شوقي الماجري (1961 ــ 2019) الذي رحل أمس في القاهرة نتيجة ذبحة قلبية، ظاهرة تصعب الإحاطة بها، أو الإلمام بتفاصيلها كافة. مخرج آمن بقدرته على إعادة تشكيل العالم من حوله. سعى إلى ذلك بجهد وجدّ. كان الزمن يحتاج إلى الكاميرا التي يديرها شوقي حتى يستعيد بعضاً من توازنه المفقود. اتسم أداؤه بالجدية المفرطة، وكان حرصه على أن يخرج المشهد من بين يديه نقياً، ناصعاً، بالغ الإيحاء، يصل إلى حدود الهوس. تدين له الساحة المرئية بالكثير من علاماتها الدالة. وأغلب الظن أنّها بعد رحيله، ستكون غيرها قبل هذا الغياب المفجع والمدوي. أمكن للماجري أن يكون في حياته المهنية رديفاً للصبر. أثبت أنَّ بوسعه الانتظار سنين سبعاً لينجز فيلماً سينمائياً من عيار «مملكة النمل» (2012) فيمنح فلسطين وجهها التائه في مهب الشعارات والمزايدات، ويعيد تشكيل الخارطة العربية بعيداً عن خطوط المصالح وتعريجات الأهواء المشبوهة. تفادى المخرج المسكون بهاجس الإنجاز مطبات التمويل الخارجي واشتراطاته المقيدة، فأخرج فيلماً استثنائياً يحكي بشغف عن فلسطين، ويصوَّر بين تونس وسوريا، ويقتحم مهرجانات العالم، حاملاً معه الأنفاق التي تتسلل عبرها أحلام مجهضة. إنجاز لا يطال الحاضر وحده، ولا يقتصر على استدعاء المستقبل فقط، بل يلملم ملامح التاريخ أيضاً. خرج المخرج من العمل بخلاصة مفادها: فلسطين تستحق أكثر بكثير من كل ما أنجز عنها.غاص الماجري في التاريخ عميقاً، وسعه أن يقارب أحداثه العنيدة الصلبة من زوايا درامية مرنة. أعاد صياغة بعض السير المتداولة وفق رؤى معاصرة. عرّف المشاهد العربي إلى مقاربات مغايرة للحدث التاريخي الذي يشوبه الجفاف عادة: «أبناء الرشيد» عام 2006 و«أبو جعفر المنصور» عام 2008 و«نابليون والمحروسة» عام 2012. اختار لشارة المسلسل الأخير رائعة أحمد فؤاد نجم التي لحنها وغناها الشيخ إمام: «مصر يمة يا بهية».
في ما يشبه المفارقة المتمايلة على إيقاع الزمن، يأتي رحيل شوقي الماجري مترافقاً مع أحداث واقعية مفصلية تعيشها سوريا، التي تشهد اجتياحاً تركياً لأراضيها. وفي الأمر مدعاة لاستعادة الهيمنة العثمانية على الشرق العربي، تاريخ موجع شكّل مسلسل «أخوة التراب»، الذي أخرجه الراحل، مكافئه الإبداعي. مصادفة لعلها تحتمل الإشارة إلى حرص التاريخ على إنصاف المبدعين.
على صفحة الفايسبوك العائدة لشوقي الماجري، يطالعك اقتباس من كتاب «ذكاء الشر» للفيلسوف الفرنسي جان بودريار الذي صنفت أعماله في خانة «ما بعد الحداثة»، والذي كان التصوير الفوتوغرافي واحدة من هواياته العديدة، بما يضعه على تماس إبداعي مع المخرج، يقول: «إن الشكل الحالي للعبودية لم يعد شكلاً طوعياً أو قهرياً لغياب الحرية، إنما بالأحرى للإفراط في الحرية، حيث الإنسان، بعدما أنجز تحرره بأي ثمن، لم يعد يدري من أي شيء قد تحرر، ولا لماذا هو حر، ولا أي هوية عليه أن يلتزم بها. إنه شكل للحرية. بعدما تحول كل ما حوله إلى أشياء صالحة للاستخدام، لم يعد يدري كيف يحسن استخدام ذاته».
استعادة قد تصلح لتفسير بعض هواجس المبدع الذي شغله سؤال الحرية، وسعى ـ على اختلاف مراحل حياته ـ إلى تقصي الإجابة سواء على مستوى المنجز، أو في ما يخص الأداء الإبداعي نفسه. هكذا أمكنه أن يصوغ بصمته الخاصة التي لم تتأثر بالآخرين. مسلسل «الاجتياح» الذي أخرجه الماجري عام 2007 وهو من كتابة رياض سيف، شكّل محطة مهمة في المسيرة الإبداعية للمخرج الاستثنائي. تناول المعاناة الفلسطينية تحت الاحتلال، وشكل نوعاً من التوثيق اللحظوي لحدث معاصر، أبرز بطولة المقاوم الفلسطيني في مواجهة العدو المتغطرس.. وقد حاز العمل جائزة «ايمي» العالمية كأفضل عمل أجنبي.
مسلسل «الاجتياح» شكّل محطة مهمة في مسيرته الإبداعية


الفنانة أسمهان بكل تفاصيل حياتها الملغزة كانت أيضاً على لائحة الراحل، تناول سيرتها الذاتية بكثير من الشفافية والإحاطة، أمكن للمسلسل (2008) الذي حمل اسمها أن يسلط الضوء على خفايا التجربة الإنسانية المفخخة بكثير من الشوائب، قد لا يكون تعامل الأميرة مع المخابرات البريطانية أكثرها إثارة للاهتمام.
يمكن لعملية تتبع لإنجازات الراحل أن تقود إلى استنتاج خلاصته أنه كان مولعاً بتأريخ اللحظة، ربما خشية منه أن يؤدي بها الزمن إلى التلاشي أو التزوير، هكذا يمكن تفسير مسلسله «هدوء نسبي» (2009) عن الاحتلال الأميركي للعراق.. كان الحدث لا يزال ساخناً. مع ذلك، فقد أمكن للمسلسل أن يقدم توصيفاً هادئاً له، وأن يخرجه من إطار التحليل السياسي ليضعه في سياق التأريخ الموضوعي. وفي عام 2008 نال الماجري جائزة أدونيا عن مسلسل «أسمهان» ليحظى في العام التالي بالجائزة نفسها عن مسلسل «هدوء نسبي».
أبى المخرج الذي اتسم بهدوئه اللافت أن يغادر دنيانا إلا بعد أن يترك خلفه صخباً يليق بقدراته الإبداعية. مسلسله «دقيقة صمت» شكّل درة تاج الدراما العربية في الموسم الرمضاني الفائت، وكان مثار نقاش لم يتوقف حتى بعد انتهاء الطفرة الرمضانية المألوفة. أمكن للعمل التلفزيوني أن يخرج عن دائرة الاصطفاف البدائي بين النظام السوري ومعارضيه، ليشكل مساحة تأمل موحية في الأبعاد المترامية التي يمكن للإبداع الحقيقي أن يتيحها. كان من الأعمال النادرة التي يسع المشاهد أن يصنف كل المشاركين فيه كأصحاب بطولة مطلقة. وكان أداء الممثلين كلهم لافتاً إلى حدود بعيدة، كما كانت الاحترافية سمة ملازمة للجميع، حتى الأطفال الذين شاركوا في المسلسل بدوا ممثلين مخضرمين. وبالرغم من سوريالية الحبكة التي انطوى عليها «دقيقة صمت»، فقد أمكن للانضباط الإخراجي الذي عرف به الماجري أن يلقي بظله على الأحداث لتبدو بمنتهى الواقعية والقدرة على الإقناع. هكذا، ظلّ الماجري منكباً على الإخراج حتى رحيله.. بدا مستعجلاً في كل شيء... حتى في غيابه المباغت!