أفسحت استعادة أفلام السينمائي السوري محمد ملص قبل أسابيع في مقهى «الست» في طرطوس المجال واسعاً لتجربة المشاهدة الجماعية والنقاش التفاعلي بين الحضور والمخرج. أمر يكاد يغيب عن المشهد الثقافي السوري، في ظلّ افتقار دور السينما لشعبيتها الماضية، وقلة فاعلية النوادي السينمائية الأهلية، وطغيان المشاهدة المنزلية التي يتيحها توفر الأفلام على الإنترنت والقنوات المتخصصة.وجاءت الاستعادة بمبادرة من «جمعية العاديات الثقافية» في طرطوس. هكذا، عُرضت في اللقاء أفلام وثائقية هي «نور وظلال» عن الرائد السينمائي السوري نزيه الشهبندر، و«مدرّس» عن التشكيلي الرائد فاتح المدرس، و«حلب... مقامات المسرّة» عن المنشد صبري المدلل، إضافة إلى الفيلمَين الروائيين «باب المقام» و«الليل»، واختتاماً بفيلم «فتح أبواب السينما» حول سينما محمد ملص للمخرج اللبناني نزار عنداري. علماً أنّ الشريط الأخير لم يُعرض سابقاً إلا في «مهرجان القاهرة السينمائي» عام 2019.
عن سبب اختياره هذه الأفلام، قال المخرج والكاتب السينمائي محمد ملص لـ«الأخبار»: «إنها تسمح بإثارة النقاش حول مأزق السينما السورية في هذه المرحلة التي ضمرت فيها النشاطات السينمائية العامة، متمثّلة في المشاهدة الجماعية وتبادل الآراء حول الأفلام. لذا قرّرت المشاركة في المناقشات وإعطاء هذه المناسبة أهمية تسمح بكونها تجربة أولى للعودة إلى الحديث بعمق عن قضايا السينما في سوريا والعالم أيضاً».
بدا النقاش الأكثر غنى إثر عرض فيلم «باب المقام» الذي أُنتج عام 2006، ويتناول جريمة حقيقية وقعت عام 2001 في دمشق، أودت بحياة امرأة على يد أقاربها لأنّها كانت تهوى الغناء. وهو ما وصفه ملص بأنه أكبر من أن يوصف بجريمة الشرف، فهي جريمة مجتمع ضدّ التنوير. وأضاف: «عند كتابتي سيناريو الفيلم، اخترت نقل مسرح الأحداث إلى حلب، حي باب المقام تحديداً، وساعدني الكاتب الحلبي خالد خليفة في إضافة العديد من اللمسات من واقع الحياة والمفردات المتداولة في تلك البيئة».
ومن هذه النقطة، أضاء المخرج السوري على تجربته في التعامل مع الشريط السينمائي بدءاً من السيناريو، وهي تجربة توضح مفهوم ما يُسمى بـ «سينما المؤلف» التي يعتزّ بكونه أوّل من انتمى إليها في سوريا، إذ قال: «إنه توجّه قائم على معرفة ورؤية عميقة لواقع نريد التعبير عنه من دون الاكتفاء بالمكتوب على الورق. الورق هو مرحلة فقط، وأنا أكتب السيناريو مراراً، وفي كلّ مرة يكون أكثر تطوراً ونضجاً. رغم ذلك، لم أشعر مرة أن الورق حقّق لي الإشباع الذي أريد. المكتوب مهمّ بالنسبة إلى العملية الإنتاجية، لكنني أكسر قدسيّته بمجرّد بدء التصوير، فتصبح كلّ جملة مكتوبة مفتاحاً إلى عالم من التأمّل وتعميق الفكرة ومحاولة إيجاد دلالات أبعد.
مبادرة لتعريف الجمهور بأعمال مخرج ذي بصمة تأسيسية مؤثرة

أمّا المونتاج فله أهمية مقدسة، تتمثل في رسم الخطّة النهائية للفيلم. كلّ هذه المراحل تتيح التعامل مع العمل بذهنية تهبه طاقته الإبداعية، فينطلق الإبداع بلا توقف مرحلة إثر أخرى».
وحول إسهامه في تشجيع التجارب السينمائية الشابة، تحدّث ملص عن ورشة «الكتابة بالكاميرا» التي أقيمت عام 2018 في دمشق، ولاحقاً في بلدة مشتى الحلو في طرطوس، بالقول: «كانت تجربة دمشق ناجحة بدرجة كبيرة، شارك فيها 16 شاباً وشابة اخترتهم لشعوري بامتلاكهم طاقات يجب أن تمنح الفرصة لتطوير معرفتها بالعمل والكتابة السينمائية. وقام العديد منهم بكتابة سيناريوهات لأفلام قصيرة روائية ووثائقية. لم تُتح الفرصة لتنفيذ هذه الأفلام لأنّ الموضوع خارج قدرتي، لكني أفتخر بما أنتجته هذه الورشة من سيناريوهات على قدر كبير من الأهمية. أما تجربة الورشة في «مهرجان الدلبة الثقافي» في مشتى الحلو، فكانت مختصرة الوقت للأسف، ولم تُتِح العمل على أكثر من فيلمَين قد يُعرضان في افتتاح الدورة القادمة للمهرجان».
وتعدّ هذه المبادرة من «جمعية العاديات» في طرطوس نقلة مهمة في نوعية الأنشطة، وصفها نور الدين ناصر نائب رئيس الجمعية بالضرورية من أجل «تعريف الجمهور السوري بأعمال مخرج ذي بصمة تأسيسية ومؤثرة كمحمد ملص». واعتبر ذلك جزءاً من «تكريس ثقافة الحياة واللاعنف، وتعزيز دور الفن كمنقذ للعالم لا مجرد تسلية، ومن ذلك تشجيع المشاهدة الجماعية للأفلام السينمائية، لأنّ التذوق السينمائي يستمدّ جماليته إلى حدّ كبير من الحضور الجماعي والنقاش حول مضمون الفيلم».
وبيّن مدير مقهى «الست» تمام عباس أن «اختيار أفلام المخرج محمد ملص لتقديمها إلى الجمهور يأتي أساساً من مكانته كأحد أهم المخرجين في تاريخ السينما السورية رغم إنتاجه القليل»، مشيراً إلى أن هذه التظاهرة الثقافية تضمّنت إقامة معرض تشكيلي لـ11 من أبرز رسامي ونحاتي طرطوس، ليعمّق المكان طابعه الذي يتجاوز المقهى إلى كونه «واحة ثقافية نسعى منذ انطلاقتها لاستضافة الموسيقيين المتميزين من مختلف المحافظات السورية، إضافة إلى المستوى ذاته على صعيد الفن التشكيلي والعروض السينمائية، للارتقاء بالذائقة الثقافية عموماً بأسلوب عصري يجذب الشباب، في جو مريح يشبه المنزل».