سيشير الجميع إلى هذه الصدفة الغريبة. انطلاق أسبوع «عراقيات» في بيروت، بالتزامن مع خروج الناس إلى المدن العراقية. هم أنفسهم سيستدركون ربّما، بأن العراق لم يغادر بال أحد في العقدَين الأخيرين، خصوصاً من سيحضر إلى الموعد مساء الاثنين 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) في «دار النمر للفن والثقافة». الأسبوع الذي تنسّقه القيّمة الفنية الفلسطينية رشا صلاح (بدعم من «مؤسسة روزا لوكسمبورغ») يحتفي بالفن والأدب والسينما العراقية المعاصرة، داعياً أبرز وجوهه إلى بيروت: التشكيلي ضياء العزّاوي والروائي والشاعر سنان أنطون، والفنان عادل عابدين، والمخرج سمير، بالإضافة إلى جيل جديد من فنانين لم يغادروا بلادهم إلّا من أجل ملاقاتها أو اختراعها أو العودة للتنقيب في تاريخها السياسي الثقيل. قد يكون الوصول إلى الفنانين المعاصرين مُتاحاً في كلّ الأمكنة إلّا العراق. إذ لا ينفصل تاريخه الفني المعاصر عن المأساة التي حلّت بالبلاد عام 2003. بعد أقل من شهر على الغزو الأميركي، احترق «المتحف الوطني للفن الحديث» ونُهبت مقتنياته، كأنّ عصر الحداثة الذي صنع اسم بلاد الرافدين ثقافيّاً، أفل تماماً واختفى اختفاء ماديّاً يضاف إلى اختفائه الزمني. أي ذلك العصر الذي لا ننفك نعود إليه في منحوتات جواد سليم، وقصائد السياب، والبياتي وسعدي يوسف والريادة الفنية الحديثة حين ظهرت مع «جماعة بغداد للفن الحديث» (1951) التي أسسها سليم وشاكر حسن آل سعيد. ترافق كل ذلك مع نقاش الأصالة، القابع بين همّ البحث عن الهويّة الجماعية في الميثولوجيا والإرث الجمالي الإسلامي، وفي التفاعل مع المدارس العالمية الحديثة. والعودة كانت دائماً إلى بغداد، المكان الذي اتّسع لكلّ ذلك، وصار معقل المعماريين وتصاميمهم الحديثة.
تفصيل من «الروح الجريحة» لضياء العزاوي

مع ثورة عام 1958 التي أطاحت بالملكيّة وأتت بالنظام الجمهوري، استجاب الفن لثورة أخرى شكّلت طفرة إبداعيّة تجديدية. أما النكسة الفلسطينية، فقد فتحت باباً لجماعات فنية أخرى حملت هموماً سياسيّة وجماليّة، ولجأت إلى الفن «كممارسة موقف إزاء العالم»، كما جاء في بيان جماعة «الرؤية الحديثة» (1969) مع ضياء العزاوي ومحمد مهر الدين وإسماعيل فتاح ورافع الناصري وآخرين. التصاق الفن بالتاريخ السياسي العراقي، جعل من الاحتلال الأميركي، نقطة تحوّل أساسيّة، وولادة لجيل جديد من الفنانين المعاصرين، الذين يعمل معظمهم في الشتات. ورث هؤلاء شيئاً من روّاد الحداثة، هو بحثهم الدائم عن عراقيتهم في الفن، التي مدوها بآفاق جديدة، وبممارسات أكثر تجريبية ومعاصرة، من النيو ميديا والفيديو والتجهيزات متعدّدة الوسائط والفوتوغرافية. لا يمكن أن ننظر إلى هذه التجارب بعيداً عن المنفى، الذي يكاد يكون شرطاً أساسياً من هوية الفنانين، أو هويّاتهم التي ما عادت مرتبطة بمركزية مكانيّة، بل صارت مفهوماً متحوّلاً باستمرار. يضيء «عراقيات» على تجارب أدبية وفنية وسينمائية وموسيقية. أما الدافع كما تخبرنا صلاح (راجع الكادر)، فهو غياب الفنانين العراقيين عن الساحة العربية، باستثناء بعض الغاليريهات والمعارض أبرزها «الفن العراقي المعاصر» (2012) الذي أقيم في بيروت، رغم أننا «مدينون للعراق بالكثير» وفق تعبيرها، إذ «ليس هناك أحد منا لم يقرأ رواية أو لم يستمع إلى موسيقى عراقية، أو لم يقرأ قصيدة لمظفّر النوّاب، أو لم يبكِ على مكتبات بغداد».
بدأ البرنامج كفكرة لإقامة سهرة فنية للموسيقى العراقية، قبل أن تتوسّع المشاركات. بطريقة أو بأخرى، أصبح هذا الأسبوع فرصة للمّ شتات الفن العراقي المعاصر، خصوصاً أن فترة الخمسينيات وما تلاها نالت حقّها «لا نستطيع أن نأسر العراق فقط بما نحبه وبما توقّف تفكيرنا عنده، الفترة التي تأثرنا فيها عاطفياً وفنياً وسياسياً وعروبيا... إنها مرحلة رائعة، لكننا نكون قد تجاهلنا فترة كاملة تزامنت مع الغزو الأميركي، ذلك الهجوم التتري الجديد على عالمنا العربي». يفتتح الأسبوع مع تجهيزين للفنانين عادل عابدين ومحمود عبيدي (7/10 ــ س: 18:30)، وفي الليلة نفسها توجّه الفنانة المسرحية رائدة طه تحيّة إلى العراق من خلال قصائد محمود درويش. وحين نتحدّث عن الأعمال الأدبية فلا يمكننا إلا أن نتوقّف عند تجربة سنان أنطون الذي يحلّ ضيفاً ليقدّم ندوة «ذاكرة الماء» (8/10 ــ س: 18:30). في زمن الحروب والخراب، سيعود الروائي والشاعر المقيم في أميركا إلى منبع الثقافة العراقيّة الحديثة، تلك التي شكّلت منبعاً لنصوصه ورواياته.
في «إعجام» (2003)، و«وحدها شجرة الرمان» (2010) و«يا مريم» (2012)، و«فهرس» (2016)، يشكّل العراق نقطة انطلاق لتأملات سرديّة أعمق مع الزمن والماضي، والجغرافيّات والمنفى والوطن والتحوّلات السياسية والاجتماعية الطويلة. يكتب سنان ربّما ليُشفى من ذاكرته، أو لكيلا يشفى منها، مجرّباً، بموازاة ذلك في أساليب القص والحبكة والسرد بالفصحى وباللهجات المحكيّة. كلّ الطرق تؤدي إلى بغداد، وكل قضاياها تسكن شريط «بغداد في خيالي» (11/10 ـــ س:18:30) للمخرج العراقي السويسري سمير. سيزور المخرج بيروت ليطلق فيلمه الروائي الذي صدر هذه السنة. مضى وقت طويل منذ غادر سمير بغداد، ربّما لذلك ما زال متمسّكاً بالحلم الذي يسفّره معه في الشريط إلى مقهى أبو نوّاس في لندن.
يريد للمقهى أن يتّسع لكلّ شيء، هكذا هو العراق بجيله اليساري وخساراته، وبنسائه الساعيات إلى الحريّة وبمثلييه الذين يطاردهم الموت إلى الخارج حين تلتقي كوابيس الديكتاتوريّة مع تطرّف السلفيين. يبدو الشريط محمّلاً بالكثير، ومتمادياً في الدراميّة إلا أن سمير يواصل البحث في مآزق البلاد وتحوّلاتها الجديدة. فعل ذلك في سينماه التوثيقية والروائية كما في «بابل 2» (1993) الذي تتبع فيه رواج موسيقى التكنو في أوساط المهاجرين في مدينة زوريخ، في «انسَ بغداد» (2002) حول يهود العراق الذين هجّروا إلى فلسطين المحتلّة، منقباً عن روابطهم مع العرب والعراقيين، أو في «أوديسا عراقية» (2014) سيرته العائلية للشتات خلال نصف قرن، بالتزامن مع التحوّلات الداخليّة من الحكم الديكتاتوري لصدّام وصولاً إلى الاحتلال الأميركي. تحاول «عراقيات» الإحاطة بكافّة التجارب، وهويات وثقافات المجتمع، والانقسامات والحروب الصغيرة التي حلّت بعده، أبرزها التجارب السينمائيّة التي تقدّم رؤاها الخاصّة والفردية والشاعرية للبلاد. سنشاهد تجارب سينمائية أخرى قصيرة هي أربعة أفلام (10/10 ــ س: 18:30). من قصّة عائليّة تنطلق المخرجة ناديا شهاب في فيلمها «حديقة أمل» (32 د ــ 2012) لتتطرق إلى حالة الأقليّات في المجتمع المعقّد، تحديداً الإثنية التركمانيّة. ومن خلال رحلة فنانين عراقيين ما بعد الاحتلال الأميركي، ينقسم فيلم «الناجون من ساحة الفردوس» (28 د ــ 2011) للمخرج عادل خالد، بين مصيرين، إما العودة إلى البلاد وإما الوصول إلى أوروبا. التجربة الفرديّة في المنفى هي ثيمة فيلم عادل عابدين «أيام مجنونة» (10 د ــ 2004) من خلال بطله اللاجئ الذي يتحوّل إلى شبح في فنلندا. يمرّ برنامج الأفلام على الحقبات المعاصرة كافةّ التي شهدتها البلاد، وصولاً إلى داعش في فيلم «سبية» (17 د ــ 2017) لضياء جودة الذي ينقل لنا حياة امرأة يزيدية ترفض مغادرة الشمال. ذاكرة الأبطال مثقلة في فيلم «ابن بابل» (90 د ــ 2009) لمحمد الدراجي الذي شكّل منعطفاً في السينما المحلية المعاصرة. يستعيد البرنامج هذا الفيلم (12/19 ــ س: 15:00) حول قضية المخفيين، ابتداء من لحظة سقوط النظام ليعود بالزمن إلى حرب الخليج من خلال المآسي الفردية والجماعيّة. لدى المخرجة بارين جادو علاقة أكثر شاعريّة مع بلادها في فيلمها «قوانة – الأسطوانة المكسورة» (75 د ــ 2013)، حيث تغوص في تاريخه على وقع أغنية تركمانية قديمة كانت تغنيها أمّها. ستلتقي المخرجة مع الجمهور لمناقشة الفيلم بعد عرضه (12/9 ــ س: 17:00). وأخيراً، لا بدّ من وقفة من الموسيقى العراقية وتاريخها. إذ يختتم المهرجان مع أمسية «الأغنية العراقية: استعراض تاريخي» (12/10 ــ س: 19:00) التي يقدّم فيها الناقد سامر المشعل نبذة تاريخية عن هذه الأغنية منذ القرن العشرين حتى اليوم، مستعيداً أبرز التجارب والأنماط الغنائية في البيئات المختلفة، بحضور الملحن كوكب حمزة الذي يعد أحد روّاد الحداثة موسيقياً. هذا ليس الختام تماماً. بعد بيروت، قد ينتقل «عراقيّات» بنسخة أخرى إلى برلين، حيث من الممكن أن تكون فرصة لاكتشاف التجارب العراقية في الداخل، والفنانين المقيمين في العاصمة الألمانيّة وفق صلاح. أما لماذا كانت البداية من بيروت؟ فتجيبنا بأنها المدينة رغم كل شيء، لا تزال محطّة للقاء وحاضنة ثقافيّة. وبهذا تجدد موقعها كقبلة للفنانين والكتاب العراقيين، الذين شكّلوا أبرز وجوه وسطها الثقافي والشاعري منذ منتصف القرن الماضي.

* «عراقيات»: 18:30 مساء 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) حتى 12 منه ـــ «دار النمر» (كليمنصو ـ بيروت). للاستعلام: 01/367013


رشا صلاح... المنافي العربية
حين نسأل رشا صلاح عن سبب اختيار كل المشاركات من المنفى، تخبرنا بأن ذلك لم يكن مقصوداً تماماً، بل إن معظم الفنانين مقيمون في الخارج، رغم تأكيدها ضرورة اكتشاف تجارب الداخل. لا يمكن لصلاح أن تنظر إلى حالة المنفى بعيداً عن الشتات العربي الكبير خصوصاً بعد كلّ ما شهدته عواصمه في السنوات الأخيرة. هي تعرف جيّداً علاقة المنفي مع بلاده، تلك العلاقة التي «تكاد تكون مرضيّة مع الوطن، ربّما لأنني لاجئة فلسطينيّة وأعرف هذا الشعور جيّداً». صلاح التي ولدت في مخيم عين الحلوة، جاءت إلى الفن من خلفيّة انثروبولوجيّة. سنة 2010، تسلّمت مهمّة المديرة المسؤولة عن المنح في «آفاق». بعدها كانت تجربتها الأبرز مع «دار النمر» في بيروت، الذي شغلت مديرته التنفيذية وساهمت في تأسيسه وبرمجته منذ 2016. وفق صلاح، فإن الدار سدّت نقصاً أساسياً في حاجة بيروت إلى الفن الفلسطيني والعربي، باستضافتها مواعيد فنية استطاعت أن تستقطب كل الأجيال والخلفيات الثقافية والاجتماعية. تتفرّغ صلاح الآن للعمل كقيمة فنية مستقلّة، وبقدر ما تهتمّ بالأعمال الفنية العربية المعاصرة التي باتت وسيلة ملحّة للتعبير السياسي، تهمّها أيضاً علاقة الناس مع الفن، وتلقيهم وتفاعلهم معه. وعما إذا كانت تفكّر بنسخ أخرى من «عراقيات»؟ تجيبنا «من الممكن أن أعمل على أسابيع ثقافية لمدن أو بلدان أخرى».
■ ■ ■

ضياء العزاوي: الروح الجريحة
في تاريخ الفن العراقي، تحلّ تجربة ضياء العزاوي (1939) كصلة بين جيل الحداثة في العراق والجيل الفني المعاصر. الفنان العراقي المقيم في لندن سيحضر إلى بيروت ليقدّم تجهيزه الفني بعنوان «الروح الجريحة: رحلة الدمار» (2010)، الذي سيتحدّث عنه الفنان خلال لقاء في «دار النمر» (9/10 ــ س: 18:30). العمل هو تحيّة لحوالى 450 أكاديمياً عراقياً، اغتالتهم عناصر مجهولة «استكمالاً لمهمّة الاحتلال الأميركي». يستحضر العمل التدمير الأكاديمي الممنهج الذي حلّ أيضاً بالمؤسسات التعليمية والمعاهد والجامعات في العراق ضارباً بنيتها التحتيّة الأكاديمية والثقافية. يتألّف التجهيز من حصان برونزي متحرّك يشير إلى حصان طروادة ومصاب بسهام. بالإضافة إلى حصان مصاب آخر، لكنه يتخذ وضعيّة اللبوة الجريحة في إحدى المنحوتات الآشورية في نينوى. فيما تحيط بهذين الحصانين مجموعة من ورود البورسلين البيضاء على عدد الأكاديميين المقتولين.
* لقاء مع ضياء العزاوي ــ س:18:30 ــــ 9 تشرين الأول ــ «دار النمر»