القاهرة | جرى العُرف أن يتم نقد المثقفين الذين يسخّرون قلمهم للسلطة، ويساهمون في تخدير الشعوب لدفعهم لتحمّل المزيد من البطش والطغيان. وغالباً ما يُمدح المثقفون المعارضون، فهم المشتبكون والشوكة في حلق الأنظمة. ومع المدح وتدفق الإشادة بالمواقف والآراء الثورية، تغيب القراءة الجادة لفكر هؤلاء «الثوريين». تغيب عملية النقد الحقيقي الذي ينحّي الكلمات الرنانة (مثل حرية، ديمقراطية، عدالة، .. إلخ) لكي نكشف عن البُعد التنفيذي والمنطقي للأفكار والتنظيرات لهؤلاء الثوار. فالثورة لا تكمن في الشعارات، بل في إمكانية تحقيق هذه الشعارات. كما أن الثائر ليس صفة أو وظيفة يمكن أن أعتبرها «حالة تغيير شاملة للإنسان» تبدأ من داخله وتشمل كل ما حوله، وليس بالضرورة أن تكون حالة التغيير حالة إيجابية أو ملائكية، بل يجب أن تكون معقولة وبأقل قدر من الأخطاء لتقدم نسخة أفضل من الإنسان والمجتمع المحيط به، لا أن تكون سلبية وتجلب معها الكوارث وعاصفة بالإنسان والمجتمع.في الحقيقة، تردّدت كثيراً في الكتابة عن أفكار وأطروحات جيلبير الأشقر (1951) المفكر «اليساري» اللبناني المعروف وخصوصاً كتبه «الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضة العربية» (2013)، و«انتكاسة الانتفاضة العربية: أعراض مرضية» (2016)، و«تفكيك الثورة: دراسات حول الانتفاضة المصرية والربيع العربي». ويعود سبب التردّد إلى أننا في مجتمعات تعيش فترة انحطاط وصراعات وانعدام لأبسط الحقوق الإنسانية. وعليه، فأي حوار تكسوه كلمات مثل «حرية»، «كرامة»، «ديمقراطية»... سينتصر بسهولة على أي حوار يحاول أن تكسوه أفكار تنفيذية ملائمة للوضع المتفجر في الوطن العربي. حوار الشعارات سينتصر بنصف حقيقة ألا وهي أن وضع الإنسان في الشرق الأوسط منحدر. سينتصر على أي حوار يحاول أن يضع مشروعاً وطنياً يضمن حق الإنسان بداية في خلق بيئة آمنة، ثم خلق بيئة اقتصادية سليمة بالتزامن مع خلق آليات تنفيذية لمفاهيم الأمن القومي والبعد الديموغرافي والمصالح الجيوسياسية، وكيفية التعامل مع الصراعات الغربية المُتقاطعة على أراضينا.

سوريا فضحت كثيرين
عندما تقرأ أي كتاب أو تقرير أو مقال لجيلبير الأشقر، ستجد كثيراً من كلمات الحرية والديمقراطية ووحشية الأنظمة العربية وقمع السيسي وهمجية الأسد. هذا صحيح، ولن نكذبه، لكن ماذا بنى جيلبير من هذه الشعارات والاستنتاجات عن الأنظمة العربية؟ مثلاً في الملف الشائك للغاية وهو سوريا، نجد أن جيلبير في إحدى كتاباته (بتاريخ 19 سبتمبر 2016) يدافع عن جبهة «النصرة» (فتح الشام) ويبرّر كونها منظمة ليست إرهابية بالشكل التالي: «الكلّ يعلم أن المعارضة السورية لا تنظر إلى «جبهة فتح الشام- النصرة» كعدوّ رئيسي، إذ أن قتال الجبهة الأساسي موجّه ضد النظام السوري، ناهيكم بأنها لم تنفّذ عمليات إرهابية في الخارج، خلافاً لتنظيم «داعش» الذي وجّه قتاله الرئيسي في سوريا ضد المعارضة السورية بعربها وكردها ودبّر أعمال قتل همجية في شتى البلدان».
الفقرة السابقة تجعلنا نتساءل: هل يدرك جيلبير مفهوم الإرهاب؟ وهل الحلّ الثوري يتمثل في قتل السوريين؟ نعم السوريين، فالآلاف مِن السوريين يجلدون ويسجنون ويعذبون ويهانون في سجون جبهة «النصرة» في مناطق سيطرتها، وهل هذا بسبب وحشية نظام الأسد؟ وهل ممكن أن ينتج عن الإرهاب نظام ديمقراطي؟ يخلط جيلبير الأشقر دوماً بين النظرية الثورية والتنفيذ والتعدد الإيديولوجي الناتج عن التنفيذ، فهو يدافع عن الجولاني ويهاجم ستالين لأن الأخير أصاب الماركسية بجمود عقائدي. أما الجولاني ضد نظام الأسد، فيمكن أن يُعتبر مؤسس الدياليكتيك في القرن الحديث!
يتهم جلبير الغالبية بالجمود العقائدي، فاليسار القديم في حالة موات وهذا صحيح. ولكن ماذا يختلف عنهم؟ هل قام جيلبير بوضع مواقفه موضع جدل ونقد ذاتي، واعتذر عن كتاباته لصالح «النصرة»؟ هل قدم أسباباً موضوعية عن تفجر الوضع في سوريا بدون التعويل على وحشية الأسد وإيران وروسيا؟ ولماذا على الاشتراكي التقدمي أن يطالب بوجود أميركي على أرض سوريا في اللحظة التي يدين فيها الوجود الأجنبي التابع للأسد؟ هذه ليست أسئلة ولا تصيداً لجيلبير بل هي إجابات ومواقف نجدها بطول وعرض كتاباته.

مصر غير المفهومة
كنت أحد الحاضرين على أرض الواقع في يناير 2011 في خضم الثورة المصرية، ممن يمسكون العصي في اللجان الشعبية لحماية الشوارع ولإعلان النصر الثوري. كنت حالماً وواهماً. لكن مع مرور الوقت، لم أتحول إلى جاهل. فقد أدركت أن كل فرص التغيير ذهبت بصعود الإخوان المسلمين إلى السلطة وزاد العنف، بل تمت شرعنته للقضاء على الثورة تماماً. هذا ما لم يدركه جيلبير الأشقر. هو يرى أنه رغم اعترافه بحماقة مرسي ديمقراطياً، إلا أنّ الصندوق هو الفيصل. هل الجولاني إن انتُخب بصندوق، يجب على شعب كامل الخضوع له؟ قد تخبرني أنّ الإخوان ليسوا الجولاني أو البغدادي، سأخبرك أنهم أسوأ، فهم شلوا الدولة المصرية في عام واحد، كانوا كالجراد يريد ابتلاع كل شيء، ما سبب معاناة كبيرة للمصريين: فوضى في الأمن والغذاء والبنزين والكهرباء، وظهور إرهابيين في كل مكان تقريباً في التلفزيون والإذاعة والمساجد وحتى قاعات الأفراح. وأخيراً قام إعلان الإخوان في مؤتمر حضره رئيس الجمهورية شخصياً معلناً فيه الجهاد على سوريا! هذا ما لا يدركه أو لم يكن على هوى جيلبير الأشقر في كتابه «انتكاسة الانتفاضة العربية: أعراض مرضية». فرغم اهتمام الأشقر بالسياق الإقليمي، إلا أنه لم ينظر لخطر استمرار الإخوان في مصر على المنطقة وسوريا تحديداً. فلا يهم إن دمّرنا سوريا، فما المانع إن دمرنا مصر أيضاً؟ عفواً سيقول نصنع حرية في دولتين. ومن الملاحظ للقارئ الغياب شبه التام في تناول أي بُعد للأمن القومي العربي.
لم يُحمّل يوماً الغرب مسؤوليةً مباشرةً عما حدث في ليبيا واليمن

يكتفي الأشقر فقط بكيل الاتّهامات لما يسميه «اليسار المقاوم للإمبريالية» والسؤال هنا: هل يجب أن يكون اليسار موالياً للإمبريالية؟ كما لا يكلف الأشقر نفسه عناء البحث الاجتماعي والاقتصادي رغم تبنّيه الماركسية. فلو كانت أسباب الاحتجاجات في مصر اقتصادية والنظام العسكري يسرق الشعب ـــ وإن كان جزء من ذلك صحيحاً ـــ فكيف يضع فرضية أنّ الجهاز الأمني نفسه يعاني اقتصادياً وبعض أفراده يقومون بإضرابات واحتجاجات؟
لا إجابة هنا لحلّ المتناقضات لدى الأشقر، إلا عبر ظهور فئة مُنظمة تقوم بمراوغة النظام العسكري ـــ الأمني المصري وتفكيكه. فالأشقر لم يدرك وضع الجيش في بناء الدولة المصرية منذ محمد علي، وعملية الاندماج المجتمعي بين العسكريين والمدنيين في الهياكل الإدارية للدولة. هذا كله لم يتوصل إليه الأشقر في تحليل الشأن المصري من ربيع ثورة 2011 حتى خريفها 2013.

ليبيا واليمن
في الكتاب سالف الذكر «انتكاسة الانتفاضة العربية: أعراض مرضية»، لا يُحمّل جيلبير الأشقر أحداً في الغرب مسؤوليةً مباشرةً عمّا حدث في ليبيا واليمن، كأنّما ليبيا دمرت وقصفت وحدها، بدون تدخل، أم أنّ اليمن قرّر الانتحار من الملل. ومن الطريف أيضاً أنه أفرد 6 صفحات فقط عن مجريات الأحداث في الدولتين، ذاكراً القصف السعودي لليمن في نصف سطر، ونصف السطر الآخر قال فيه إن القصف السعودي ليس بقوة القصف الروسي والإيراني لسوريا!
خاتمة
نموذج جيلبير الأشقر عصيّ عن النقد، بل حصين للغاية كما أوضحت في المقدمة، ومن الخطر الاشتباك معه، فهو حامل لواء «الحرية» ومتوقع انطلاق الربيع العربي ومحلل الظواهر النيوليبرالية و«ناقد» اليسار واليمين والشرق والغرب. لن يعتذر عن تحليل غير واقعي ولا يعترف بخيبة نبوءة. وبالتالي كل ما يسعني هو أن أتساءل حول مدى جدية أطروحاته. وهل تقترب من حياتنا الواقعية وأحداثنا الثورية؟