في خريف عام 1958، أثناء جلسة تصوير لمجلة ELLE، التقت كوكو شانيل بعارضة أزياء ذات عينين زرقاوين وكاريزما أخّاذة. «ماذا تريدين أن تفعلي بحياتك؟» سألتها. كان الجواب أنها تريد أن تصبح ممثلة. «ما اسمك؟».
«هان كارن باير».
«لا يمكنك أن تصبحي ممثلة بهذا الاسم!». عندما غادرت العارضة مكان التصوير، قامت شانيل بتسميتها: آنا كارينا.
بعد أسابيع، تلقت برقية من مخرج شاب جديد. جان لوك غودار كان يبحث عن ممثلة لتلعب دور صديقة جان بول بلموندو السابقة. دور صغير لفيلمه الأول «آخر نفس» (1960). التقيا في مكتب المنتج. كان غودار ينظر إليها من وراء نظارته الداكنة. أخبرها بأن الدور لها، مضيفاً «سيكون عليك الظهور عارية». إذ كانت قد ظهرت عارية في دعاية «بالموليف» من قبل. «هل أنت مجنون؟ كنت مستلقية في حوض الاستحمام، بلباس البحر، وفقاعات الصابون تغطيني حتى رقبتي! ربما كنت عارية في خيالك!» قالتها بعصبية وصفقت الباب وخرجت.
بعد مدة، أرسل لها برقية ثانية: «سيدتي، هذه المرّة هو دور رئيسي». على مضض، ذهبت إلى اللقاء. نظر غودار إليها وقال: «أنت تناسبين الدور، سنوقّع العقد غداً». لم يحرز الفيلم الكثير من التقدّم خلال التصوير. ألغى غودار التصوير أكثر من مرة في الصباح لأنه «ليس لديه أفكار». تدريجاً، بات يشعر أنّه يفضل قضاء وقته مع آنا كارينا. الفيلم كان «الجندي الصغير» (1963) عن حرب الجزائر، هو ثاني فيلم لغودار، لكنّه قدِّم على أنّه الرابع بسبب منع عرضه من السلطات الفرنسية.
خلال تصوير الفيلم، تطوّرت العلاقة أكثر بينهما. «حدث ذلك أثناء تصوير الفيلم في جنيف. كانت قصة حب غريبة منذ البداية. كنت ألاحظ أن جان لوك ينظر إليَّ طوال الوقت، وكنت أنا أيضاً أنظر إليه، طوال اليوم. كنا كالحيوانات. ذات ليلة، كنا في ذلك العشاء في لوزان. كان صديقي، الذي كان رساماً، هناك أيضاً. فجأة شعرت بشيء أسفل الطاولة. كانت يد جان لوك. أعطاني ورقة صغيرة، ثم غادر إلى جنيف. ذهبت إلى غرفة أخرى لقراءة ما كتب. كانت الورقة تحوي «أحبك، نلتقي منتصف الليل في كافيه دي لا باث». ثم جاء صديقي وطلب أن يقرأ الورقة. أمسك بذراعي وانتزعها وقرأها. قال: «لن تذهبي». أجبته «سأذهب». فقال: «لكن لا يمكن أن تفعلي ذلك بي». فقلت: «لكنني أحبه أيضاً ولهذا سأذهب». ولكن صديقي لم يكن يصدقني. عدنا بالسيارة إلى جنيف، وبدأت أحزم حقيبتي الصغيرة. قال لي: «قولي إنك لن تذهبي». قلت له: وقعت في هواه منذ ثاني مرة رأيته فيها. ولا يسعني أن أفعل أيّ شيء حيال ذلك». كان الأمر كصاعقة. غادرت من هناك، وأتذكّر أنّ رسامي كان يعدو خلفي باكياً. كنت كالمنوَّم مغناطيسياً. لم يحدث لي ذلك على الإطلاق. وصلت إلى كافيه «دي لا باث»، وكان جان لوك هناك يقرأ صحيفة، لكنني أشك أنه كان يقرأ حقاً. وقفت هناك أمامه، بدا لي أن هذا الانتظار دام ساعة، لكنه لم يدُم في الحقيقة أكثر من نصف دقيقة. فجأة توقف عن القراءة وقال: «ها أنتِ إذن. هل يمكننا الذهاب؟». ذهبنا إلى فندقه. في الصباح عندما استيقظت، لم يكن هناك. شعرت بالقلق. استحممت، ثم جاء بعد ذلك حاملاً الثوب الذي ارتديته في الفيلم. الثوب الأبيض المنقوش بالزهور. كان قياسه ملائماً لي تماماً. استمرّ تصوير الفيلم. وعندما انتهينا، عدت مع جان لوك إلى باريس. كان معنا ميشال سوبور، بطل الفيلم. ولازلو زابو، الذي شارك أيضاً في الفيلم. عدنا جميعاً في سيارة جان لوك الأميركية. كنا نرتدي نظارات داكنة. أوقفونا على الحدود، أعتقد أنهم ظنوا أننا عصابة. عندما وصلنا إلى باريس، أوصل جان لوك الاثنين الآخرين، وقال لي: «إلى أين ستذهبين؟» قلت: «يجب أن أبقى عندك. أنت الشخص الوحيد لي في العالم الآن». استأجرنا غرفتين في الطابق العلوي في فندق. وكنا نذهب لغرفة المونتاج كلّ يوم». قام جان لوك غودار بتشكيل السينما الخاصة به، وأشرك آنا كارينا وقدّمها كما لم يقدّمها أي مخرج آخر. قدّما معاً سبعة أفلام، كانا كفريق أحلام سينمائي مثل مارلين ديتريش وجوسيف فون ستيرنبيرغ، وإنغريد بيرغمان وروبيرتو روسوليني.

مع غودار عام 1961

تزوجت آنا كارينا وغودار عام 1961. عندما سئلت عن انطباعها الأول عنه، أجابت: «كان خجولاً، غريباً، كنت خائفة منه قليلاً». ظهرت صور زفافهما في مجلة فرنسية بعنوان «عروس الموجة الجديدة»، لكن الزواج انتهى عام 1967. وعلى الرغم من أنها كانت دائماً تتحدث عن الصعوبات التي مرّا بها، إلّا أنّها كانت تقدّم تحليلاً إيجابياً عنها: «لقد كانت قصة جميلة جداً، لكن مُرهقة لفتاة صغيرة. أحببنا بعضنا بشدّة، لكن العيش معه أمر معقد». مرّت العلاقة بصعوبات كبيرة، خاصة عندما خسرت كارينا حملها. مرت بوقت عصيب «لم أكن أريد أن أكون على قيد الحياة». حاولت الانتحار، لذلك دخلت مصحة نفسية «لم أكن مجنونة على الإطلاق، لقد كان وقتاً فظيعاً للنساء. كان يمكن أن أظلّ محتجزة إلى الأبد ومع ذلك ساعدني طبيب نفسي». في وقت لاحق، عرض عليها زوجها غودار المشاركة في فيلم (Bande à part 1964): «أعتقد أن هذا الفيلم ربما أنقذ حياتي» صرّحت قبل سنوات. عن زواجها وعلاقتها بغودار، كانت تقول: «في ذلك الوقت، كل ما أمكنني فعله هو البقاء قرب الهاتف منتظرة اتصالاً منه. عندما يختفي، أفكر في كل شيء يمكن أن يحدث له. بعد ذلك، أعلم أنه ذهب إلى إيطاليا لرؤية روبيرتو روسيليني، أو غادر لرؤية انغمار بيرغمان في السويد أو في نيويورك لرؤية ويليام فوكنر. كان لديه أصدقاء في كلّ مكان يترك البيت من دون سابق إنذار. كان يحمل جواز سفره دائماً وكنت أعرف مكان وجوده عندما يعود ويريني الأختام التي توضع من قِبل الجمارك. كان يجلب دوماً الهدايا. كانت خياراتي محدودة للغاية، لم نكن كممثلات نحصل على أموالنا الخاصة. كانت فترة معقّدة للنساء، لم يكن لدينا الحق بشيء، فقط بالصمت».
«أنا قصة قديمة، ولكن القصة القديمة لا تزال جميلة» بهذه العبارة لخّصت آنا كارينا حياتها في إحدى المقابلات الأخيرة التي أجرتها. قالت إنها سعيدة بتسميتها «الملهمة، فمن الجيد إلهام الآخرين». بالنسبة إليها، ليس هناك شرف أكبر من أن يكون الشخص ملهِماً ليس فقط لمخرج معين، بل لجيل كامل.
ليست ممثلة فحسب، بل صورة ثابتة وأبدية لامرأة حرة فريدة ومختلفة دائماً


عام 2018، شغلت قبلة آنا كارينا وجان بول بلمندو الكوازيت خلال «مهرجان كان». كانت دعوة لتذكّر الماضي، وأيضاً لبقاء الماضي إلى الأبد. آنا وبلموندو قبّلا بعض كشخصين مجنونين في فيلم «بيارو المجنون» (1965) في سيارتين مكشوفتين. صورة ومشهد من كل اتّجاه، أقرب إلى الروح، إلى الإحساس: بسيط لبرهة، لكنّه يختصر الحياة. إنها حياة بالفعل. آنا كارينا هربت من منزلها وعمرها 17 سنة فقط. من موطنها في الدنمارك إلى فرنسا، عاشت في الشوارع، إلى أن اكتشف أحدهم عينيها الكبيرتين، وجمالها الفرنسي. شعرها الجميل وعيناها الزرقاوان وأداؤها التمثيلي الطبيعي، جعلت منها أيقونة الموجة الجديدة. إنّها ليست فقط ممثلة، بل صورة ثابتة وأبدية لامرأة حرة فريدة ومختلفة دائماً. عندما ترقص أو تغنّي في الأفلام، تضيء الشاشة البيضاء والسوداء بألوان زاهية. آنا كارينا أيقونة ورمز تمثل الصورة الوحيدة الممكنة للحرية، هي حلم. معها، أصبحت السينما الفرنسية مكاناً جميلاً للعيش فيه، وأيضاً مكاناً للتفكير في الحياة.
على الرغم من أن اسم آنا كارينا يأتي دوماً مع اسم غودار، فإن آفاقها الفنية والسينمائية أبعد من ذلك. في عام 1965، لعبت دور بائعة هوى يونانية لجنود في فيلم «ورود المعسكر» للإيطالي فاليريو زورليني. وفي عام 1967، عملت مع المخرج الكبير لوتشينو فيسكونتي في فيلم «الغريب» مع الممثل مارسيلو ماستروياني.
في أواخر الستينات، كانت جميع الأفلام التي شاركت فيها، ذات أصل أدبي مثل «رجل على ظهر حصان» (1969) للألماني فولكر شلوندورف المقتبس عن رواية لهاينريش فون كلايست. وفي السنة نفسها، شاركت في فيلم «ضحك في الظلام» للبريطاني توني ريتشاردسون المستوحى من رواية لفلاديمير نابوكوف، وأيضاً فيلم «جاستين» للأميركي جورج كوكور مستوحى من رواية بالاسم نفسه للورانس دوريل. وظهرت عام 1974 في فيلم «خبز وشوكولا» للإيطالي فرانكو بروساتي. في النصف الثاني من الثمانينات، عملت مع مخرجين شباب أمثال بونوا جاكو، وراينر فاسبيندر. جربت الإخراج في فيلم «نعيش معاً» (1973)، وفي الكتابة نشرت ثلاث روايات، واستمرّت في التمثيل حتى عام 2002، ولم تتوقّف عن الغناء يوماً. في السنوات الأخيرة، كانت تتجوّل في المهرجانات العالمية التي كرّمتها. دائماً مختبئة تحت قبعتها وسجائرها ونبيذها الزهري. ولسنوات، عاشت حياة هادئة في باريس وفي كان وفي الولايات المتحدة. ظلت في روتين حياتها الاجتماعي المتواضع مع زيارات يومية إلى مطاعم ومقاهي الحي حيث عاشت وظلّت محبوبة حتى النهاية. غادرت آنا كارينا أول من أمس عن 79 عاماً، ومعها انطفأت أيقونة وأسطورة من الأساطير العظيمة للسينما الفرنسية والعالمية.
لم تكن قصة قديمة، بل من أجمل قصص السينما الحديثة!