سنعيد الفقرة الأولى التي نفتتح بها حصاد كل عام، ولكن مع تغيير بسيط في عدد السنوات التي صارت خمساً الآن! خمس سنوات وأشرف فياض في سجون السعودية، بعدما كان قد حُكم عليه بالإعدام، ليُخفَّف الحكم لاحقاً إلى ثماني سنوات و800 جلدة، على خلفية مجموعته الشعرية «التعليمات في الداخل». مرّ عام كامل ولم نسمع بتحرّك أو مطالبة للإفراج عن الشاعر الذي لا يزال يقبع في ظلام زنزانته، بعدما رحل والده بأزمة قلبية إثر صدور الحكم على ابنه. وكأن العالم يستسلم أمام الظلام والقهر اللذين يبتلعان الشاعر. فلسطين في خسارة دائمة، ولطالما كانت الإنجازات الثقافية دافعا كبيراً للتحدّي والأمل، ولكن حتى الثقافة لم تسلم هذا العام. ظلّ ثالوث الاحتلال الإسرائيلي والتخلّف والسلطة (رام الله، غزة) يلاحقها، ما أثار الفزع عند الكثير من المثقفين الذين اعتبروا أن الثقافة لم تعد مهدّدة بسبب الاحتلال فحسب.
استمر الاحتلال بقطع الطرق والتضييق على العمل الثقافي من خلال الاعتقالات والملاحقات. الفنان حافظ عمر اعتقل في آذار (مارس) الماضي وتم استخدامه ليلة اعتقاله كدرع بشرية في حملة اعتقالات واسعة (نعم هذا يحصل بشكل شبه يومي) ولا يزال حتى اللحظة يقبع في سجون الاحتلال. كذلك اعتُقل الممثل الشاب محمد الخمور ومُنع من الانضمام إلى فريق فيلم «امبيانس» الذي عُرض في مهرجان «كان» السينمائي. وبعد أكثر من 17 عاماً من الملاحقة والضغوطات ما زال الاحتلال يحاكم الممثل والمخرج محمد بكري على فيلمه «جنين جنين» (2002) الذي صنعه خلال الانتفاضة الثانية ووثّق فيه مجزرة جنين التي ارتُكبت في مخيم المدينة. من ناحية أخرى لم يكن الاحتلال هو المعطّل الوحيد لعجلة الثقافة الفلسطينية، فالروائي عاطف أبو سيف الذي كان المتحدّث باسم «فتح» في غزّة، تعرّض للضرب من قبل سلطة حماس لينتقل بعدها إلى رام الله حيث تمّ تنصيبه كوزير ثقافة للسلطة هناك. أما أبرز ما سمعنا عنه بعد تولّيه المنصب فكان منع عرض مسرحي لفرقة «أمل» بحجّة أن ملابس أعضاء الفرقة لا تناسب المهرجان! بعدها بأيام تم إيقاف عرض آخر لمسرحية «إنهيدوانا» في جامعة النجاح، حيث تم اقتحام المسرح من قبل عميد كلية الفنون في الجامعة (هذه ليست مزحة!) وإجبار الممثلة عشتار معلّم على إيقاف عرضها بحجّة أنه لا يتناسب مع خصوصية الجامعة والمجتمع! الرقابة انتقلت إلى غزّة أيضاً، حيث منعت سلطتها عرضاً موسيقياً لـ «معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى» اعتراضاً على «الاختلاط» على خشبة المسرح! كأن السلطات تعبث بكلّ شيء، ماضية قدماً في انحدارها وتريد جرّ الثقافة معها، أي آخر ما تبقّى للفلسطينيين.
في المقابل، نشطت مؤسسات وتجمعات عدّة لعبت دوراً جوهرياً في دعم الحياة الثقافية: «عبد المحسن القطان»، و«خليل السكاكيني» في رام الله، و«فتوش» و«مسرح خشبة» و«جمعية الثقافة العربية» في حيفا، و«مسرح الحرية» في جنين و«ملتقى شبابيك» في غزّة، وغيرها.

ما زال المخرج محمد بكري يتعرّض للملاحقة بسبب فيلمه «جنين جنين» (2002)

شهدت السينما انتعاشاً مقارنة بالعام السابق. بعد انتظار أكثر من عشر سنوات، ظهر فيلم إيليا سليمان الجديد «إن شئت كما في السماء» الذي شكّل حدث العام الثقافي بامتياز مع نيله «جائزة الاتحاد الدولي لنقّاد السينما ـ فيبرسي»، وعلى «تنويه خاص» في الحفل الختامي لمهرجان «كان». عادت نجوى نجار بفيلم جديد بعنوان «بين الجنة والأرض» الذي كان موفّقاً أكثر من أفلامها السابقة ونالت عنه جائزة أفضل سيناريو في «مهرجان القاهرة السينمائي»، كما برز اسم المخرج الشاب وسام الجعفري بفيلمه القصير «أمبيانس» الذي عُرض في «كان» وحصد جوائز في مهرجانات عدة. وقد بدت مهرجانات السينما المحليّة كأنما تثبّت أقدامها بثقة مع إقامة الدورة السادسة من «أيام فلسطين السينمائية» التي كانت لافتة هذه السنة، والدورة الخامسة من «مهرجان السجادة الحمراء» في غزّة، والنسخة الرابعة من «مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام»، والثالثة من «مهرجان أصوات للأفلام الكويرية ـ كوز» في حيفا، والنسخة الثانية من مهرجان «إيليا» للأفلام القصيرة في القدس.
ومقارنة بالسنة الفائتة التي احتل فيها الأدب الصدارة مع نيل الكتاب الفلسطينيين عدداً من جوائز الأدب العربي، انتهت السنة بتقشّف أدبي عموماً. صدرت رواية «بنت من شاتيلا» لأكرم مسلم، والباكورة الروائية لرائد وحش بعنوان «عام الجليد»، والمجموعة الشعرية «لا تصدقوني إن حدثتكم عن الحرب» لأسماء عزايزة، والمجموعة القصصية «الموت في حيفا» لمجد كيال، وأخرى بعنوان «الطلبية C345» لشيخة حليوي التي حصدت بها جائزة «الملتقى للقصة القصيرة» في الكويت. وعن دار «أكت سود» صدرت الترجمة الفرنسية لرواية علاء حليحل «أورفوار عكا»، كما صدرت النسخة العربية لرواية الباحثة والروائية سعاد العامري «دمشقي» التي نُشرت بالإنكليزية عام ٢٠١٦. وقد خسرت فلسطين المترجم صالح علماني الذي قدّم للمكتبة العربية عشرات الترجمات من الأدب الإسباني وأميركا اللاتينية.
في الفنون البصرية، نشط حضور الفنانين في معارض فرديّة وجماعية داخل فلسطين وخارجها، بالتزامن مع شكوى متجدّدة من تقلّص سوق الفنون في المنطقة العربية، ما دفع الفنان منذر جوابرة إلى إعادة تدوير بعض أعماله القديمة احتجاجاً على ذلك. حصل «المتحف الفلسطيني» على جائزة «الآغا خان للعمارة»، لكن مبنى المتحف البهي بعمارته لفت الانتباه أكثر من الفعّاليات التي جرت داخل جدرانه. المتحف الفتي الذي تبدّل مدراؤه أكثر من مرة؛ تولّت الباحثة عادلة العايدي إدارته وعُقدت آمالٌ جديدة عليها، فيما أقيم معرض ضخم بعنوان «مقارنات تأملية» جمع أكثر من 60 فناناً من مدينة غزة وضواحيها ومن تجارب فنية مختلفة تمتدّ من جيل الستينيات إلى الجيل الحالي. أما الخسارة الأبرز للوسط الفني التشكيلي فتمثّلت برحيل الباحث والفنان الفلسطيني كمال بلاطة في برلين.
انتاجات سينمائية جديدة أبرزها فيلم إيليا سليمان «إن شئت كما في السماء» الذي شارك في مهرجان «كان»


على الصعيد الموسيقي، صدر لكاميليا جبران ألبوم جديد بعنوان «و» واصلت فيه مشوارها المختلف الذي بدأ بألبوم «وميض» (٢٠٠٤) مع عازف الترومبيت والموسيقى الالكترونية السويسري فرانز هاسلر. أما مفاجأة العام الموسيقية فكانت عازف البيانو فرج سليمان وألبومه «البيت الثاني» الذي قرّر المشاركة فيه غناءً هذه المرّة، حيث حقّق العمل نجاحاً فاجأ الفنان ومتابعيه. ثمّة تجارب واعدة استمعنا اليها واختفت فجأة، وأخرى أعلنت عن نفسها فيما لا يزال يُنتظر منها الجديد.
مأساة الراهن الفلسطيني تجلّت بـأوبريت صدر الشهر الماضي بعنوان «يا ملاك السلام» الذي كرّس لتبجيل وتمجيد رئيس سلطة رام الله، وفيه استغل «تلفزيون فلسطين» (منتج العمل) عشرات العازفين والمغنين الشباب الذين تم جمعهم في مشهد كاريكاتوري ليردّدوا كلمات ركيكة عن محمود عباس تصفه بأنه «ملاك السلام» و«حارس الحلم» و«سيف أمتنا». وقد امتلأ المدرّج بعدد كبير من موظفي السلطة تتوسّطهم شاشة ضخمة تعرض صوراً لرئيس السلطة في مشهد سوريالي بدا أشبه بجوقة تنعق وسط الخراب. وأثار الأوبريت ردود فعل ساخرة وغاضبة دفعت «تلفزيون فلسطين» إلى حذف العمل بعد تحميله على حسابها على وسائل التواصل الاجتماعي.
هذه الكلمات ليست سوى لمحة خاطفة عن عام ثقافي يعيد طرح الأسئلة ذاتها حول الأرض والسلطات والمجتمع والعالم بأسره، عام يضع الثقافة والمثقّف في مواجهة ليست حصريّة مع الاحتلال فقط. عام خرجت فيه أوراق عربية لطالما كانت تُلعب تحت الطاولة، كأن يختتم بمشاركة فيلم سعودي في مهرجان للاحتلال، أو بإعلان الاحتلال مشاركته في «إكسبو دبي 2020». أهلاً بالـ 2020... أهلاً بالعروبة!