كان طفلاً نشأ في بيئة منغلقة في السعودية، حيث تأرجحت أفكاره بين مختلف الاتّجاهات اليمينية الإسلامية، وكيف كان طالباً ناجحاً ومتميزاً في الدراسة ومرّ بالصعوبات نفسها في التعامل مع الأهل والمدرسة والجامعة التي يمرّ بها أغلب الشباب المتابع له. كما يسرد المراحل الصعبة التي مر بها مثل تفكيره في الانتحار وما تعلمه من هذه التجربة. وخلال مرحلة «أنا كنت هناك»، اعترف وائل بخيانة زوجته وقد انفصلا عن بعضهما أخيراً.
يشكل ما سبق حوار وائل الداخلي مع نفسه متصلاً بجمهوره، مجيباً لا متسائلاً مثل أنيس أفندي، داعياً إلى حل قد لا يلقى قبولاً واسعاً على المستوى الأخلاقي. فمن سيسمع كلام «حشاش» في نظر فئة المثقفين المتحفظين أولاّ والثوار السابقين الذين يطعن وائل في مصداقيتهم، وهؤلاء لهم رأس مال رمزي من مصلحتهم بقاء وائل في خانة الحشّاش المغيّب عن الوعي. فلو خرج كلامه عن هذا الإطار وتم التعامل معه كحقيقة، لسَلَبَ من أيديهم العصا السحرية للتأثير في الجماهير. وكلّما زاد التأثير، زادت حساباتهم في البنوك، أو كما يتساءل وائل: «كيف يمكن لشخص لا يمكنه ترتيب حياته الشخصية أن يرتب حياة المجتمع؟».
ومن هذه النقطة، يعبر وائل غنيم بوضوح عن رفضه لأي ثورة جديدة في مصر، بل اعتذر من مبارك في إحدى التغريدات، كما مدح السيسي واقترح أن يتم تعيينه مستشاراً خاصاً ليتحاور مع الشباب. كما جاء تفعيل صفحة «كلنا خالد سعيد» بشكل مختلف. إذ صارت تؤيد النظام المصري، بعد فترة وجيزة من الإفراج عن حازم غنيم شقيق وائل. وقد ظهر الأخير في فيديو، متّهماً ضابط المخابرات محمود السيسي نجل السيسي باختطاف أخيه، والتحفظ على جوازات سفر أسرته، وأعلن أنه تلقى تهديدات من المخابرات المصرية لوقف بث فيديوهات فيها نقد أو معارضة للنظام المصري القائم.
يعبر بوضوح عن رفضه لأيّ ثورة جديدة في مصر


ذهب وائل غنيم أبعد من هذا. خرج على قناة «مكملين» التابعة للإخوان، متسائلاً عن تمويلها، ولماذا تصرّ الحركة والقناة على المتاجرة بدماء الشهداء؟ وكيف لشخص جالس في إسبانيا (قاصداً المقاول محمد علي) وبعض الإخوان في قطر وتركيا أن يقرروا عن مئة مليون مصري ما يفعلونه، ولماذا تحول رجال الجماعة من ثوار إلى رجال أعمال في تركيا حاصلين على جنسيات دول أخرى؟ لم يتمكن مذيع القناة الإخوانية من جر وائل غنيم لمهاجمة النظام المصري ولا تمكّن مِن تكذيب ما يقوله وائل عن التمويل المخابراتي القطري والتركي للجماعة، ولماذا دولة لا تعرف شيئاً عن الديمقراطية مثل قطر تُصر وتدعم الجماعة تحت مسمى إقامة الديمقراطية في مصر؟ كما اقترح وائل على قطر أن تقيم دولة لجماعة الإخوان. ثم هاجم قناة «مكملين» لتقطيع فيديو اللقاء معه وحذف أجزاء منه، ما جعل اللقاء فكرة سيئة شكلت وضعاً حرجاً لجمهور الجماعة مدّعي الوطنية أو حتى المتعاطفين معها داخل مصر، أو المستائين من سياسة النظام المصري الديكتاتورية بحقّ، ويرون أن التحالف مع الجماعة قد يحقق لهم الديمقراطية رغم اختلاف الآليات والمناهج وتجربة هذا الأمر وتأكد فشله على مدى سنوات طويلة، آخرها التحالف المدني بعد «ثورة يناير 2011» الذي انخرط مع الجماعة قبل ركله خارج الحكومة والبرلمان والرئاسة.
وائل غنيم شخص استثنائي في جميع الأحوال، قديماً وحديثاً، دائم الأسئلة والإجابات، كسر حواجز نفسه قبل أن يخرج ليواجه المجتمع تحت تأثير الحشيش أو بدونه. يهاجم نفسه كما يهاجم الجميع، وقد يقوم بمهاجمة هذا المقال وسبّ كاتبه، لكنه في النهاية يعرض أحد أوجه الحقيقة عن العمل السياسي في مصر. فاليسار أو اليمين، قصير النظر لا يرى أبعد من أنفه، ولا يقف على مكنونات ذاته قبل التفكير في حلول حازمة للمجتمع الذي يعيش فيه. لا يدرك اليسار المصري كما اليمين الذي يرتمي مرات ومرات في أحضان العسكرية المصرية، ماذا يريد: ديمقراطية؟ مرحلة انتقالية ووصاية من الجيش لحماية مدنية الدولة، أم ترك قوى الإسلام السياسي ومواجهتها في ساحات السياسة؟ وهل يعرف الإسلام السياسي كيف يحكم؟ أم يعرف فقط كيف يحشد، وهناك فرق كبير بين الأمرين؟ حشيش وائل غنيم وفيديوهاته قد لا تعجب كثيرين، وخصوصاً متحمّسي الثورات أو تجارها، لكنها في النهاية تحمل فكرة يمكن النظر فيها بعد تنقيحها من بعض الدعابات أو الألفاظ الخارجة التي تجرح شعور بعض المحافظين.
إن لقاء وائل غنيم الجديد مع متابعيه يشبه لقاء قدمي أنيس زكي بالطريق وبالناس بعدما خرج من العوامة المعبأة بالخيالات للمرة الأولى مستفيقاً. فقد يكون الفكر الثوري جميلاً وحماسياً، لكنه قد يكون كارثياً لو لم نفهم متى نكون ثوريين ومتى نتوقف لنفكر ماذا سنفعل بعد أن تنجح الثورة. قد يكون وائل جرس إنذار يجعل أي فرد يفكر أبعد من أنفه قليلاً.