«ليست الجنة هي ما نفتقد، وإنما عصر الثورات» (رواية «ثورات»، جان غوستاف لوكليزيو، نوبل للآداب 2008)يفتح اقتباس لوكليزيو مساراً للحديث عن معنى الثورات وأسبابها ونتائجها. ولنتمكّن من وضع سياقات عامة تنظيريّة لأي حراك جماهيري، لا يجب أن يكون نظرنا من مشهد ثابت، بل من مسار مُتحرّك بين الماضي والحاضر يشمل العوامل التاريخية والاقتصادية والاجتماعية، ومن خلاله يمكن رسم معالم للمستقبل.
يشكل الحراك الجماهيري في لبنان مشهداً مُشرقاً حيث نجد الغضب من الفساد وطلب تحسين ظروف المعيشة وتغيير الوضع السياسي. كل هذا لا يختلف على تأييده أحد. لكن رغم صغر حجمه، إلا أنّ لبنان كبير التأثير، فكما يقول الباحث أحمد دهشان في ورقته البحثية المعنونة بـ «شو هو لبنان» إن «طريق فهم السياسة العربية يبدأ من لبنان، لأسباب عديدة أهمها أن كل ما في العالم العربي من تنوع وتناقض موجود حصراً في لبنان. فهو الممثل الحقيقي للعرب من المحيط إلى الخليج بأفكارهم وأيديولوجياتهم وعقائدهم ومذاهبهم وأديانهم وأعراقهم، ونجاحاتهم وإخفاقاتهم بل حتى خيباتهم ونكساتهم، هذا الأمر لن تجده مجتمعاً في مكان واحد سوى لبنان. هذا البلد الصغير الذي قرر الجميع أن يكون ساحتهم المفضلة لإدارة الصراعات فيما بينهم على أرضه، وهذا الأمر يعطيه أهمية خاصة كمدخل لفهم خريطة الصراعات وتوازنات القوى في المنطقة ولمن تميل».
من هذا المُنطلق، فإن التعاطي مع مجريات الأمور وحركة الجماهير في لبنان بمنطق من التبسيط والتهليل والتأثر بالحنين لهبات جماهيرية حدثت عام 2011 بداية من تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن وقد أثبت جميعها وبمقادير مُختلفة ـــ عدم نجاحها في إحداث تغييرات ملموسة لصالح المواطن على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بل أدت إلى تدمير دول بأكملها، ما هو إلا طفولة ثورية عائدة إما لقراءات سطحية، أو لأهداف أخرى تتعلق بقوى إقليمية تجعل من تدفق الجماهير العفوي ومطالبها وغياب أي قيادة للحراك خادماً لمصالحها.
مزجٌ أول:

حراك مفاجئ والكل في المركب
بداية، ما هو تعريف الثورة؟ في نظر الفيلسوف الشيوعي الماوي آلان باديو، الثورة لا تعني حشد وخروج الناس إلى الشارع، أو عمليات كرّ وفر بين الأمن والمتظاهرين وحرق مقارات للأحزاب والمؤسسات الحاكمة، ولا حتى تغيير السياسات، فهذا كله لا يرقى لمسمى ثورة، بل قد يكون انقلاباً أو إصلاحاً أو لا شيء. فالثورة لدى باديو ترتبط بظهور «الفعل السياسي المبتكر»، وهذا الفعل المبتكر يعدّ المعيار المركزي لقياس مدى فاعلية الحراك الثوري، والعامل الأساس للحفاظ على دينامية الثورة حتى نجاح كل أهدافها. والسؤال الثاني هنا: هل نجد فعلاً سياسياً مُبتكر في الاحتجاجات اللبنانية؟ لا يمكن أن نجيب بشكل حتمي بنعم أو لا، لكن نجد ظاهرة جديدة وهي «التناغم/ التلاحم» بين قوى ثورية شبابية ومُتحررة غالباً من الفكر الإيديولوجي سنطلق عليها «قوى الهامش»، والقواعد الشعبية للتيارات التقليدية التي انبثقت بعد اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990 وسنطلق عليها تسمية «قوى المركز». وقد حدثت استجابة سريعة (تظاهرات وتمزيق صور لشخصيات قديمة على الساحة اللبنانية مثلاً في صور والنبطية معقل رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري و«حركة أمل») وتم التنسيق بين فصيلين مُختلفين تماماً من الناحية الطبقية والفكرية والإيديولوجية والدينية، وفي الأهداف المرجوة من الحراك أيضاً على المدى البعيد.
هذا الاختلاف بين الطوائف المتظاهرة، هو ما يشكل نقطة زخم للحراك ولكنه قد يشله ولا ينبثق منه إلا تسلق أوليغارشية مالية جديدة تعزز مراكزها عبر اكتسابها شعبية في الشارع قد تمكنها من الحصول على مقاعد في السلطة، وهذا ما قد تلمّسناه عبر تدفق فنانين ورجال أعمال للرقص والغناء، بل قيادة الحِراك الجماهيري.
كان الوضع الاحتجاجي مربكاً وفجائياً وقوياً، خصوصاً أنّه جاء مدعوماً مِن الهامش أو ما يمكننا أن نطلق عليه الكتلة الحرجة الصامتة البعيدة عن العاصمة والبعيدة عن النظام السياسي بأكمله، ولا تستهويها اللعبة السياسية، وهذا ليس بالضرورة نتيجة الفقر فقط، لكن هناك بُعد ثقافي راجع لصمت أبناء الهامش، فهم الأغلبية التي لا تعبر عنها قنوات إعلامية أو صحف يومية، ولا تخالط الأوساط الإيديولوجية التقليدية، وتعاملها مع مؤسسات الدولة الضعيفة أساساً يمكن أن نصفه بشبه المعدوم. كما أنّ الهامش يملك نوعاً خاصاً من الفكر والفنون لا يتقاطع مع الفكر والفنون والثقافة النخبوية للنظام أو لمعارضته.
وبالحديث أكثر عن قوى الهامش، نجد أنها كانت في حالات كثيرة خارج المسرح السياسي والاجتماعي، ولم تكن طرفاً مع الطبقات الوسطى نخبوية الطابع غالباً، والتي تفكر بشكل أبوي وتبني وجودها بوصفها الوكيل الحصري في التعبير عن حقوق الجماهير، إلى جانب خلقها واجباً أخلاقياً وهمياً تعيّن نفسها من خلاله مُشرعاً ومخططاً لمستقبل الجميع، بالطريقة التي تناسب طابعها النخبوي، وتخدم مصالحها. ولهذا بدا النظام الاجتماعي والسياسي اللبناني الأوليغارشي مطمئناً جداً على مدى عقود تجاه ذلك الهامش الذي لا يعرف السياسة، ومطمئناً إلى قدرة نظام المحاصصة الطائفي ونخبه التي تعيد تدوير وجوه سياسية فاسدة خلال كل استحقاق انتخابي، بالإضافة إلى جزء سنشرحه بشكل أكثر تفصيلاً يتعلق بنظام الشركات النيوليبرالية التي صارت تحاصر بيروت، مولدةً الفقر ومنتجةً للطبقية، وأخيراً قدرة الحرس الخاص والميليشيات التابعة لأي طرف السيطرة على أي تهديد تقليدي من قوى المركز السياسية. وبالتالي صار لبنان في وضع حرج: لا قوى قادرة على إعلان موت النظام القديم، وفي الوقت ذاته تعلن عن ولادة نظام جديد.
مزجٌ ثان:

هتافات ولقطات جميلة... ولكن!
قال المراسل الصحافي البريطاني جون آر برادلي (1970) في كتابه «ما بعد الربيع العربي» (ترجمة مؤسسة هنداوي ـ 2013): تملَّكني الفزع عندما ذاعت أنباء اندلاع انتفاضة شعبية (...) لم يكن السبب في ذلك أني أحمل أي تعاطف تجاه رئيس دولة مستبد (...) كان يمسك بمقاليد الحكم منذ أكثر من عقدين من الزمان. وكذا لم يختلف حالي كثيراً تجاه عائلته التي نهبت ثروات البلاد عن آخرها. تدفق آلاف إلى الشوارع، وكنت أعرف السبب. غير أنه في الوقت الذي اعتبر فيه أغلب صحافيي الغرب أن الاضطرابات التي يشهدها الشرق الأوسط خطوة نحو الديمقراطية، كان لي رأي مخالف؛ فالإسلاميون الذين يتوقون إلى إقامة دول إسلامية وفرض الشريعة الإسلامية هم من سيَخرجون منتصرين من الفوضى الحالية». هذا المقتطف ليس توجيه اتهام للإسلاميين ولا للشريعة، لكن المقصود منه: هل يدرك الثوار من سيلتقط التفاحة بعد مجهودهم في هز الشجرة؟ كما يقول عبد الرحمن بن خلدون (1332- 1406) «الظفر بالبُغيَة» أي بلغة أبسط «العِبرة بالخواتيم». فقد تكون البداية مُشرقة والنهاية كارثية، خصوصاً في ظل ثقافة سياسية طائفية مديدة تستمد سلطانها من قوى عابرة لحدود لبنان الصغيرة، من السعودية إلى إيران فسوريا وحتى فرنسا وإسرائيل، يتم تداول هذه العلاقات من جيل إلى جيل سواء كانوا إسلاميين أو يساريين أو قوميين أو ليبراليين.
لنأخذ الشعار الأبرز للحراك اللبناني «كلن يعني كلن»: صحة هذا الشعار ضد سلطة وطوائف في عمومها فاسدة، مقرونة بوضعه في سياقه، حتى يُكتب له التحقق والانتقال من مجرد شعار إلى خطة عمل، وإلا انقلب وصار أزمة سياسية واجتماعية مستفحلة وممتنعة عن الحل. لذا كان الوعي السياسي بحاجة ماسة للتغيير، وهو أول خطوة لكسر نطاق أزمة الحكم التي انبثقت في 1990، والخطوة الأولى تلزمها خطوة ثانية هي «التنظيم» أي وضع قوام لقوى سياسية طليعية تنهض بدور التعبئة والتمثيل والقيادة الجماهيرية ونيابة عن المهمشين ومَن لا تستهويهم النضالات السياسية. وعبر توفر الشرطين (الوعي السياسي والتنظيم) نكون أمام حالة من النضوج الشرطي اللازم للحديث عن أي تغيير جاد في المجتمع اللبناني.
هذا لا يعني التحدث من مقعد الأستاذية والتنظير الفارغ، لكن فقط من باب الإشارة بحذر إلى بلوغ المجتمع حالةً من الفراغ السياسي والدستوري الذي قد يفاجئ الشارع المنتفض بالفوضى. وإلى الآن، يبدو بأنه لن يستطيع أن يتعامل معها خصوصاً أن الانتفاضة اللبنانية صارت أقرب إلى الكرنفال منها إلى الفعل السياسي الذي يمكن أن نشاهده في تشيلي والإكوادور مع اختلاف السياقات الاجتماعية طبعاً. هذا بالإضافة أنني لا أود الإشارة كثيراً إلى وجود أطراف خارجية يمكنها استغلال هذا الفراغ لدفع الناس للتخندق مرة أخرى خلف طوائفهم وبداية حرب إقليمية جديدة بين أبرز المتنافسين السعودية/ إيران على الأرض اللبنانية.
لذلك يبدو ملحّاً إخراج المجتمع السياسي والأحزاب من الجدل النخبوي والسياسوي الذي يستنزف الجهد والوقت ويجعل الشارع يخلو تدريجاً وينتهي الحراك كما لم يكن، ويكرّس المتبقي من أجل تنظيم مؤتمر وطني تشارك فيه كل الطوائف بلا استثناء من قوى سياسية وأحزاب ومنظمات حقوقية وعمالية من أجل النقاش حول رؤية وطنية وهندسة نظام حكم بديل على أساس توافق وطني بين كل الأطراف. وهذا أحد الحلول التي قد تكون واقعية لا تنظيرية أو حالمة، خصوصاً أن الحراك يعاني حالة فراغ، إذ لم يطلقه حزب ولا تحالف مهني ــ على شاكلة التجربة السودانية- ولا يجد له ظهيراً سياسياً قوياً ومحايداً. وطبقاً للمعطيات المتاحة، لن يتمكّن الشارع من الدفع باتجاه حكومة ثورية أو حكومة من خارج القوى السياسية التقليدية في لبنان، ولكن يمكن للشارع المحتج أن يُقصي بعض الفاسدين وملاحقتهم جنائياً، وأن يقوم ـــ بمشاركة إيجابية مع الحكومة التقليدية ـــ في صنع وخلق بيئة جديدة تسهم في نمو نظام جديد يقضي على عهد الطائفية، وهذه لعبة خطرة جداً تحاول التغيير من قلب الفساد، لكن تظلّ ذات معقولية في ظل وضع وتركيبة لبنان الصعبة.
أمّا بخصوص الصور الجميلة التي تجمع بين الظالم والمظلوم في ساحة ميدان رياض الصلح أو غيرها من المناطق، والصور العاطفية بين نيران الكاوتش المحروق أو صورة عازف أمام قوات الأمن... التي تشبه لقطات ربيع براغ وما تلاه من ثورات ملونة في أوروبا الشرقية وترك الحديث للأوليغارشية الفاسدة بالأساس، فهذا أمر رومانسي فارغ بلغة أكثر علمية وأقلّ حدة في النقد. مثل هذه التصرفات يمكن أن أضعها في نطاق مفهوم الـ empty signifier أي ـ طبقاً لمعجم إكسفورد ـــ مجرد مدلولات تُستخدم على نطاق واسع لكنها تبقى غامضة، ومتغيرة، وغير محددة، ولا تملك أيّ معنى. وإن صار لها مدلول، يكون مُختلفاً عليه بين الناس، وإن بدا ظاهرياً أنّ لها مؤيدين كثراً.
وعلى هذا الأساس العلمي الفلسفي، نجد أنفسنا أمام إشكالية حول كلمة «الشارع أو الشعب أو النخبة أو الناشط» الفضفاضة، لكن نجد الحل في ما طرحه إدموند بيرك المفكر والسياسي الإيرلندي، وأحد رواد الفكر المحافظ الحديث حيث يتساءل في كتابه «تأملات حول الثورة في فرنسا» (1790): «ما هو هذا الشعب؟ من يعرفه ويحدد مصالحه؟ هل رأيتم يوماً رجلاً يمشي في الشارع اسمه الشعب؟» ساخراً مما رآه مثالية من اليعاقبة الفرنسيين وحديثهم عن الشعب كمصدر للسلطات والتشريع. فالمفيد في طرح النظرة الرجعية (المحافظة) لبيرك بشكل ثوري، هو الحذر من استخدام مصطلحات فضفاضة والتدقيق في كل ما يصدر عن الحراك الثوري من شعارات. فإن لم يكن أبناء الثورة واعين لما يقدمونه من شعارات ونظريات وتعريفات ثورية وواقعية في آن، سنقع في ما يسميه بيرك «تمثلاً فاقعاً لمفهوم ميتافيزيقي خطير» أي سنخلق فراغاً مادياً يمكن للثورة المضادة استغلاله، أو أصحاب المصالح، فالجميع يمكن أن يطلق على نفسه ثورياً، وينقلب على أبناء الثورة للفوز بمكتسبات سقوط النظام في لبنان أو بقائه حتى وكل هذا يتم باسم «الشعب يريد...»

مزجٌ ثالث: اقتصاد يغدق فقراً
تقدم الباحثة والكاتبة إيمان شمس الدين قراءة للوضع الاقتصادي اللبناني عبر قراءة الكتاب الشهير للألماني هورست أفهيلد «اقتصاد يغدق فقرا/ التحول من دولة التكافل الاجتماعي إلى المجتمع المنقسم على نفسه». يعتبر أفهيلد أن المحك القويم الذي يحدد صواب أو خطأ السياسة الاقتصادية، هو المواطنون، أي جمهور المستهلكين، الذين يتكوّن منهم الشعب. هم المحك الذي يعتدّ به في تقويم السياسة الاقتصادية، فالسياسة الاقتصادية الناجحة هي السياسة التي تحقق للمواطنين، كل المواطنين، وفق هورست، النفع والخير. ويتساءل عن الآثار التي أفرزتها الصيغة الجديدة للاقتصاد العالمي على رفاهية بني البشر في العالم: هل استطاعت الفئات الموجودة في أدنى السلم الاجتماعي أن تشارك في قطف ثمار نمو الرفاهية في العالم، أم سببت التجارة العالمية الحرة تفاقم اللاعدالة على المستوى العالمي وتعميق التوترات وحالات عدم الاستقرار في المجتمع العالمي؟
تساؤلات مستحقة، ولو نظرنا إلى الدوافع الحقيقية للثورات المتنقلة في المنطقة بشكل عام وفي لبنان بشكل خاص، لوجدنا أن السياسات الاقتصادية التي عملت على إفقار الناس هي الدافع الرئيس للقهر الدافع للثورة، خاصة في ظل أنظمة الفرد الواحد، وأنظمة الأسرة المتوارثة للسلطة وبالتالي للثروة، أو أنظمة محاصصة طائفية يتقاسم فيها زعماء الطوائف والأحزاب السلطة والثروة كما في لبنان غالباً.
والمستقرئ لسياق الثورات التي حدثت في المنطقة من السودان إلى الجزائر إلى العراق وأخيراً لبنان، ورغم اختلاف الجغرافيا وحيثيات أخرى، يجد أن محركها الأساس هو احتكار السلطة المالية والسياسية وغياب العدالة الاجتماعية، وتفشي النظام الطبقي وتآكل الطبقة الوسطى الذي غالباً ما يؤدي إلى انهيار الدولة وتفكك المجتمع.
هذه ليست جذور المشكلة بل ظواهرها، إذ تعود جذورها إلى النظام العالمي الرأسمالي ومؤسساته العالمية والدول المتحكمة به، على رأسها الولايات المتحدة، التي تربط سياساتها الخارجية وفق محاصصات تقوم على مدى الولاء والخضوع لتلك السياسات، فهيمنتها على أغلب المؤسسات الدولية والمالية، يخوّلها وضع شروط خاضعة لهواها السياسي وإنزال عقوبات اقتصادية وفق ذلك، بحق كل دولة تسوّل لها نفسها معارضة سياساتها الخارجية، أو تحاول اتخاذ مواقف مناهضة لسياساتها كالحال مع إيران. هذا ما رأيناه مع فرض الولايات المتحدة حصاراً شديداً على إيران في الآونة الأخيرة وعلى حزب الله في لبنان. إذ عمدت إلى منع التداول بالدولار مع لبنان، الذي يعتمد في تداولاته المصرفية على الدولار لا الليرة، إضافة إلى ثبات قيمة صرف الدولار بالليرة اللبنانية مدة طويلة من الزمن. هذه العقوبات التي تتحكم بها الرأسمالية العالمية، كنوع من الضغط على خصومها لتدفعهم للتنازل والخضوع، أو لتثوِّر القاعدة الشعبية ضدهم بعدما عانت من حالة الفقر والحرمان تدفعها مع التقادم إلى الثورة على كل شيء من دون وعي لجذور الفساد الحقيقية، ولمكامن الخلل التي يجب فعلياً مواجهتها ومعالجتها. لم يعد هذا النظام العامل محلّ ثقة واطمئنان الشعوب جراء ما يولده من أزمات، وما ينجم عنه وعن ممارساته التعسفية تجاه خصومه من زيادة حدة التفاوت الاجتماعي، وغياب العدالة الاجتماعية المحققة للاستقرار والأمن. وغياب العدالة يعني بالضرورة غياب الاستقرار واهتزاز الأمن الاجتماعي وأمن الوطن، فضلاً عن احتكار الثروة وازدياد حجم البطالة والفقر وفقدان ملايين الناس أعمالهم ومصادر رزقهم.
ورغم أن هذا النظام ليس الأصلح في تحقيق العدالة الاجتماعية ومعالجة البطالة وزيادة فرص العمل وتحقيق التوازن بين شرائح المجتمع والتنمية المستدامة وحفظ البيئة وحق الأجيال في الصحة والغذاء والسكن، إلا أنه ما زال المهيمن والمسيطر بفعل التطورات السياسية والعلمية والتكنولوجية، وما نتج عن ذلك من بناء مؤسسات مالية ونقدية تتحكم بالنظام المالي العالمي وما تستحوذه الدول الصناعية على رأسها الولايات المتحدة.
هذا النظام في أحد أبعاده وأضلعه المهمة يعتمد على سياسة الاستهلاك والدفع باتجاه ثقافة الاستهلاك، ولا يتم ذلك إلا من خلال ما أسميه «صناعة وهم الحاجة». هذه الصناعة التي تقوم بها شبكات الإعلام والإعلان الكبرى بتقنية ومهارة عالية تعتمد على نظريات علم النفس الإعلامي، الذي يشتغل على منطقة اللاوعي في عقل الإنسان ويسيطر على مجاله الإدراكي، ويصنع له في مخيلته وهم الحاجة، أي حاجات هي في حقيقتها كماليات ترفيهية، تحولها لضروريات تصبح سلوكاً اجتماعياً يفرض على الفرد اتّباعه، حتى لا يكون شاذاً عن ذلك المجتمع أو متدنياً عنه طبقياً. إلا أنها تثقل كاهل الفرد والمجتمع بسياسة استهلاكية تستفيد منها الشركات الرأسمالية العابرة للحدود. ورغم نسبة الفقر المرتفعة، وتدنّي مستوى الأجور، وزيادة البطالة في لبنان، إلا أننا نجد هيمنة لشركات كبرى ونزوعاً لدى الفرد اللبناني نحو الترف ووهم الحاجة الذي جعل من كمالياته ضروريات، حيث أحاطت بسوق لبنان الشركات الرأسمالية العالمية ودفعت الفرد إلى شراهة الشراء غير المقنن عقلاً ومنطقاً.
إن النظام النيوليبرالي الرأسمالي أثبت فشله في إدارة الأزمات المالية الكبرى التي كان هو أحد ضحاياها. وتحت شعار تحرير الاقتصاد من الحكومات وكل رقابة، وقع هو فريسة عدم الرقابة وعدم وجود ضوابط. وعليه، تدخلت الحكومة الأميركية ـــ في أزمتها الاقتصادية الأخيرة عام ٢٠٠٨ وانهيار الاقتصاد العالمي ـــ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهو ما يخالف التحرير الكلي ومنع الرقابة على سوق المال والاقتصاد، ويناقض مبدأ «دع السوق يعمل» وهو كفيل بإيجاد التوازنات المطلوبة اقتصادياً ومالياً.
وكما يقول الوزير السابق محمد فنيش في ورقته المعنونة بـ «الولايات المتحدة الأميركية مسؤولة عن تداعيات الأزمة المالية وحروبها العالمية» إنّ «الدولة ليست سلطة فوقية تختزل دور الفرد والجماعة، ولا تستقيم أمور المجتمع إلا بتعيين سلطة تنبثق عنه، وترعى مصالحه المشتركة، وتلبي طموحاته واستقرار أطروحة الوسطية، بين غلو الاشتراكية في إلغاء الفرد الإنساني، وجنوح الرأسمالية نحو الجشع وحرية الفرد البعيدة عن الرقابة والقيم الأخلاقية». ففي القرن التاسع عشر، قامت كل من الولايات المتحدة وألمانيا بانتهاج السياسة الضرورية لحماية قطاعهما الصناعي الناشئ من مغبة المنافسة البريطانية غير المتكافئة.
الثورة لدى آلان باديو ترتبط بظهور «الفعل السياسي المبتكر» الذي يعدّ المعيار المركزي لقياس مدى فاعلية الحراك الثوري


ويتساءل هورست أفهيلد في كتابه «اقتصاد يغدق فقراً» عن السبب الذي يمنع الدول النامية من أن تنتهج لنفسها الاستراتيجية نفسها حتى لو كانت الحماية التجارية في نهاية المطاف، ستفضي إلى تفكك نظام الاقتصاد العالمي كلية، فلا ريب ــ وفق هيرست ــ أنه يمكن تلافي هذه المخاطر من خلال تأسيس تكتلات إقليمية تضمّ دولاً بلغت المستوى نفسه من التطور الاقتصادي والمستوى التكنولوجي. ففي إطار هذا التكتل أو ذاك، يغدو تحرير التجارة مع الدول الشريكة بالتكتل نفعاً أكيداً. لبنان لا يستطيع نسج شراكات اقتصادية مع دول كأميركا والغرب لأسباب وجيهة أهمها عدم وجود ارتباط جغرافي وتاريخي مشترك، فأي شراكة اقتصادية جديدة أو تكتل اقتصادي جديد، لا بدّ من أن يكون مع الشريك الجغرافي والتاريخي، كسوريا وتركيا والعراق وعَمّان وإيران وروسيا والصين وصولاً إلى اليمن وعُمان، فامتدادات الجغرافيا طولياً وعرضياً تجعل من سوريا مفتاحاً ضرورياً من البر، ولبنان يمتلك ثروات منها الزراعة ويحتاج تفعيل الإنتاج الزراعي وتصديره إلى الخارج كإحدى وسائل الاكتفاء الذاتي الاقتصادي.
ما يجب معالجته كمطلب رئيس من قبل الثوار إن صدقوا، هو الوقوف في وجه المسار الذي اتخذته ـ كما يقول هورست ـ الصيغة المتحكمة في الاقتصاد العالمي حالياً. مسار صار يهدد رفاهية الجماهير العريضة، وهو ما يجسد ثورة عارمة وفق هورست، ويشكل شرطاً ضرورياً لتأسيس الدول العربية والإسلامية ومنها لبنان لتحقيق التكافل والعدالة الاجتماعيين.

قوى الهامش لم تكن طرفاً مع الطبقات الوسطى نخبوية الطابع غالباً، والتي تفكر بشكل أبوي وتبني وجودها بوصفها الوكيل الحصري في التعبير عن حقوق الجماهير


وكما يقول الوزير السابق محمد فنيش إن المسؤولية تقتضي، الانتقال إلى مرحلة جديدة قوامها الشراكة والتعاون لمواجهة أزمة المديونية العامة والمشكلات الاقتصادية لبلورة إرادة سياسية في سلوك الإصلاح اللازم والضروري للنهوض بالوطن ومعالجة مشكلات الفقر وتأمين التنمية المستدامة، وهو ما يتطلب إعادة النظر في السياسات الاقتصادية العامة، والابتعاد عن الاتجاهات النيوليبرالية التي برزت في السنين الماضية لإعادة بناء إدارة كفوءة لا غنى عنها لقيام الدولة بمسؤولياتها وإدارة مرافقها، واعتماد مبدأ الكفاءة بعيداً عن المحاصصة والاستنساب والولاء السياسي. وتحرر الإرادة الاقتصادية يتطلب تحرير الإرادة السياسية من التبعيات الحزبية والخارجية، واتخاذ قرار جريء في ظل الصراخ المتصاعد من الفساد في الشوارع والذي أقفل الطرق وعطّل المؤسسات. هذا القرار هو التحرر من الاقتصاد الرأسمالي النيوليبرالي وبناء تكتل مع دول الجوار، ووضع رؤية مستقبلية لهذه الخطوة الجريئة، ولو تطلب ذلك زمناً طويلاً لتحقيقها، إلا أن مجرد اتخاذ القرار والبدء بالخطوات الأولى ـ مهما حاول أصحاب القرار في النظام العالمي عرقلتها ـ هو بذاته قرار مقاوم يتطلب سياسة اقتصادية مقاومة لا تقلّ أهمية عن المقاومة العسكرية في مواجهة المخاطر المحدقة بأمن لبنان من جهة فلسطين المحتلة، خاصة بعد الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي فجرت الشوارع في لبنان والعراق، نتيجة سياسات الإفقار الممنهج التي اتبعتها أميركا من خلال عقوباتها الاقتصادية، لهذه الدول المرتبطة ارتباطاً جنينياً بالنظام المالي العالمي. مما يدفع المعتصمين ــ إن كانوا جادين ـــ إلى وضع يدهم على هذا الجرح المحوري في جسد لبنان، وتحريره من الإرادات الخارجية والمطالبة بتحرير مصرف لبنان من تبعيته لهذا النظام الطبقي، كخطوة جوهرية في مسيرة مواجهة الفساد ومنهج الإصلاح المطلوب. وبعد استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري، باتت الحاجة ملحة لتشكيل لجنة مصغرة تأخذ في حسبانها وضع خطتين:
الأولى: حالية سريعة التفعيل تعالج بشكل عاجل وملح أهم الملفات الاقتصادية العالقة، التي تخفّف العبء عن كاهل المواطن، وتسحب فتيل التأزيم.
الثانية: متوسطة وبعيدة المدى تعمل على تشكيل رؤية اقتصادية تحاول فصل لبنان عن النظام المالي العالمي، والتأسيس لرؤية تعتمد على الجوار الجغرافي وامتداداته، فسوريا بوابتها على آسيا والخليج، ومصر بوابتها على القرن الأفريقي، وتركيا بوابتها على أوروبا، ويمكنها من خلال هذه المعادلة الجغرافية تشكيل تكتل اقتصادي ناشئ يؤسس لنظام يحمي صناعاتها الداخلية واستقلالها المالي. خطة تتطلب جهوداً كبيرة وتخطيطاً دقيق، وصبراً طويلاً لأنّ خلق أقطاب اقتصادية متعددة في قبال النظام المالي العالمي، سيواجه ممانعة من الدول الكبرى المهيمنة على الاقتصاد العالمي. إلا أنها مهمة ليست مستحيلة، ويمكنها ممارسة سياسة الأمر الواقع في حال آزرتها تكتلات اقتصادية ناشئة أخرى في المنطقة تتحالف معها لتنويع الأقطاب الاقتصادية.