هل تحمل وسائل التواصل الاجتماعي رياح التغيير إلى الخليج؟ سؤال تطرحه هدى الدغفق في كتابها «هيستيريا الافتراض» (دار العين ــ القاهرة)، بعدما أطاح الفضاء الافتراضي الأسوار والأعراف الاجتماعية المقيّدة لحرية التعبير. ليس المقصود هنا رياح التغيير السياسي فحسب، بل بنية النص الإبداعي نفسه، نظراً إلى انتشار المواقع المتخصصة بالمدوّنات، وصولاً إلى الفايسبوك وتويتر بوصفهما المغناطيس الأكثر جذباً، أو كما يقول زكي الصدير في توصيف العالم الافتراضي «التويتر يمثل الشارع، والفيسبوك بمثابة البيت، وكلاهما بيت، لكن لا بأس من زيارة الشارع للتبضع والفرجة».
تطرح الشاعرة السعودية إشكاليات النص الافتراضي وتأثيره في توجّهات النخب الثقافية في المملكة عبر أسئلة تتعلّق بالتحوّلات التي طرأت على حياة مرتادي الشبكة كفسحة للتنفّس والنقاش وتبادل النصوص. لكن الهوس بالثقافة الرقمية لا يتوقّف عند حدود الكتابة، بل يتعداه إلى اقتحام خطوط التماس بين الجنسين، وتالياً هدم المسافة بينهما. وهذا ما أفرز بيئة افتراضية لجهة الإيقاع، وكتابة الومضة، وتمازج النصوص، تماشياً مع الإيقاع السريع لعصر العولمة «يتسع فيها المكان ويتوه فيها الزمن»، وفقاً لما تقوله إيمان يونس. لكن هذا العالم الشاسع خلق حالة من «الاغتراب الإلكتروني» على حساب التواصل الواقعي من جهة، وأطاح شروط النشر الورقية من جهة أخرى، بذريعة المغامرة والتجريب، ليظهر «كتّاب ولدوا في فضاء الإنترنت، بعيداً عن المشهد الثقافي التقليدي». هل هذا الهوس الرقمي أزاح النصوص المعترف بها فعلاً عن الواجهة ليقتحم الذائقة العمومية؟ وهل الإجابة عن سؤال «ماذا يخطر في بالك الآن؟» كفيل بإنجاز نص منافس؟ نظن أن المسألة تحتاج إلى قراءة أعمق وأكثر تركيزاً، وخصوصاً أن النص الإلكتروني قابل للمحو أكثر من قابليته للإقامة الطويلة.
النصوص التي تختارها صاحبة «أشق البرقع أرى» كأمثلة على قطيعة أنطولوجية، لا تخرج عن سياقات الكتابة الجديدة منذ تسعينيات القرن المنصرم، وإن انتسبت زمنياً إلى الألفية الجديدة، سواء لجهة النبرة الإيقاعية الخاطفة، أو لجهة هدم الأطر الشائعة، وإعلاء شأن الذات. ورغم تطلعات «الفايسبوكيين» إلى احتلال خرائط الآخرين، واكتشاف بحار مجهولة، إلا أنّ سفنهم تعرّضت للبلل، ثم الغرق وسط الأمواج المتلاطمة لمئات الأسماء التي لا تصمد طويلاً في الذاكرة. لعل الاتكاء على عنوان كتاب جمال السويدي «وسائل التواصل الاجتماعي ودورها في التحولات المستقبلية: من القبيلة إلى الفايسبوك»، يشخّص الحيرة التي يعيشها الفايسبوكيون، بين ثقل قيم القبيلة في الواقع، والتحليق بأجنحة اصطناعية في الفضاء الإلكتروني من جهة ثانية، أو إنهم في أحسن الأحوال نقلوا مضاربهم من رمال الصحراء إلى شاشة العولمة فتاهوا في دروبها.
رهان الشاعرة هنا يتمحور حول قدرة وسائل التواصل الاجتماعي على عبور نقاط التفتيش وممنوعات الرقيب، وهذا ما يتيح للكائن الافتراضي «لا ليكتب فقط أو ينشر بل ليضيف ويبتكر ويحلم ويلوّن المساحات ويلصق طابعه الخاص على مظروف يطير نحو الفضاء الرقمي»، كما يفتح الباب على مصراعيه أمام «لذة أن تسقط الأوهام الكبرى وأوهامه الشخصية على قارعة لم تترك اليوم مسافة واسعة بين النخبوي والشعبي».
هذه الحماسة للفضاء الافتراضي، ستواجه بعثرات من نوع آخر، تتعلق بحال الفصام في المجتمع السعودي، وخصوصاً في ما يتعلّق بالفصل القسري بين الرجل والمرأة، وهو ما تشير إليه سالمة الموشي بقولها: «لست متفائلة، بل راضية ومستسلمة لهذا الواقع الذي نعيشه وعلى كلٍّ منا أن يصنع فُلكه لينجو أو ليبقى على حاله ليغرق». على الضفة الأخرى، يواجه المجتمع الافتراضي في الخليج، وفق الكاتبة، مشكلات حقيقية كمحصلة للإجراءات القانونية الصارمة التي اتخذتها حكومات هذه البلدان تحت مسمى «جرائم الإنترنت». هنا، تلجأ إلى أمثلة كثيرة على عقوبات بالسجن، طاولت مدونين وناشطين إثر نشر تغريدات أو تعليقات، اعتبرها الرقيب الإلكتروني مسيئة إلى سمعة البلاد. إلا أن داليا أحمد ترى في شهادتها أن عصر الشبكات أنتج أنماطاً جديدة من التفاعل ستطيح دور الدولة كمنظم ومنتج للثقافة لمصلحة ثقافة افتراضية متجانسة كنتيجة لتدفقات ثقافات عالمية متنوعة، قبل أن تستدرك بقولها: «تتمثّل ثقافة الفضاء الافتراضي، في السطحية، والنخبوية والتهميش وتلاشي المعلومات، وحذف المحتوى وانتهاك الخصوصية». وتخلص هدى الدغفق إلى القول بأن الأمم والشعوب لم تعد تقاد بالعصا، وقد حان رحيل الأفكار المغلقة، وأتى دور «الوعي الذي يهزم الرقيب».