لا تقع استعادة جورج أورويل (1903 ــــ 1950) عربياً اليوم، في باب الموضة الأدبية، بقدر ما هي ضرورة جمالية في معنى إزاحة اللثام عن أكثر الموبقات السياسية حضوراً في قرننا المضطرب: الدكتاتورية والاستبداد وتزوير التاريخ، وتالياً «تصنيف الكائنات البشرية كالحشرات». كتاب «جورج أورويل: الأعمال السياسية والأدبية» الذي سيصدر قريباً في مجلدَين («دار نينوى»، ترجمة وإعداد أسعد الحسين) هو الحديقة الخلفية لروايتيه الاستثنائيتين في تاريخ الأدب العالمي «مزرعة الحيوان»، و«1984». كأن كتاباته السياسية ومقالاته النقدية هما السماد الذي خصّب تربته التخييلية المفزعة والعابرة للأجيال والأمكنة، فما كان يصح أوروبياً في أربعينيات القرن المنصرم لجهة الاستبداد والعصبيات القومية والأوثان السياسية، يبدو بضاعة مرغوبة عربياً لفرط التشابه في المعايير والمقاييس والنكران. كاتب نبوءات من طراز خاص، ذلك أن الخرائط المتخيّلة التي رسمها في زمنه بخصوص الأنظمة الشمولية والثورات المنهوبة وأحوال الخنوع والاستسلام، تحوّلت اليوم إلى حقائق دامغة «ألغت الديكتاتورية حرية الفكر، وباتت تملي عليك ما ستفكّر فيه، فهي تخلق لك أيديولوجيا، وتحاول التحكّم بحياتك العاطفية، تحبسك في كون اصطناعي ليس لديك فيه أي معيار للمقارنة» يقول.

كانت الحرب الأهلية الإسبانية (1936) بوصلته الأولى في تفكيك وتشريح وهتك عنف السلطة وتزييفها للحقائق، مبرّراً هذه الانعطافة بقوله: «حين تكون على متن سفينة غارقة، لا يمكنك التفكير إلا بالسفن الغارقة». شيوعي مرتد، يساري حيناً، ومستقل حيناً آخر، بأرجوحة من الأفكار المتضاربة في السياسة والنقد الأدبي، تبعاً لحركة الزلزال حينذاك. سيستدرك بأن «الولاءات للجماعة ضرورية، لكنها سامة للأدب»، وسيصف المثقف وسط دوامة الحروب والاضطرابات بأنه «محارب عصابات غير مرغوب فيه إلى جانب جيش نظامي». أهمية كتابات وأفكار ورسائل جورج أورويل تكمن في قدرته على إضاءة أكثر الأسئلة التباساً في ما يتعلق بعمل الكاتب ومهمته في فضح الأكاذيب وطمس الحوادث المادية وعفن الديكتاتوريات، من دون رياء فكري: «يعتقد الشموليون أن الكاتب، إما مجرد مضيف مسلٍّ أو سائق عربة مرتشٍ، يستطيع تبديل مواقفه من جانب دعائي إلى آخر بالسهولة التي يبدّل فيها عازف الأرغن النغمات».
«الأعمال السياسية والأدبية» تصدر قريباً في مجلدين عن «دار نينوى»


الهجاء والفضح والتحدي سمات أساسية في سرديات هذا الكاتب البريطاني الذي عاش باسم مستعار، وتنبأ باكراً بمصير العالم الذي ستحكمه طغمة بوليسية تبطش بأحلام البشر لتحوّلهم إلى أرقام وضحايا للمراقبة والعسف وتهييج مشاعر الكراهية. في نزهاته النقدية بعناوينها المثيرة مثل «من هم مجرمو الحرب؟»، و«سياسة التجويع»، و«كتب مقابل السجائر»، و«لماذا لا يؤمن الاشتراكيون بالمرح؟»، يلخّص أمراض العالم وتناقضاته وأوجاعه، والخلط بين القومية والوطنية وضرورة التمييز بينهما، بوصفه حليفاً للمقهورين. هذا «دونكيشوت» آخر، يتنزّه على «دراجة هوائية» بدلاً من فرس هزيلة في محاربة طواحين الهواء!