أحياناً يخيل لي حين ستجعلني الصدفة ألتقي بشخصٍ سبّب لي أذىً نفسياً (أو سببتُ له أذىً) أدى إلى قطيعة بيننا، أن لقاءنا الأول، الذي سيحصل في الشارع غالباً، سيكون عبارة عن نوبة ضحك متواصل، من دون أن ننطق بكلمة واحدة. «مع التقدم في السن يتعلم المرء مقايضة مخاوفه بقهقهاته»، يقول سيوران. كم مرة جعلتنا السخرية نتجاوز مشكلةً؟ أو كانت علامةً على تحويل ما ظنناه خطراً إلى أمرٍ عارضٍ؟ يُقال إننا حين نسخر من أمرٍ ما، نتخطّاه، يصبح خلفنا. لذلك يُنصح دائماً بالسخرية من الصدمات والخيبات الشخصية، علاجاً (ليس وحدها بالطبع) فعّالاً دائماً.في روايته، «وعد الفجر» (1960)، يقول الروائي الفرنسي رومان غاري: «السخرية تتمثّل في نزع فتيل الواقع في اللحظة التي يوشك فيها الهبوط عليكم (...) أدين للسخرية باللحظات الوحيدة الحقيقية للنصر على الخصومة. السخرية هي إعلان كرامة، تأكيدٌ لتفوق الإنسان على ما يحصل له». في كلّ مرة كانت فيها السخرية هدفاً للهجوم ـــ حيث شهدنا محلياً في السنة الماضية أحداثاً عدة تحوّلت فيها السخرية إلى جريمة عرّضت الساخر إلى حملات تهديد وإلى المساءلة القانونية التي وصلت أحياناً إلى التوقيف ـــ أشعر بضرورة «الدفاع» عنها، لا بل بإسباغ مديحٍ مطوّل عليها. أظنّ هذه هي إحدى الطرق الأساسية حتى لا يفقد المرء صوابه: أن تسخر من الواقع، أن تسخر من نفسك، أن تسخر من كل شيء، مع محاولة، قدر الإمكان، ألا يكون هناك «ضحية» لسخريتك. في الألمانية، هناك تعبير يُستخدم في معظم اللغات الأخرى وهو Schadenfreude، ويمكن ترجمته ببساطة إلى «شماتة» وهو الفرح بمصائب وسوء حظ الآخرين. عدا عن ذلك، من منّا لا يدين للسخرية بعزاءٍ ما؟ بشفاءٍ ما؟

فنّ الوجود على قيد الحياة
تأتي السخرية بشكل أساسي من الهوة بين التوقّع والواقع. واحد من أشهر الأطر النظرية للسخرية، إلى جانب نظرية المتناقضات (أن التناقض يقع في جوهر ما يسبّب الضحك) هي نظرية «التفوق» الإغريقية (أفلاطون وأرسطو ثم تبناها هوبز). إذ إن التفوق على الآخر هو من أهم محركات السخرية. ولكن انطلاقاً من جملة غاري عن السخرية بكونها «إعلان تفوق الإنسان على ما يحصل له»، يمكننا النظر إلى موضوع التفوق من زاوية أخرى. المسافة لا تعود بين الساخر والآخر، بل بينه وبين الواقع نفسه. يحاول الساخر أن يرتقي بواسطة السخرية على سير الأحداث، وهي محاولة تحصين الذات ضد العالم الخارجي، لذلك بالدرجة الأولى يقال إن السخرية هي آلية دفاعية.
إن السخرية، كما رآها شوبنهاور، تخلق حين نكون مرغمين على «إعادة ضبط» رؤيتنا للكون وافتراضاتنا حوله. كأن السخرية تسدّ الثغرة بين المنطق واللامنطق. بين الفكرة وبين الواقع، بين المنتظَر وبين الحدث المُخيّب. فيكون الإنسان أحياناً، بالفعل كما يقول المصريون في معرض التوبيخ، «يضحك على خيبته». القدر/ الحظ/ العشوائية هو سيّد السخرية، يقول ماكس إرنست. ما يمكننا القول إن السخرية هي تعبير لغوي بلاغيّ عن الطلاق بين الواقع والمنطق. لذلك هي في أحيان كثيرة تتماهى مع مفهوم العبثية الذي هو في الأساس، بحسب تعريف كامو، طلاق بين العقل والعالم؛ طلاق بمعنى انعدام الانسجام، انعدام الفهم. يرى الفيلسوف الإنكليزي سايمون كريتشلي أن الضحك يمكنه أن يكون تعبيراً عن حدودنا، وحين يصبح الأشخاص واعين لحدود فهمهم، يعكس الضحك هذه المتاهة ويعود بنا إلى حالنا المتواضع. يقول: «الضحك يردنا إلى ذلك الشرط المحدود لنهائيتنا، وضعنا الجسدي المتدهور، وهنا حيث تسمح الكوميديا للطيران خارج شرطنا التراجيدي، السخرية تذكرنا بنواقصنا، مرغمةً إيانا على الاعتراف بحالنا المتواضع وبتذكيرنا بأن الشرط الإنساني تراجيدي بشكل مطلق. كأنها أسلوب (بلاغي) لمقاومة هذه التراجيديا، أو كما قال روبير إسكاربيت في مؤلفه عن السخرية، إن السخرية هي فنّ الوجود على قيد الحياة».
ويربط جون موريل الذي ألّف «الشفاء الكوميدي»، تنمية السخرية عند الفرد بالحكمة، وبالقدرة على العيش بشكل جيد. يقول إن السخرية يمكن أن تساعدنا على تحصيل المعرفة الأساسية للعيش جيداً: نستطيع (بواسطتها) تعلم أن نقيم نقدياً المؤسسات التي تتسلط على حيواتنا، نستطيع تعلم امتياز السخرية على العنف؛ تجعلنا نتعلم الاستمتاع بالحياة، أن نتلذذ بعبثيتها عوضاً عن تركها تصدمنا أو تزعجنا، تعلمنا أن نأخذ مسافة من الحياة، إلى جانب استخدامها للتشبيك مع الآخر».
كما أن النكتة، بالنسبة للفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجك الذي يقدر هذا الأسلوب كثيراً، هي الوسيلة الأكثر اختصاراً لاستنتاج شكل ظرفي ــ كوني: «حين نحدّد شيئاً بكونه قابلاً أن يكون مصدراً للضحك، يصبح لدينا انطباع بأنه شيء يمكننا أن نتركه خلفنا». ولكن قبل ذلك كله، يجب الإشارة إلى أن الكوميديا مثل التراجيديا، هي من الوسائل الأنجع للتطهر (Catharsis)، كما لاحظت الفلسفة الإغريقية مع أرسطو. السخرية تفرّغ الغضب والحزن وغيرهما من المشاعر السلبية، أو على الأقل تعيد توجيهها. ونعلم بالطبع أن الضحك هو وسيلة علاجية معتمدة خصوصاً في علاجات اضطراب ما بعد الصدمة، كما أنها عنصر مساعد في التغلب على القلق والاكتئاب. لكن مسألة التطهر، تجعل السخرية موضع نقد لناحية أنها قد تكون عائقاً أمام الفعل وأنها تحول دون التغيير، خصوصاً في عصر ما بعد الحداثة الذي يوصم بالسينيكية كسمة، الأمر الذي يمكن مناقشته لاحقاً أيضاً.
السخرية أداة ناجعة، تنضم إلى التشكيك والنسبية في تكوين الخصائص الأساسية لهذا الزمن


وفي الأصل، لاحظ علم الأعصاب أن الهدف الفردي الأساسي من الفكاهة/ السخرية كان إنذار الآخرين في المجموعة بأن الطارئ الذي كان يرصده الفرد، اتضح أنه أمر غير خطير. تأتي السخرية بعد زوال الخطر، وتكون العلامة الأولى على حلول الأمان. وهنا تجدر الإشارة إلى ما وجده المتخصص في علم النفس التطوري، جوفري ميلر، عن أن خصائص الإنسان مثل «خفة الدم» تطورت مع عملية الانتقاء الجنسي. إذ إن السخرية ظهرت كمؤشر على مميزات أخرى للفرد مرتبطة بالبقاء على قيد الحياة مثل الذكاء. وفي السياق نفسه، كان داروين قد وجد أن هناك على الأرجح نوعاً معيناً من الإيجابية التطورية مرتبطة بالفكاهة. فالسخرية والفكاهة، إلى جانب فضائلهما كحلّ النزاعات وخلق مكان اجتماعي آمن، هما بالطبع، طقس آخر وفعال جداً، للتزاوج.
إلى ذلك وفي نقطة لافتة، رأى الفيلسوف الإنكليزي روجر سكروتن، أننا حين نسخر من شخص ما، على عكس المتوقع، وعلى عكس نظرية التفوق الإغريقية، فإن السخرية ترفعه في عيوننا عوضاً عن التنزيل من قدره. لأنها ببساطة تذكرنا، من خلاله بإنسانيتنا وبالناقص فينا. نظرية سكروتن ممكن أن تكون حجة إضافية وجه من يربط، بتشدد أحياناً، السخرية بمعايير الصوابية السياسية.

السخرية، السلطة والهدم
مثلما أن السخرية هي آلية دفاع على المستوى الفردي، هي تصبح كذلك على مستوى أوسع ضمن بيئة عدائية، لذلك نراها تزدهر في ظلّ السلطات القمعية، بشكلٍ يصبح أحياناً السلاح الوحيد. في رواية «العنف والسخرية» للروائي المصري ألبير قصيري، يقول منظّر التنظيم السري في إحدى الجمل التي تحولت إلى شبه أيقونة في هذا المجال: «أعرف شيئين في غاية البساطة أما الباقي فلا أهمية له: الأول هو أن العالم الذي نعيش فيه تحكمه عصبة نبيلة من الأنذال التي لطخت الأرض، الثاني، أنه لا يجب أن نأخذ الأمر علي محمل الجد لأن هذا هو ما يرغبون فيه».
لكن الموقف الجماعي الساخر له سلبياته بحسب البعض أيضاً. على سبيل المثال، استعاد الأديب الروسي باختين المهرجانات التي كانت تشهدها أوروبا في القرون الوسطى في مناسبات معيّنة، مثل مهرجان «عيد الحمقى» الذي يسبق فترة الصوم. في تلك المهرجانات كان يسمح للناس أن يقوموا بتصرفات تكون ممنوعة في الأيام العادية. يقوم الناس في هذه الأوقات بالسخرية من رموز السلطة، بمن فيهم الملكية والإكليروس، إلى جانب إمكانية تعليق القوانين والأعراف الاجتماعية في هذه الفترات. هنا يمكن العودة إلى دور السخرية الذي قد يُعتبر سلبياً بكونه يفرّغ الغضب والاحتجاج عوضاً عن تحويله إلى قوة تغييرية. وفيما نعلم أن السخرية هي أداة أساسية في التمرد ضد السلطة، أي سلطة، يبدو أن اللذة الكبرى التي تنجم عن السخرية تكمن في قابليتها لـ«انتهاك الفكر العقلاني». فرويد رأى أن التمرد الأعمق الذي توظّف السخرية لأجله هو تمردٌ على العقل. لذلك يمكن النظر إلى السخرية كفعل تعدي ضد سلطة العقل، المنطق. هرب مؤقت من عالم الراشدين الجدّي والشاق، وعودة إلى العبث الطفولي.
النكات تنتهك قواعد اللغة، كما تهشّم وهم العلاقة الصارمة بين اللغة والذات كوحدة متجانسة. مثلما يمكن لتحطيم المحرّم أن يكون أمراً يحمل لذة للشخص الذي يطلق النكات وللجمهور في تصور فرويد، بالنسبة لمؤلفة كتاب «الكوميديا: السيادة على الخطاب» سوزان بوردي، التعدي اللغوي له فوائد نفسية. السخرية ترفع حسّ الفرد بالسيطرة على اللغة، ما يؤدي إلى تعزيز «وهم التلاؤم النفسي». في المحصلة، النكات تهشم وفي الوقت نفسه تقوي وهمَ وجود ذات متلائمة وثابتة. إذاً، يخترق الساخرون قواعد الترميز بغية ترجيح قوتهم عليها (يظهر هذا بشكل أساسي في اللعب على الكلام مثلاً).
عند هذا الحد يمكن الانتقال إلى زاوية أوسع في تشريح الموقف الساخر: «أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام. لم يكن ثمة سوى مقاومة وحيدة ممكنة : ألّا نأخذه على محمل الجد». السخرية في أحيانٍ كثيرة هي ترجمة للعجز، أكان فردياً أمام عبثية الحياة ووحشيتها في أحيان، أو كان جماعياً بالمعنى السياسي. كما يمكن اعتبار مقولة كونديرا الشهيرة، المأخوذة من روايته الأخيرة «حفلة اللامعنى» كتكثيف وخلاصة لثقافة ما يسمى بـ«ما بعد الحداثة». السخرية أداة ناجعة، تنضم إلى التشكيك والنسبية في تكوين الخصائص الأساسية لهذا الزمن منذ بداياته في منتصف القرن الماضي.
«الله قد مات ونحن من قتلناه»، هي جملة نيتشه الشهيرة التي أعلن فيها نهاية الميتافيزيقيا، والتي تعتبر نذيراً لما بات يُعرف بعصر ما بعد الحداثة. الله قد مات، وتالياً الدين، الأيديولوجيا، الأخلاق وأي منظومة قيمية متلائمة. فلماذا لا نضحك؟
من هنا، رأى اثنان من أشهر أعلام ما بعد الحداثة، أمبيرتو إيكو وجون بارت، أننا غارقون في «ما قيل سلفاً»، وأننا لن نستطيع الهرب من الكليشيه إلا عبر السخرية/ المفارقة والفكاهة. السخرية أداةٌ أساسية للتشكيك والهدم، لتسديد الضربات للسرديات الكبرى التي تريد «ما بعد الحداثة» التخلّص منها وإفساح المجال للسرديات الصغرى أن تحتل مكانها. ووفقاً للكاتب الأميركي لانس أولسن، توازي السخرية التفكير الما بعد حداثي لأن كليهما يسعيان إلى قلب مراكز السلطة، ولأنهما يزدريان مطلقاً الرؤى الأحادية. لكن هناك من ذهب أبعد من ذلك في إبراز علاقة السخرية بالمعنى كعلاقة نقصان، ضمن المنهج التفكيكي مثل جان لوك نانسي الذي رأى أن السخرية تعكس العيب داخل كل محاولات خلق المعنى.

خاتمة
قد لا يتفق الجميع حول أن السخرية دواء فعال، وقد يعتبرها البعض مجرد مسكّن وليست حلّاً جذرياً للآلام والخيبات. ولكن هل هناك حلٌّ جذريّ أصلاً؟
اشتكى فلاسفة القرن التاسع عشر والعشرين من العدميين، واعتبروهم أصحاب موقف مخاتل، يوصل الضحية في النهاية إلى مهادنة الجلاد، بل ربما الاقتناع بعدم سوء الأخير. غير أن الموقف العدمي (والعدمية هي «جدّية مُخيَّبة»، كما تخبرنا سيمون دوبوفوار)، يدعونا إلى التوقف عن محاولات المصالحة والملاءمة المنطقية بين تناقضات العالم، والتخلي عن طلب أي حلٍّ نهائي لهذا التصدّع. ولكن عوضاً أن يقع صاحب هذا «الاستسلام» فريسةً للاكتئاب بسببه، يتحصّن بالسخرية حتى يتقبله. التحديق في الهاوية، والضحك منها، عوضاً من النحيب عليها.
* نتسلّق ضحكاتنا لأن صراخنا شاهقٌ جداً ــ وديع سعادة (ليس للمساء إخوة).

مراجع:
1- The philosophy of humour, Paul Mcdonald٫ Humanities ebooks
2- In Defense of Humorous Nihilism, John Marmyz٫ Philosophy Now٫ Issue 111
3- السخرية وسيلةً للتنكيل بالسلطة، أحمد ناجي، جريدة السفير، 2013/04/02