تلك اللحظة التي رشق فيها منتظر الزيدي الرئيس الأميركي جورج بوش بحذائه، ثبتت كإيماءة رمزية وشعبية وإعلامية لرفض الاحتلال الأميركي للعراق. أعيد المشهد مراراً على الشاشات كما في الأذهان. أما محمود عبيدي، فقد بعثها بلوحة ثابتة لوجه الرئيس الذي قاد الحرب ضد بلاده، فأحاطها دائرياً بأنواع مختلفة من الأحذية النسائية والرجاليّة، صانعاً أيضاً من اللحظة نفسها منحوتات متنوّعة تحبس رأس جورج بوش ضمن الإطار ذاته. نستعيد ذلك العمل، لا لنختصر تجربة عبيدي (1966)، بل لأنها تشير إلى الاحتلال الأميركي الذي لا يكفّ الفنان العراقي عن العودة إليه كبداية للمآسي المعاصرة في بلاده.
لقطة من «الزي الرسمي»

ينتمي عبيدي إلى جيل من الفنانين العراقيين المعاصرين المقيمين في المنفى، رغم أن البداية كانت من مدينته بغداد. هناك درس الفنون الجميلة، ومن ثم أقام معرضه الفردي الأوّل في «متحف بغداد للفن الحديث» عام 1990، قبل مغادرته. في كندا حيث يعمل الآن، يصبح العراق وتاريخه المركّب، بمراحله السياسية أكثر إلحاحاً ومدعاة لقراءتها وتفكيكها وإعادة بنائها. ثمة طبقات ثقيلة، ومشاهد تحتفظ بها وسائل الإعلام عن فترة حكم صدام، والحروب الخارجية والداخليّة التي خاضتها البلاد، ونهب الآثار، والتعذيب في سجن أبو غريب. في السابق، انفتح الفنانون العراقيون على المدارس الفنية العالميّة الحديثة، لنقل ثقافة والبلاد وتاريخها وأساطيرها. إلا أن تحوّلات العقدَين الأخيرين حلّت كنبع أساسي للفن العراقي، الذي يشكّل المنفى جزءاً أساسياً من تجربته. لكن ما هو البعد الجمالي والمفاهيمي الذي يمكن أن يمدّ به الفنان العراقي أحداث بلده؟ أو ما تقدّمه وسائل الإعلام وسيل الصور؟ بأيّ أداة يمكن النفاذ إلى المأساة؟ لعلّ جزءاً من المسافة يكمن في التنويع على الوسائط والأساليب كجزء من طرح الفنان. يلجأ عبيدي إلى المواد والوسائط من التجهيز والفيديو والرسم والمنحوتات ليجمع «فتات» الماضي، أي عنوان معرضه الضخم في الدوحة قبل عامين. أنجز عبيدي لهذا المعرض منحوتات كبيرة الحجم، تعيد بناء ما دمّر في العراق، أو هذا ما تحلم ببلوغه على الأقلّ: رأس الثور المجنّح الذي دمّر في نينوى. وفيما كان يحاول تشييد ما هدم ونهب وأحرق من مكتبات وآثار وعواميد بابلية، بنى عبيدي في موازاة ذلك، سرديّته الخاصّة، أو مشهديّته للفوضى التي شهدها العراق. مشهديّة تركب فيها الآثار على سيارات الفورد والطائرات الأميركية، بينما يتدلّى تمثال الحريّة من السقف بحبال. كلها شكّلت سرديّته التي تحمل عناصر الملحمة العراقية. ومثلما ينظر إلى الهويّة العراقية في الداخل، تأخذ الهويّة العراقيّة معنى جديداً في الخارج، من حيث يقيم الفنان في المنفى. تجهيزه «العبيديّة» (Obaidism) دليل ساخر لكيفية تجنّب توقيفك على المطار. يقترح فيها عبيدي تعليمات لتبديل لون الشعر والعيون والبشرة للتخلص من الملامح الشرق أوسطية التي تعدّ محل شُبهة في مطارات العالم، مثلما حصل معه في أحد مطارات أميركا. خلال أسبوع «عراقيات» في بيروت، سيعرض تجهيز فيديو «الزي الرسمي».
يشكّل المنفى جزءاً أساسياً من تجربته

طوال مدّة الفيديو تبقى الكاميرا ثابتة. لكنّ شاباً هو الذي يدور كأنه في عرض للأزياء والثياب. على جسد الشاب، الذي يظهر عارياً أوّلاً، ستتبدّل ثياب وأزياء وعباءات تحيل بدورها إلى العقائد كافّة، من اليهودية إلى الإسلام، والشيعية والمسيحية والسنية والبوذية. لكن برفقة صوت الآلات الإيقاعية السريعة، ستعود الكاميرا مجدداً إلى جسد الشاب العاري، كأنما لتذكّر بغياب أي وجود للعقائد بعيداً عن طابعها الوراثي. ضمن هذا السياق الذي يقدّم العقائد كطبقات زائدة على الإنسان، يسائل معنى العقيدة نفسه، والفسحة الضيقة التي يملكها الإنسان من أجل اختيار ما يناسبه منها. لكنه في الوقت نفسه، يحيلنا إلى التنوّع العقائدي في العراق الذي خسر جزءاً من تعدديته بسبب الحروب الطائفية والهوياتية نفسها.

* تجهيز «الزي الرسمي» يعرض في «دار النمر» ابتداء من اليوم الأوّل لأسبوع «عراقيات» حتى 26 تشرين الأوّل (أكتوبر)