في ظلّ كل ما تمرّ به البلاد، يبقى للفنانين متّسع من الحلم يهدونه للناس. يسعدون به عيون الرائين. ويهدونهم مساحة خيال جميل ومريح وحالم! بسحر كلمة «كان يا ما كان» ــــ عنوان معرضه في غاليري «آرت أون 56» ـــ يرسل الفنان اللبناني جورج باسيل (1965) قصّة بصريّة هادئة ورومانسيّة للرائين. يحيك بريشة لطيفة شخوصاً ـــ أنثويّة بغالبيّتها ــــ من عالم الخيال. من أكريليك على قماش، أو من أكريليك على ورق، نقف أمام خمسة وعشرين عملاً من عالم سحريّ هادئ مسالم يطلّ عبر شبّاك اللوحة إلى دنيا الفنون التشكيليّة، ويفتح أفقاً للتأمّل.
«كان يا ما كان 19» (أكريليك على كانفاس ــــ 70 × 90 سنتم ــ 2019)

لمن يعرف أعمال باسيل السابقة، يعرف أن غالبيّة شخوصه المتخيّلة المرسومة بتأنٍ لا تفتح عيونها. هي تعيش داخل عالمها المتخّيل، كأنها من عالم ما بعد «كان يا ما كان»، من عالم الحلم. أما في المعرض هذا، فيفاجئنا الفنان، إذ تفتح الشخوص عيونها الحلوة، وتجذبنا إليها لتقول لنا ــ ربما ــــ ما نريد أن نسمع. تقوله بطريقة قدسيّة عبر هالة أيقونيّة ذهبيّة زخرفيّة، باعثة للإيمان، بل باعثة للتصديق بروح النفس الأنثويّة المُطلقة. يجوز معها حتى القول: الصوفية غير الماديّة. هنا تنتفي الصيغ الشهوانيّة الجسمانيّة التي ألصقها تاريخ الفنّ بالجسد الأنثويّ الغاوي وتفاصيله وتضاريسه، ليظهر في المقابل الأفق القدسيّ الأموميّ الحنون، بعيداً عن أي إنحاء أو إشارة لاستعمال جسد المرأة كحالة ماديّة صرفة أو أداة لإيصال الرسائل الجنسانية. التركيز كلّه على الرأس المحاط بالهالة. واليوم أكثر على العيون المغناطيسيّة الأثر، الحالمة، «المريميّة» النزعة (بمعناها الإنجيليّ العتيق). هنا مثلاً لا جسد واضحاً، بل فستان أسود طويل جداً جداً يغطي كل مفاتن الأنثى، ويضع هالتها موضع التركيز. هي قريبة جداً، لكنّ هالتها تجعلنا نفكر قبل أن نصفها بالقريبة. هي وحيدة لا شك، لكنّ عينيها المفتوحتين تقرباننا منها وتتواصلان معنا. من يريد حزناً سيراه، في قلب كل هذا الحنان.

«كان يا ما كان 2» (أكريليك على كانفاس ـــ 180 × 140 سنتم ــــ 2019)


«كان يا ما كان 13» (أكريليك على ورق ـــــ 80 × 70 سنتم ــــ 2019)

لكن قوّة الهالة وزخرفتها التي تردّنا بصريّاً ولو لوهلة إلى الحروفية، مقابل الأسود بطبقاته الشفافة المتراصة، ستعطي ما تعطي من نفحة ملوكية قويّة كاملة الحضور، بل كاملة الحياة.
«جورج باسيل فنان لبناني مرهف ومخلص لعمله، عاش خارج لبنان، وعندما عاد بدأت شخوصه المرسومة تحيا من جديد وتفتح عيونها. كأنه يدعو للأمل» تسرّ لنا نُهى محرّم، صاحبة الغاليري التي تحتفظ على هاتفها الشخصيّ بصور لأعمال الفنان. تتأمّلها وتشرحها لنا بجرعة تفاؤل. تحرص مؤسّسة صالة العرض على شرح كل لوحة للزائر، ولا تخفي تذوّقها لتفاصيل المواد وضربات الريشة الهادئة الحسّاسة.
الأعمال المعروضة بقياسات مختلفة، يصل أحدها إلى 180 سنتيمتراً طولاً، فيما التأليفات أيقونيّة بغالبيتها، تعتمد على القلب (بمعنيَيه: قلب الإنسان ووسط المساحة) للانطلاق نحو الأطراف. واللوحات الـ25 المعروضة كلها رُسمت بمادّة الأكريليك. طبقات متتالية رقيقة من الريشة على القماش أو على ورق. والعنوان واحد لكل الأعمال: «كان يا ما كان».
تنتفي الصيغ الشهوانيّة التي ألصقها تاريخ الفنّ بالجسد الأنثويّ الغاوي


هنا تجدر الإشارة إلى أن جورج باسيل من الفنانين اللبنانيين العصاميين، قدّم ما يقارب 28 معرضاً مشتركاً وفردياً منذ عام 1997. وهذا المعرض بالذات هو معرضه الفردي الثالث مع غاليري «آرت أون 56». وقد عرض سابقاً في موناكو ولندن والبحرين وعمّان ودبي وسوريا وفرنسا. أمّا بيان المعرض، فيذكر أنّ الفنان و«من خلال العبارة التقليديّة «كان يا ما كان»، يلوي دلالاته ويحجب الوعد بنهاية سعيدة. يروي لمشاهديه قصة من خلال لغة بصرية معبرة. من خلالها تزدهر القصص في عقول الناظر. إنه يصور المرسومات اللواتي هن في وقت واحد جميلات ومنفصلات، ملوكيات لكن غير حصينات. سواء تم تصويرهن في صورة شخصية أو مواجهة للأمام، فإنهن يبقين لغزاً. القصة ليس لها نهاية أو بداية، فهي مبنية على أساس تفسير وتدور حول رحلة التشويق. تتخطى مشاعر الوحدة. سكون روايات باسيل ينبع من الغموض وعدم الارتياح. الحاضنة قريبة، لكن يتعذر الوصول إليها». ويضيف البيان: «يقوم الفنان بإجراء تجارب على تقنية طبقات منفصلة. والأصباغ، من أجل استحضار جاذبيّة المرأة الأثيريّة والصوفية. باسيل يثير ردّ فعل عاطفيّاً مع هذه اللوحات، من خلال الهويّة الهادئة للحاضنة. إنه يصبغ أعماله بشعور لا يخلو من الغموض في هذه القصّة الخياليّة».
يستمر المعرض حتى نهار السبت الواقع في السادس والعشرين من شهر تشرين الأوّل/أكتوبر الجاري.

* «كان يا ما كان»: حتى 26 تشرين الأول (أكتوبر) ـــــ صالة Art on 56th (الجميزة ـ بيروت) ـــ للاستعلام:01570331