لندن | نحن الماركسيّين الآتون إلى الماركسية من البؤس، لا من قاعات الأكاديميا، لدينا نوع من حساسيّة مفرطة تجاه نموذج المثقّف البرجوازي عموماً وطبعته المتغربّة خصوصاً. وقد تعاظمت حساسيتنا تجاه هؤلاء أضعافاً بعدما كشفت الحروب الأميركيّة المتوالية على العراق، وسوريا، وليبيا عن تهافت أغلبهم فكرياً، وسذاجة مناهجهم، وانكسارهم الذاتي حضارياً أمام المهيمن الغربي... ناهيك بمسارعة معظمهم للتجنّد في خدمة المجهود الحربيّ للغزاة، سواء بتقديم المشورة والتحليل حول سايكولوجيّات الجماهير العربيّة كأدلاء محليين، أو بتولي إدارة العمل الثقافي والإعلامي الموجه لتشويه وعيها وإسقاط دولها الوطنيّة بالعنف والدماء، أو حتى بلعب أدوار قياديّة في واجهة «الثورات» الملونة.
رسمة لجيمس جيلراي (1756 ــ 1815)

ومن المُلفت في تلك المرحلة أن كثيرين من هؤلاء ذوي «البشرة السمراء، والأقنعة البيضاء» كما يصفهم المفكر الإيراني حميد دبشي (2007)، انتقلوا من مقاعد المنظّرين وأساتذة تفسير الفلسفة الثوريّة وتقطيعها مُضَغاً للكادحين العرب (الجهلة) في معسكرات يسارات العرب الكرتونيّة، إلى المقلب النقيض تماماً: حملة جُعَبٍ للجنود الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين، وطلائع إشارة متقدّمة للأجهزة الاستخباريّة الغربيّة، ومنتجو فضلات فكريّة معبأة في قوارير مستشرقة ليستسيغها العقل الغربي الذي لا يريد أن يرى سوى ثنائيات الأبيض ـــ الأسود، الأخيار في مواجهة الأشرار، وراعي البقر النبيل مطارداً الهندي الأحمر المتوحّش (النسخ المحليّة من هؤلاء نقلوا بنادقهم الفاسدة من كتف اليسار وخدمة الأنظمة الثوريّة، إلى كتف السّلالات الحاكمة في الخليج وممثليهم المبعوثين إلى بلادنا). لكن المُلفت أن هذه الاستدارات مرّت جميعها تقريباً من بوابة الصهينة، عبر تقديم أوراق اعتماد للإسرائيلي على شكل منتجات ثقافيّة (أبحاثاً أكاديميّة أو روايات) أو مقابلات صحافيّة مع عناوين ومجلات عبريّة تزلّفوا فيها صاغرين للنظام العبري أو نقدوا أيقونات عادته في مراحل مختلفة. وقدّموا أنفسهم للآخر بوصفهم عرباً طيبين أقرب ما يكون أحدهم للعم توم (العبد اللطيف وفق الرواية الأميركيّة المشهورة): دعاة حوار حضاري ورواد سلام عابر للأديان والأيديولوجيّات، ونقاد لاذعون لتخلّف مجتمعاتهم وانحطاطها، قبل أن تسرع مراكز الأبحاث والجامعات ومؤسسات التبادل الثقافي المشبوهة إلى تبنيهم ونشر أعمالهم والترويج لهم عالمياً، ومنحهم الجوائز والوظائف المجزية على نحو لم يعد بإمكانهم التنازل عنه لأي سبب.
بالطبع، اختار بعضنا وقتها المشاهرة بتخوين هؤلاء، وإلقاء الأحذية عليهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. لكن أغلبنا اعتصم بموقف فلسفي هادئ يتعامل معهم بوصفهم ضحايا وعيهم الطبقيّ، وأنانيتهم الشخصيّة المُفرطة المرتبطة بذلك الوعي السلبيّ، وأوهام العظمة المتورمة لديهم نتيجة مآزقهم النفسيّة والاجتماعية. وقلنا بأن منتجات هؤلاء الثقافيّة ـــــ على سوء نيّة أصحابها الثابتة ــــ يمكن أن تُقرأ نقدياً نصوصاً مستقلّة عن كاتبيها، وأن تشرّح على طاولة التفكيك للكشف عمّا لم تقله، وهو الأكثر. وللحقيقة، فإن سحابة الجمهور العربيّ، المتّهم من طرفهم دائماً بالسطحيّة والسذاجة والجهل، لفظهم، وأسقطهم من حساباته، وأصاب كثيرين منهم بصدمات عصبيّة عبر تهميشهم لمّا أرادوا لعب دور القادة المنقذين العائدين من المنفى.

قدم نفسه مرشداً من خلال مقابلة أجراها مع «معاريف» الإسرائيليّة

أسماء هؤلاء ليست أسراراً بالطبع. فاللبنانيّون يعرفون جيّداً فؤاد عجمي «العربي المفضّل عند البنتاغون» في عهد جورج بوش كما سمته مجلّة «ذي ناشن» الأميركيّة (انظر مقالة آدم شاتز في عدد 10 نيسان/ أبريل 2003). والعراقيّون خبروا كنعان مكيّة، مرشد الغزو الأميركي الحاصل على شهادتي دكتوراه فخريّة من جامعات إسرائيلية (انظر كتاب جورج بيكر «بوابة الحشاشين: أميركا في العراق» ــــ 2006)، وغيرهما كثيرون.
جيلبير الأشقر الذي كان يفترض أن يعود إلى بيروت ليقدّم ندوة عن «السياق الإقليمي للانتفاضة اللبنانية» اليوم في «مانشن» (زقاق البلاط ـ بيروت) ـــــ قبل أن يلغى اللقاء «نظراً إلى التطوّرات الجارية في الوضعين السياسي والأمني» ـــــ كان مركز فضيحة أكاديمية قبل أسابيع. إذ كُشف عن خدمته ــــــ من خلال منصبه الجامعي في كليّة الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة في جامعة لندن ـــــــ في برنامج لوزارة الدفاع البريطانية غايته تدريب جنود جلالة الملكة على كيفيّة التعامل بحساسية ثقافيّة عندما تأخذهم مهماتهم إلى زيارات (عمل) في البلاد العربية (انظر صحيفة «مورنييغ ستار» البريطانيّة 25 يوليو 2019).
قدّم أوراق اعتماده للصهيونيّة من خلال نشره كتاباً متخماً بالانحياز والتسطيح عن العرب والهولوكوست


الأشقر ينتمي إلى هذه الفئة من «المُخبرين المحليين» وفق التعريف الذي نحته المفكّر دبشي والمنظّرة والنسوية سبيفاك. الرّجل وإن لم يكن محظوظاً بعد في الوصول إلى أروقة الخارجيّة والمخابرات الأميركيّة صانعة النجوم على الجانب الآخر من الأطلسي، فقد اكتفى إلى الآن على الأقل بصنع مجده المهني المتواضع ـــــ قياساً لعجمي مثلاً ــ في لندن. وكان قد قدّم أوراق اعتماده مبكراً للصهيونية العالميّة من خلال نشره كتاباً متخماً بالانحياز والتسطيح والرداءة العلميّة عن العرب والهولوكوست (2010) خصصه للنّيل من شخص الحاج أمين الحسيني بوصفه مصاباً بعقدة كراهيّة تجاه اليهود دفعته للتحالف مع ألمانيا النازيّة خلال الحرب العالمية الثانية (انظر نقد أستاذ التاريخ الأوروبيّ جيفري هيرف للكتاب في مجلّة «نيو ريبابليك» الأميركيّة ــــ عدد نوفمبر 2010 مثلاً). وقد سارع وقتها لتقديم نفسه مرشداً من خلال مقابلة أجراها مع يوميّة «معاريف» الإسرائيليّة (انظر مقال أسعد أبو خليل في «الأخبار» عن «المسألة اليهوديّة: نحن والمحرقة» تعليقاً على تلك المقابلة وردّ الأشقر عليها). وكان طبيعياً بعدها أن يصبح من عتاة الداعمين فكرياً للربيع العربي (المزعوم) في هجمته على سوريا، مستخدماً كل المنابر التروتسكيّة والقطريّة ودور النشر الأميركيّة لذم النظام السوري، والتنظير لثورات العرب الملونة، وأسباب انتكاساتها اللاحقة، مقدماً نفسه دائماً مفكراً ذا توجهات يساريّة. وها هو في بيروت، في هذا الوقت بالذّات، لتقديم قراءته حول «السياق الإقليمي للانتفاضة اللبنانيّة».
كان من المهم بالطبع الاستماع لمحاضرة البروفيسور لو أقيمت. فهو من دون شكّ مطلّع بشكل أو بآخر من لندن على بعض ما يجري في أجواء المنطقة. وقد تكون له وجهات نظر يجدر بالمعني بالشأن اللبناني والإقليمي معرفتها. لكننا ونحن نفعل ذلك، سنكون ماركسيين. أي أننا نضع ما يقوله هو وغيره من «المخبرين» في إطار معرفتنا بمنطلقاته السياسيّة وسيرته المهنيّة وارتباطاته الفكريّة كما الأجواء التاريخيّة والاجتماعيّة والسياسية التي يعوم فيها. في نهاية الأمر «قل لي كيف تكسب عيشك، أقُل لك من أنت، وماذا ستقول». ولا أحد ينطق عن الهوى. كونوا هناك!