يجد عادل عابدين (1973) متّسعاً للسخرية من التاريخ العراقي المعاصر. وإذ يفعل ذلك فلأنّ الهزء والضحك لديهما قدرة فريدة على التشويش على المأساة. لا سعياً إلى مجابهتها، بقدر ما يجيئان كطريقة لتصريفها أو لمنحها نهاية أخرى. وفي حالة العراق، سيؤدي الضحك دوراً مزدوجاً، إذ يبدو انقلاباً أو نوعاً من التمرّد على إرث بكائيّ طويل في البلاد، سياسياً كان أم ميثولوجياً. ففي فترة حكم صدّام، وجب الهزء كوسيلة مراوغة للنقد السياسي، كما قال عابدين مرّة، لكنها ظلّت معه في ممارسته الفنية التي تتصدى للرموز السلطويّة في الذاكرة المحليّة العربية، كما في الصورة الغربيّة الشعبية. زارنا عابدين هذه السنة في بيروت. شاهدنا أحدث أعماله في معرضه «يا» في «غاليري تانيت».

يعود الفنان العراقي المقيم في فنلندا للمشاركة في أسبوع «عراقيات» حيث يعرض تجهيزه الفيديو الجديد «العودة إلى المستقبل» الذي يحتفي بالتراث الموسيقي والمغنى في بلاده. كذلك سيعرض فيلمه القصير «أيّام مجنونة» (10 د ــــ 2004) عن شعور بالعزلة يواجهه شاب عراقي في فنلندا (10/10 ــ س: 18:30). ينقّب عابدين في صور الأفلام ونجوم البوب، والأيقونات الدينية وسلطوية، ولقطات الميديا العنيفة، والإعلانات المبتذلة أحياناً لشركات الطيران التي دسّ فيها مشاهد من الاحتلال الأميركي، لإغراء المسافرين بالقدوم إلى العراق ضمن تجهيز فيديو «عابدين للرحلات» (2006). هنا لا يعود الأمر يقتصر على الهويّة العراقيّة، بل على أية الهويّة. إذ لا يستخدم صور ومشاهد الميديا، إلا ليبدّل مواقعها، ويلعب على تناقضاتها المباشرة أحياناً. يعيد تمثيل التمثيلات الإعلاميّة التي سطت على صورة العراق، للتلاعب بمعناه وتحويره لدى المتلقّي. في كلّ الحالات، اقترح عابدين مرجعيات جديدة، أو وسّع من مساحة لغته البصرية وإن كان يريد منها العودة إلى العراق أحياناً، محدّقاً بريبة في ماضيه وأساطيره.
لا تقبع أعمال عابدين ضمن المعنى البسيط للعلاقة بين الشرق والغرب، بل في تلك المسافة الشكّاكة التي تأخذها من الصور والمصطلحات والتاريخ والأحداث. هكذا شرّح في معرضه الأخير الاقتتال الطائفي الداخلي تحت رايات الآباء. فكّك صورة الآباء بمعانيها الدينية والسياسية والسلطويّة، كما رأينا هويّات على شكل وحل يغطي الأجساد ويُغسل بمضخات المياه، إلى جانب الذكريات الدموية والصادمة التي تنظّف بقفازين وبتعاليم بسيطة. ضمن تجربته الطويلة والمتنوّعة، هناك مساحة خاصّة للإرث الموسيقي والغنائي، كموضوع بذاته، يتجاوز حضوره كعنصر درامي فحسب أو كخلفيّة لأعماله. في تجهيز فيديو «ثلاث أغنيات حب» (2010) المؤلّف من ثلاث شاشات، عاد إلى الأغنيات التي صنعت أسطورة النظام ورهبة الديكتاتورية. عمل على لغة السلطة ومعانيها، وفضح هشاشتها. استعان بثلاثة أناشيد ممجّدة لصدام حسين ونظامه، تمتدح قوّته ورجولته بدمويّة. «بعيد بينا صبر والعاصية تهون... لأجل عينيك تهون رقاب ورقاب»، و«يا أبو الليثين، يا أبو المرجلة، غير ثوبك أبد ثوب ما حِلا».
يعيدنا إلى الفولكلور القديم لأغنيات الأطفال

في هذا التمجيد السياسي غزل. يستثمر فيه عابدين فيبعثه من حناجر ثلاث مغنيات شقراوات، يؤدّين هذه الأغنيات بإيقاعات موسيقية غربية مختلفة. هنا يكاد الفرق ينحسر بين الحب والتمجيد السياسي الذي تفقد أمامه حيوات البشر قيمتها، إذ يردّدن هذه المفردات دموية وذكوريّة مهيبة بغنج ودلال، كأنهن يتغزلن بعاشق، بأسلوب لا تبقى معه اللغة لغة، ولا الدم دماً، ولا الحب حباً. في عمله «خبز الحياة»، ألهمته أرغفة الخبز القاسية لدى زيارته لمصر، فحوّلها إلى آلات إيقاعيّة لبعض العازفين الذين يعملون برفقة راقصات الكباريه، كلعب بمصدر الحياة. أما تجهيزه الفني الجديد «العودة إلى المستقبل» الذي سنشاهده ونستمع إليه خلال «عراقيات»، فيعيدنا إلى الفولكلور العراقي القديم لأغنيات الأطفال، تحديداً إلى أهزوجة «بلي يا بلبول»، التي كانت رائجة أيام الكاسيتات المسجّلة. الأغنية ما هي إلا فرصة للعودة إلى أساطير كثيرة نسجت حولها، فلا يعود التمييز بين الواقعي والخيالي متاحاً في حالتها. بل إن أسطورة متكاملة نسجت عنها تراوح بين حالة العراق ومكوّناته الدينية، وصولاً إلى مشاركة البلاد في الألعاب الأولمبية في برلين عام 1936، حيث حلّت الأغنية محلّ النشيد الوطني العراقي. كل هذه الأخبار مجرّد تأويلات تناقلها الناس شفهيّاً أمام غياب أرشيف أو توثيق مادّي للأغنية، تأويلات أفرجت عن معان جديدة كلياً لمضمون الأغنية سينقّب عنها عابدين في تجهيزه الذي يعرض في افتتاح المعرض ويستمر حتى 26 تشرين الأوّل (أكتوبر) في «دار النمر».

* «العودة إلى المستقبل»: يعرض في «دار النمر» ابتداء من اليوم الأوّل لأسبوع «عراقيات» حتى 26 تشرين الأوّل (أكتوبر)