قبل سنتين ونصف تقريباً، وتحديداً في ٩ أيّار (مايو) ٢٠١٧، نشرنا في «الأخبار» مقالاً («خمس دقايق» كلاسيك على «صوت الشعب») احتَفَلْنا فيه ببدء بثّ برنامج جديد على إذاعة «صوت الشعب»، برنامج أسبوعيّ مخصّص للموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة يحمل عنوان «اعطيني خمس دقايق بسّ» (إعداد وتقديم الزميل بشير صفير). يومها لم يكن قد مرَّ على البرنامج ثلاثة أسابيع بعد، ولم يكن قد أذيع منه إلّا حلقتان. الأربعاء الماضي (٢٥ أيلول ٢٠١٩) أُذيعت الحلقة الأخيرة من «اعطيني خمس دقايق بس». سبب التوقّف: «الظروف الماليّة الصعبة». العمر: ١٢٧ حلقة. ١٢٧ أسبوعاً متتالياً بلا انقطاع.١٢٧، إذاً. إذا وضَعَنْا قبلَ هذه الأرقام الحروفَ اللاتينيّة BWV، لَحَصلنا على عَمَل غنائيّ-كَنَسيّ لباخ: الكانتاتة ١٢٧. أمّا إذا وضعنا قبلها الحرف K، لأعطَتْنا عملاً غنائيّاً-كَنَسيّاً آخر، لكن من توقيع شابّ في السادسة عشر من العمر يُدعى فولفغانغ أماديوس موزار: «ملِكَة السَّمَوات» أو باللاتينيّة Regina coeli. ولو وضعنا قبل هذه الأرقام الثلاثة حرفَي RV، لَحَصلنا عندها على كونشرتو للوتريّات وآلة الباص لفيفالدي. اللائحة ستطول طبعاً. وعندما تبلغ نهايتها، يُمكن إضافة متغيّر جديد: قائد الأوركسترا مثلاً. عندها سيعطينا التابع R(BWV 127) تسجيل الكانتاتة ١٢٧ مع الألمانيّ كارل ريختر وجوقته المعروفة بالـMünchner Bach-Chor. أمّا التابع G(BWV 127) فسيعطينا العملَ نفسَه لكن مع الإنكليزيّ جون إليوت غاردينر وجوقة مونتفردي. وعندما نستنفد (عَدّاً لا سَمَعاً واستمتاعاً!)، التسجيلات كلّها للعمل الواحد، ثمّ للأعمال كلّها، يمكننا أن نبدأ لعبة جديدة. مثلاً أن نقرأ الرقم بالعكس. ونعود فنبدأ بباخ. BWV 721 ستعطينا عملاً لآلة الأرغن. K 721: لا يوجد! فالعمل الأخير في كاتالوغ أعمال موزار يحمل الرقم 626! في هذه الحالة سيقترح علينا موزار الرقم ٢٧١ ويأخذ بِيَدنا فوق سطوح الفرح الساطعة ويُنزلُنا أقبية الروح القاتمة: كونشرتو البيانو والأوركسترا رقم ٩ الذي يحمل عنوان «Jeunehomme».
هذا غيضٌ من فيض. شريطٌ مسلول من مملكة الأنوار الأزليّة. حبّة ماء من المطر المنهمر كانهمار الأصابع على المفاتيح السوداء والبيضاء أو كالرصاص فوق السطوح (يُنظَر/ يُسمع عزف مارتا أرغريش للتوكاتا BWV 911 لباخ في الحلقة ١١٣ من «اعطيني خمس دقايق بس»). ولو دلّت لعبةُ الأرقام هذه على شيء، فعَلَى شبْه استحالة الإحاطة بريبرتوار الموسيقى الكلاسيكيّة واستنفاد تُحَفِها وبالتالي على زهادة الرقم ١٢٧. حتّى الرقم ٦٢٦ يبدو قليلاً وبخيلاً. والرقم ١١٢٨ (آخر عمل في كاتالوغ أعمال باخ من دون الزيادات) ليس أحسن حالاً. هذه الأرقامُ «قليلةٌ» (كمّاً) مقارنةً بما تحمل من جمال (نوعاً) ومقارنةً بما قد تُنتجه تنويعاتُها (كمّاً وجمالاً) ومقارنةً بقدرة العمل الواحد على التحوّل والتكاثر والتفتُّق عندما يمرّ من مؤدٍّ إلى آخر ويُعاد توليفه لآلاتٍ غير تلك التي كُتب لها في الأصل، ثمّ عندما تسافر هذه الأعمال من ذهن المؤلّف إلى جسد المؤدّي إلى وجدان السامع. غودار يعرف السرّ: موزار والأبد. موزار إلى الأبد.
توقّفنا في مقالنا الأوّل المذكور أعلاه عند شكل البرنامج وفلسفته وعنوانه. بعد ١٢٥ حلقة إضافيّة، نودّ أن نسجّل بعض الملاحظات الجديدة وأن نتوسّع في أخرى «قديمة»: فلنبدأ من العنوان، الذي يلعب فيه الوقتُ دوراً أساسيّاً: «اعطيني خمس دقايق بسّ». مع توقُّف البرنامج، يصبح لهذه الجملة معنى نبوئيّ. فحتّى «الخمس دقايق» لم تعد متاحة في الجمهوريّة اللبنانيّة التي ليس لديها وقت تضيّعه في الاستماع إلى الموسيقى. جمهوريّة مشدودة إلى الجدّ والكدّ والعمل. كأنّ البرنامج، منذ اختياره عنوانَه هذا من أغنية «أنا فزعانة» لفيروز، كان يعرف أنّ «الخمس دقايق» التي يطلبها، هذه الخمس دقايق «بسّ»، ليست متوفّرة. ليست معطاة. وعليه أن يسرقها سرقةً. المعادلة إذاً كالتالي: سرقة كمّيّة وقت (خمس دقايق) من الآخَر (المستعجل) لإعطاء هذا الآخر شيئاً (الموسيقى) في المقابل والتحايل عليه أكثر (فالخمس دقائق ستطول، كما في كلّ حلقة) علّه يغيّر رأيه ويبقى. وعلّه، مع الوقت، يتغيّر أيضاً! قرنفل تعرف السرّ وهي، علاوةً على ذلك، تُتقن السرقة وتحسين أحوال الشعب.
أمّا في شكل البرنامج، فيُمكن القول إنّه لم يحُدْ عمّا أشرنا إليه في المقال الأوّل من التزامٍ بريبرتوار الموسيقى الكلاسيكيّة. لكنّ هذا الالتزام يقابله تنوّعٌ في «مناسبة» الحلقات وثيماتها: من مراجعة الإصدارات الجديدة (ألبوم عازف البيانو رافال بليخاتش المخصَّص لباخ؛ موسيقى زياد الرحباني لفيلمَي «متحضّرات» و«طيّارة من ورق») إلى سلسلة الحلقات المخصّصة للعازفين الكبار (سلسلة عازف البيانو السوفياتيّ سفياتسلاف ريختر) وللمؤلّفين الكبار (سلسلة سوناتات بيتهوفن أو سمفونيّات تشايكوفسكي) وتلك الجامعة بين الاثنين (سلسلة «شوبان بأنامل الأجيال») إلى الاحتفال بقدوم الصيف أو بموسم الصيد وغيرها من المناسبات، من دون أن ننسى بالطبع عيد الموسيقى الذي تُحجز حلقتُه حصراً إلى الثالوث باخ-موزار-بيتهوفن وإلى ضيف «مِن عنّا» يعرفُه الثلاثيّ الألمانيّ ويقدّرونه، اسمه عاصي الرحباني (تنظَر الحلقات ١٠ و٦٥ و١١٣). هذه بعض العيّنات فقط. وإلى التنوّع يجب أن ننوّه بالمواكبة والاستقلاليّة النقديّة: في ما يخصّ الأولى يكفي أن نشير إلى أنّ البرنامج أذاع تسجيلاتٍ بعد أسابيع قليلة على طرحها في الأسواق الغربيّة (أي قبل وصولها إلى أسواقنا، افتراضاً أنّها ستصل!). أمّا الميزة الثانية (الاستقلاليّة النقديّة) فمِثالُها احتفاءُ البرنامج بعازفين شباب وبإصداراتٍ جديدة انطلاقاً من مبدأ إيمانه بقيمتها، حتّى ولو خالف في تقييمه هذا آراءَ كبريات المجلّات الغربيّة المتخصّصة (تُنظر الحلقة ٧٨ المخصّصة لألبوم فيكنغور أولافسون المخصّص لباخ). ويُضاف إلى ذلك كلّه ما تتضمّنه كلّ حلقة من شروحات وإشارات وتعريفات، تاريخيّة وموسيقيّة وتقنيّة.
هنا يجب أن نتوقّف عند ملاحظتَين: أوّلاً، ولئن كان هذا التنوّع في طبيعة الموسيقى الكلاسيكيّة، فإنّه ينطلق أيضاً من فَهْم مختلف لها (أشَرْنا إليه في المقال الأوّل)، على الأقلّ مقارنةً بالصورة الراسخة في أذهاننا. فالموسيقى الكلاسيكيّة ليست موسيقى محافل رسميّة وشركات عقاريّة، وهي ليست حكراً على المتقدّمين في السنّ أو على أصحاب الأموال وبالتالي «الإحساس» و«الرهافة». ووفقاً لهذا المفهوم المختلف، تصبح موسيقى فيلمَي «متحضّرات» و«طيّارة من ورق» التي كتبها زياد الرحباني «كلاسيكيّة» (بمعنى التأليف الموسيقي الحقيقيّ) ويصبح ريبرتوار الأخوين رحباني «كلاسيكيّاً» (أحياناً بمعنى التأليف الموسيقيّ وأحياناً أخرى بمعنى انتمائه إلى الوجدان الشعبيّ والهويّة الفولكلوريّة). هذه «الكلاسيكيّة» تنطبق أيضاً على الكثير من الأعمال التي قُدّمت في الفقرة الإضافيّة من البرنامج، المخصّصة لعمل من خارج «الكلاسيك».
خُصّصت الحلقة الأخيرة لاسمَين حصراً: يوهان سيباستيان باخ وغلين غولد


الملاحظة الثانية هي أنّ الثيمات التي ذكرناها أعلاه تشكّل عادةً، في الإذاعات الجدّيّة المتخصّصة بالموسيقى، موضوعات لبرامجَ مستقلّة واحدها عن الآخر. بهذا المعنى، يوازي «اعطيني خمس دقايق بسّ»، نَظَريّاً على الأقلّ، برمجةً إذاعيّة كاملة! وبتوفُّر حلقاته مجّاناً على الموقع الإلكترونيّ لإذاعة «صوت الشعب»، يصبح لهذا البرنامج دورُ مكتبةٍ موسيقيّة تثقيفيّة في متناول الجميع (على الرغم من أنّ «حالة» الموقع لا تساعد في ذلك)، خصوصاً المهتمّين بالتعرّف إلى الموسيقى الكلاسيكيّة. مع الإشارة إلى أنّ البرنامج يبقى مرجعاً مُهمّاً لهواة الموسيقى الكلاسيكيّة وللمتخصِّصين، نظراً للكثير من الاعتبارات التي أشرنا إليها أعلاه.
كما الحلقة الأولى (يُنظر المقال السابق)، خُصّصت الحلقة الأخيرة من «اعطيني خمس دقايق بسّ» لاسمَين حصراً: يوهان سيباستيان باخ وغلين غولد، أي المؤلّف ومؤدّيه الأبرز على آلة البيانو، أو باعتقاد الكثيرين، إله الموسيقى الأكبر (باخ) ورسوله في الأرض (غولد). سمعنا إذاً أعمالاً مختلفة من باخ بـ«تنفيذ» غولد. وخُتمت الحلقة بالآرْيا التي تختتم «تنويعات غولدبرغ»، حيث يستعيد المعلّمُ فاتحة العَمَل خاتماً بها «حلقة» التنويعات الـ٣٠. وعلى شاكلة باخ، استعادَ البرنامجُ عنوانَه في الفقرة الإضافيّة، فأسْمَعَنا أغنية «أنا فزعانة» التي أُنهيَت، هذه المرّة، على جملة «لاحق تروح». خاتمتان إذاً. خاتمتان قسريّتان. لكنّهما، أيضاً، حيلتان: باخ يعرف السرّ ويعرف أنّه مع الشعب وأنّه صوت الشعب.

* أرشيف البرنامج متوفّر بالكامل على الرابط التالي: https://sawtachaab.com/web/index.php/site/episodes/ID/24