

الناظر في مسيرة قيومجيان، يلحظ حتماً الهاجس الذي يسكنه كصحافي أولاً، وكلبناني يتحدر من جيل الحرب الأهلية. هاجس اعتقد أن حلقة أو مجموعة حلقات تلفزيونية قد تفي بالغرض، إلى أن توسعت الدائرة وبدأ العمل على تجسيد فكرة الصور وأصحابها بين الماضي والحاضر عام 2000. تطلبت الطبعة الأولى (2003 ـــ دار النهار ـــــ تصوير حياة قرانوح) جهوداً حثيثة للغوص في أرشيف ضخم في الصحف والمجلات ومراكز الأبحاث المختصة، وعملاً ميدانياً أيضاً، أجبر قيومجيان على البحث من شارع إلى آخر، وأحياناً من حي إلى آخر، لإيجاد أصحاب الصور، ومعرفة مصائرهم. حاولت الطبعة الأولى من «لبنان فلبنان» (لاقى شهرة واسعة محلياً وعالمياً)، والثانية (2005)، والثالثة (2009)، رسم وجوه مدينة بيروت والإجابة على أسئلتها، وإعطاء القيمة الوجودية لأصحاب الصور كشهود على زمن الخراب والدم، وكمؤرّخين بطريقة أو بأخرى، لتلك الحقبة السوداء من تاريخ لبنان، كي تصبح مرجعاً للجيل الذي ولد بعدها. في الطبعة الرابعة الحديثة (تعاون مع المصور علي شحادة)، يوّجه الكاتب تحية إلى صالات السينما في بيروت وإلى أفيشات أفلام الثمانينيات، كجزء من الثقافة الشعبية التي سادت خلال الحرب، مع توسيع عدسة الكاميرا، كخروج عن صيغة «قبل وبعد» بشكل جزئي، لتشمل صوراً أرشيفية من الثمانينيات، تقابلها مشاهد بانورامية للشارع أو حتى قد تتخطاه إلى لقطات غير مرتبطة بشكل عضوي لكنها تلتقي في الفكرة، كصورة الطفل الشهيرة، الذي كان يحمل بيده بطاقة الهوية (1978- تصوير عباس سلمان)، إثر نزوح الجنوبيين إلى بيروت في فترة الاجتياح الإسرائيلي، تقابلها صورة للطفل خالد ابراهيم عطية يحمل هويته أيضاً، لكن الفارق أنه نازح سوري في لبنان كان في منطقة «الأوزاعي» العام الماضي. وقد التقى الطفلان على تيمة النزوح والهرب من ويلات الحرب.



طبعة كان مقرراً إصدارها في فترة الانتخابات النيابية العام الماضي (مقارنة بين أماكن الحرب وتحوّلها لاحقاً إلى مساحات لصور السياسيين)، في اعتقاد صاحبها بأنها قد تحمل تغييراً في المشهد السياسي، وتكون «محطة مفصلية» كما يلفت في حديث مع «الأخبار»، لكنه ما فتئ أن عدل عن المشروع، لما أفرزته نتائجها: «الانتخابات كأنها لم تحصل»... إلى أن أتى تاريخ 17 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، و«حمّس» زافين لإصدار الكتاب، فمثّلت الانتفاضة الشعبية «المرساة» التي أمسكت بالكتاب، ومنحته نكهة مختلفة.
في كل مشهدية الإصدارات الأربعة، هاجس يسكن الإعلامي اللبناني ألا وهو التحولات التي تحصل في الأماكن والوجوه. ينتقد قيومجيان نكران الأجيال السابقة لها، والتعاطي مع التاريخ كأنه بدأ في الوقت الحالي: «لا يوجد احترام لتغير الذائقة والمزاج، فالمجتمع لا يتقبّل ذلك»، مشبهاً إياه بـ «المحنّط». لذا، لجأ زافين إلى صيغ «ما قبل وبعد وبعد البعد»، محاولاً التقاط هذه التحولات في الوجوه والأمكنة، راصداً التغيرات من جيل إلى آخر، في رصد لهذه الاستمرارية. ولعل الأحداث الكبرى، التي تسرّع هذه التغيرات ــ كما يلفت قيومجيان ـــ سرعان ما تتحول في الوقت عينه، إلى مشهديات «خطرة» كما يقول.
الطبعة الرابعة توجّه تحية إلى صالات بيروت وأفيشات أفلام الثمانينيات كجزء من الثقافة الشعبية التي سادت خلال الحرب
يتمثل ذلك حين يتم التعاطي مع المأساة كأنها لم تحصل، كما جرى في الحرب الأهلية وضحاياها الذي ماتوا «كأنهم لا أحد». من هنا، يمكن استشفاف لجوء قيومجيان إلى هذه السلسلة إن صح التعبير، لإعادة الاعتبار إلى موتى الحرب، ومفقوديها، كما حصل في الطبعة الرابعة، في تخصيصه حيّزاً لهؤلاء ولذويهم، وتوثيقه صورة «أم تيسير» آخر أمهات المفقودين الحيّات، وختمه للملف بصورة عملاقة للمناضلة وداد حلواني، في لقطة تعود إلى العام الماضي، صوّرت في تلفزيون «المستقبل» وبدت على ملامحها علامات الحزن والأسى، كدلالة على ما آل إليه هذا الملف الإنساني العالق منذ أكثر من أربعين عاماً. إضافة إلى الوجوه والقضايا، تحتل الأمكنة مساحات واسعة من الكتاب، الذي يرصد حركة التغيير الحاصل فيها، وحركة المدينة. هكذا، اختار قيومجيان صور انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر) وركز على منطقتي «الرينغ» و«وسط بيروت» (أغلبية الصور هنا تعود إلى زميلنا مروان طحطح). طابع الصور ينحو صوب المشهد الجمالي أكثر منه صوراً آنية من التظاهرات على سبيل المثال. يعلّل الإعلامي اللبناني سبب هذه الاختيارات، بكونه أراد انتقاء «أجمل صور للثورة» تحمل معاني الأيقونية. نسأله هنا: هل استطاعت هذه الصور التعويض عن خيبة رافقته في مرحلة «بعد البعد» التي كان قد وصفها بـ «الحزينة»؟ يجيبنا بأنها مثلت له «الأمل» المرهون بحزن قد تحمله الثورة فـ «الثورة قد تنفّس حرباً لكنها قد تشّرع حرباً أخرى»!