رجل يجلس وسط المسرح بمفرده. تحيطه ثلاث شاشات من الجانبين والأعلى. «يا ليل غني معي آخر مواويلي» يغني الزجل كاحتفال بسيط في ليلة رأس السنة التي يقضيها وحيداً. المفرقعات تظهر على الشاشات. لا يمكننا الجزم بأن جاد حكواتي وحيدٌ على الخشبة. معه امرأة آلية، وفي رأسه صور عنيفة ونساء كثيرات، يرحن ويجئن في ذاكرته وخياله. ولكن الممثّل وحيد في مونودراما «مختبر إخفاء السر» (رؤية وإخراج: رؤى بزيع، أداء: جاد حكواتي) التي انطلقت عروضها أوّل من أمس وتستمرّ حتى مساء الغد في «دوار الشمس» (الطيّونة ــ بيروت). يحمل العمل توقيع فرقة «منوال» التي تأسّست عام 2014، كشراكة بين بزيع وجاد حكواتي. العمل الجماعي أبرز ما يميّز الفرقة التي يتوزّع نشاطها على ورش عمل مسرحيّة لأساتذة المدارس الرسمية والخاصّة، وأخرى مع شبان وشابات من فئات عمرية مختلفة، إضافة إلى الإنتاج المسرحي، حيث أنجزا وقدّما معاً مجموعة عروض من بينها «برزخ» و«ديستوبيا» التي أدّتها الفرقة العام الماضي. تسعى «منوال» في أعمالها إلى الاختبار والتجريب في السينوغرافيا وmultimedia إيماناً منها بأن المسرح يتّسع لعناصر بصريّة متنوّعة بوصفه مكاناً للفرجة وفق تعبير بزيع. وهنا تصبح السينوغرافيا الرقمية جزءاً من حبكة «مختبر إخفاء السر» (أنتج بمنحة من «المورد الثقافي» _ سينوغرافيا: رؤى بزيع ونغم حلو) حيث تظهر ضآلة الإنسان أمام الآلة العملاقة. يأتي صوت المرأة من مكان ما «أنا هوا ما فيك تشوفني»، يسألها كيف تحيا؟ وإن كانت تشرب المياه، وعن شكلها... لكنها تجيبه بما يزيد غموضها. المرأة الافتراضية غائبة وحاضرة. إنها غائبة عن عينيه، لكنه يشتهي الرقص معها، ولا يتوقّف عن محاولة تخيّلها كامرأة بالشيفون الأسود، وامرأة أخرى تسير على العشب. ينطلق العمل من هذا الحوار الواقعي الافتراضي، ليُدخلنا إلى رأس الممثل وذكرياته التي تفيض حين يقضي ليلته وحيداً. يرجع إلى الطفولة، إلى علاقته مع أمه، وحبه الأوّل في المدرسة... يحكي عن غراميّات لم يُكتب لأي منها النجاح. ينتقل العرض من العزلة إلى قضايا أخرى فلا نعود نعرف ما الذي يصيب الرجل حقاً. قالب درامي لليلة واحدة، يفتح نوافذ كثيرة على الخارج، على العالم السريع، والمدينة المتوحّشة، ودوّامة العمل الخانقة. لكن المسرحيّة تبدو مُثقلَة بهاجس التطرّق إلى مواضيع كثيرة دفعة واحدة وإن كانت مرتبطة: الوحدة والتكنولوجيا والاستهلاك الجماهيري وتأثيره على الوعي الجَمعي وسلطة الذاكرة والخوف كنوع من العجز. مواضيع تعكّر هذه الوحدة ووقعها على المتفرّجين. إذ أن التنافر بين الهواجس الفرديّة والجماعية يظهر جليّاً من دون نقلات سلسة في الإخراج العام، خصوصاً أن النصّ لم يستطع تجاوز مرحلة تقديم الحالات وعرضها، في حين بدا عاجزاً عن الإيغال في واحدة منها، أو مقاربتها بطريقة عميقة في علاقتها مع الشخصيّة التي تتطوّر حالتها النفسيّة وتتقلّب في ليلة واحدة. هذا التنقّل بين الثيمات، لم يكن من خلال النص فحسب. هنا تؤدّي الشاشات (فيديو مابينغ: عماد مبروك) دوراً أساسياً، خصوصاً في تظهير العالم السريع والمتحوّل: نرى أحذية وأطعمة وكل ما يمكن استهلاكه وصوراً ومشاهد تتنقّل بسرعة قصوى، بينما يركض جاد في مكانه أو يؤدّي رقصة عشوائية.
إلى جانب إنتاجاتها المسرحية، تقيم الفرقة ورش عمل مع فئات عمرية مختلفة

ربّما هذه أكثر المشاهد الجسمانيّة حركيّة في العرض، إذ بدا الجسد نفسه ودوره مغيّبين فيما تزيد الشاشات الكبيرة حضوره هشّاشةً على المسرح، كأنها تجسيد مباشر لفكرة ابتلاع الآلة للإنسان. إلى جانب حواراته مع المرأة الافتراضية، يدخل جاد أيضاً في حورات ذاتية يستعيد فيها ذكرياته ويقفز من قصّة إلى أخرى من قصص العنف اليومي المحيط به، لكن المرأة تبقى الهاجس الأوّل، إذ أن علاقته مع المرأة الافتراضية لا تنفكّ تشير إلى علاقته مع المرأة عموماً. صحيح أن الرأس ينفلت حين يكون الشخص بمفرده، إلا أن ذلك لا يبرّر تشتّت النص أحياناً، الذي لم يستطع الإخراج أن يضبطه دائماً ضمن سياق واضح. تخبرنا بزيع أن عنوان «مختبر» جاء من تعامل الفرقة مع المسرح على أنه مختبر للتجريب والبحث، إلى جانب اختبار الرجل لحالات مختلفة يمرّ بها خلال العرض. ليست الآلة التكنولوجيّة وحدها في المسرحية، فكل ما يحيط بالإنسان المعاصر هو آلة أيضاً: سلطة المرأة في رأس الرجل، والذاكرة الفرديّة وتجاربه الخاصّة التي ترميه بحالة من الخوف. «الخوف بينتج مجرمين مقتنعين إنهن بيستحقوا بركة إلهيّة» ردّدها حكواتي مراراً، كأنّه يمهّد لتحوّل شخصيّته بشكل مباشر، حين يتقمّص من العنف الخارجي شخصيّته الجديدة مع المرأة، ولو خيالياً. يقوم العمل على فكرة علاقتنا بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، لكنها بقيت محاولة أوّلية للخوض في هذه العلاقة التي لم نستطع أن نلمس تأثيرها الفعلي على الرجل الوحيد.
* «مختبر إخفاء السر»: 20:30 مساء الغد ــ «مسرح دوّار الشمس» (الطيونة ــ بيروت). للاستعلام: 01/381290