القاهرة | على مدار ستة أيام بدءاً من اليوم (حتى 19 تشرين الأول)، ينظّم «نادي لكل الناس» تظاهرة استعادية لعدد من أفلام المخرج المصري داود عبد السيد (1946) تحت عنوان «محطات سينمائية لداود عبد السيد»، تمتدّ عروضها من بيروت (دار النمر ـ بدءاً من اليوم حتى 16 تشرين الأول ـــ وMansion يوم 17 تشرين الأول) إلى صيدا (سينما إشبيلية ـ 18 تشرين الأول) وغزة في البقاع (مركز «العمل للأمل» ـ 19 تشرين الأول)، وتضم عرض ستة من أفلامه الروائية الطويلة، تمثّل أهم إبداعاته وأفكاره وأسلوبه الفني. في ما يلي قراءة في هذه الأعمال وفقاً لترتيب إنتاجها وليس لبرنامج التظاهرة.يعتبر «الصعاليك» (1985 ــ 19/10 ــ العمل للأمل) المحطة الأولى في سينما داود عبد السيد الروائية، ولكن سبقه عدد من الأفلام الوثائقية أهمها «وصية رجل حكيم في شؤون القرية التعليم» (1976)، و«عن الناس والأنبياء والفنانين» (1980) وعدد من السيناريوهات التي كتبها ولم تصل إلى محطة الإنتاج. في «الصعاليك»، يتجلى أحد مقومات أسلوب عبد السيد الفني. أخذ قصة واقعية من صفحات الجرائد، وضعها في سياق درامي مستلهم، عن قصد أو غير قصد، من أعمال فنية سابقة، ثم صبغ الاثنين بأفكاره ومشاعره لإعطائها أبعاداً سياسية وروحية. عن حادث إطلاق نار بين شقيقين من رجال الأعمال الجدد نشرته الصحف وسيناريو، يتتبع بناء فيلم «بورسالينو» الفرنسي (إخراج جاك دوراي، تمثيل آلان ديلون وجان بول بلموندو ـ 1970)، الذي تمّ اقتباسه في عشرات الأعمال الأميركية والمصرية منذ ذلك الحين، ينسج داود عبد السيد لوحة بانورامية لرحلة صعود وسقوط طبقة أثرياء «الانفتاح الاقتصادي» التي ولدت في كنف الفساد المستتر للستينيات وترعرعت في بستان الفساد الوقح والمتفاخر بنفسه في السبعينيات. يقوم نور الشريف ومحمود عبد العزيز بلعب دوري الصديقين اللذين يتحولان من صعلوكين خارجين على القانون إلى رجلي أعمال كبيرين عبر سلسلة من الأعمال غير المشروعة، قبل أن تتحول الشراكة إلى تنافس والصداقة إلى خصومة تنتهي بقتل أحدهما للآخر.
بعد 25 عاماً من تخرّجه من «معهد السينما» (دفعة 1967) وست سنوات على عرض فيلمه الأول، يصدر لداود عبد السيد اثنان من أجمل أفلامه هما «البحث عن سيد مرزوق» (1991 ـ اليوم ــ س:19:00 ـ دار النمر) و«الكيت كات». انتهى عبد السيد من «البحث عن سيد مرزوق» قبل «الكيت كات» بثلاث سنوات، لكنه ظل حبيساً بسبب مشاكل داخل جهة الإنتاج، وتأجل عرضه حتى نهاية عام 1991، بعد ثلاثة أشهر من النجاح المبهر الذي حققه «الكيت كات». مثل كثير من أعمال عبد السيد ولد «... سيد مرزوق» من صفحات الجرائد، وبالتحديد عن واقعة جرت للفنان التشكيلي الراحل جمال كامل، الذي فوجئ بخبر عن اعتقاله بسبب جريمة سياسية لا يعلمها. وعندما ذهب لتسليم نفسه للشرطة حتى لا يصبح هارباً من العدالة، لم يجد أحداً ليتسلمه! منتهى العبث «الكافكاوي»! بنى عبد السيد سيناريو فيلمه على نهج رحلة دانتي إلى الجحيم والمطهر، التي عالجها الكثير من الأدباء والسينمائيين، كما فعل مارتن سكورسيزي في فيلمه «بعد ساعات العمل» (1985) الذي يشبه بناء «....مرزوق» إلى حدّ مذهل. يدور «البحث عن سيد مرزوق» خلال يوم واحد، يبدأ باستيقاظ يوسف (نور الشريف) الموظف البسيط، ليذهب إلى العمل قبل أن يكتشف أنه يوم عطلة، فيقرر أن يقضي بعض الوقت خارج بيته وتكون هذه بداية مغامرة متشعبة لا تتوقف حتى حلول صباح اليوم التالي. أما «الكيت كات» (1991 ـ 17/10 ــ س: 19:00 ـــ Mansion) فيعد أشهر وأنجح، وفي رأي كثيرين أفضل، أعمال عبد السيد استطاع من خلاله أن يحقق المعادلة الصعبة بين الجدية والجماهيرية، بين سينما الفن وسينما الترفيه. الفيلم مقتبس بحرية عن رواية «مالك الحزين» للأديب إبراهيم أصلان. وهو العمل الوحيد الذي يقتبسه عبد السيد من الأدب، بالرغم من اهتمامه الكبير بالأدب، ومن الأثر الواضح للكثير من الأدباء والروايات في أعماله، ومن المشاريع الكثيرة المأخوذة عن أعمال أدبية ولم ينجزها. والحقيقة أن الفيلم نموذج كلاسيكي وتعليمي للكيفية التي يمكن أن يتحول بها الأدب إلى سينما. يمتاز «الكيت كات» أيضاً بعذوبة وإنسانية، تحملها أعمال أصلان عادة، كما تحملها أعمال عبد السيد، وإن كانت تتخفى عادة تحت قناع التحليل العلمي الصارم والتأمل الفلسفي العميق.
يعتبر «أرض الخوف» أكثر أعماله «ميتافيزيقية»


النجاح الكبير الذي حققه «الكيت كات» رسخ اسم داود عبد السيد كواحد من كبار مخرجي الثمانينيات، أو ما يعرف بـ«الواقعية الجديدة»، ما فتح أمامه أبواب الإنتاج المغلقة، وأثار رغبة الكثير من النجوم، من فاتن حمامة وحتى الراقصة لوسي، للعمل معه. كانت فاتن حمامة قد عملت من قبل مع خيري بشارة في «يوم مر ويوم حلو» الذي يعد محطة متأخرة وهامة في مسيرتها الفنية، وربما كانت تفكر في شيء مماثل عندما قبلت العمل في فيلم داود عبد السيد «أرض الأحلام» (1993 ــ 18/10 ـ س: 20:00 ـ سينما إشبيلية) الذي أصبح بالمصادفة آخر ظهور لها على شاشة السينما. لم يحقق الفيلم نجاحاً ملحوظاً وقت عرضه، وبعض عشاق فاتن حمامة صدموا من الشكل الذي ظهرت به كسيدة عجوز هيستيرية ومضحكة. ولكن الحقيقة، عندما ننظر الآن إلى الفيلم بعد مرور أكثر من ربع قرن على صنعه، نتأكد أنه واحد من أجمل أدوارها على الإطلاق، وكذلك بالنسبة لشريكها في البطولة يحيى الفخراني، الذي يلعب واحداً من أفضل أدواره السينمائية. «أرض الأحلام» المأخوذ عن سيناريو للكاتب هاني فوزي، في المرة الوحيدة التي يكتفي فيها عبد السيد بالإخراج دون الكتابة، يعدّ أخف أعمال عبد السيد، وأكثرها بساطة، والثنائي الكوميدي الذي يتكون من حمامة والفخراني ليس له مثيل في السينما المصرية!
يعتبر «أرض الخوف» (2000 ـــ 15/10 ـ س:19:00 ـ دار النمر) محطة بارزة في مسيرة داود عبد السيد. أكثر أعماله «ميتافيزيقية» منذ «البحث عن سيد مرزوق». لكن هذه المرة العمل أكثر تركيباً وصانعه أكثر خبرة وثقة بالنفس. أمثولة عن الجنس البشري وأصحاب الرسالات على طريقة «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ ممزوجة بروح أفلام عصابات سكورسيزي ومسلسل «رأفت الهجان» على فيلم «دوني براسكو» (مايك نويل 1997). طبقات من السياسة والميثولوجيا والتناص الأدبي والسينمائي، في بناء محكم وسرد سلس وشخصيات واقعية بقدر ما هي تجريدية. بعد نور الشريف ومحمود عبد العزيز ويحيى الفخراني، يلتقي عبد السيد هنا بأحمد زكي في اللقاء الوحيد بينهما، قبل أن تتدهور صحة زكي ويموت بعدها بسنوات. هنا أيضاً أداء تمثيلي بارز ليس من أحمد زكي فقط، ولكن من حمدي غيث وعبد الرحمن أبو زهرة وعزت أبو عوف وفرح وبقية الممثلين. أداء جماعي يحمل نغمة العمل التأملية ويؤكدها، كمثال بارز على الطريقة التي يعمل بها المخرج المؤلف مع الممثلين.
مغامرة من نوع آخر في مسيرة داود عبد السيد هو فيلم «مواطن ومخبر وحرامي» (2001 ـ 16/10 ـ س:19:00 ـ دار النمر). عمل منخفض التكاليف، من دون نجوم، يرصد علاقة المواطن المصري بالقانون والسلطة، ودرجات السلم الاجتماعي والطبقي، محمّل بمستويات فكرية تخاطب المثقفين وهواة التأويل السياسي للأفلام، في قالب كوميدي غنائي يغازل جمهور «موسم العيد» الشعبي، متبل بالجنس والكوميديا وأغاني شعبان عبد الرحيم، الظاهرة الفنية الأكثر إلغازاً لسنوات ما بين القرنين في مصر! هل نجحت المغامرة؟ على المستوى التجاري نعم، ولكن هل يصمد الفيلم فنياً بعد 18 عاماً على عرضه الأول؟ سؤال متروك لجماهير اليوم.

* «محطات سينمائية لداود عبد السيد»: بدءاً من اليوم حتى 19 تشرين الأول ـ «دار النمر» (كليمنصو ـ بيروت)، «مانشن» (زقاق البلاط ـ بيروت)، «سينما إشبيلية» (صيدا)، «مركز العمل للأمل» (غزة ـ البقاع) ـ للاستعلام: 03/888763