القاهرة | يطرح فيلم «الضيف» للمخرج هادي الباجوري، (تمثيل خالد الصاوي، أحمد مالك، شيرين رضا، جميلة عوض) أسئلة مهمة حول ماهية الفن ودوره والطريقة التي يؤدي بها هذا الدور. أسئلة ربما توصل الناس في أماكن كثيرة من العالم إلى إجابات عنها، ولكنها لا تزال بلا إجابات شافية في عالمنا العربي. هل الفن مرآة للواقع؟ وهل العمل الفني الجيد هو الذي يحمل رسالة «اجتماعية» و«سياسية» معلنة، أم هو العمل الذي يحرّك مشاعرنا وعقولنا دون أن يوجهنا لتبنّي رأي أو فكرة معينة بشكل مباشر؟الفيلم الذي يُطرح قريباً في الصالات اللبنانية، أثار ضجة عند عرضه في مصر قبل أشهر. ضجة وصلت إلى ساحات القضاء، حيث رفع أحد المحامين دعوى ضد الفيلم لأنّه ينتقد «الحجاب». كما أثار الفيلم زوبعة إعلامية شارك فيها شيوخ أزهر ودعاة، بالإضافة إلى حملات مسعورة على مواقع التواصل الاجتماعي من قِبل جحافل «المتدينين».
الفيلم الذي كتبه الإعلامي والكاتب ابراهيم عيسى هو خطوة ثانية، بعد فيلم «مولانا» للمخرج مجدي أحمد علي، الذي يستخدم الدراما لمناقشة قضايا دينية واجتماعية معاصرة، من تلك التي أكلت وشربت عليها الصحف والقنوات الفضائية لأكثر من ثلاثين عاماً... منذ أن ظهرت جماعات العنف الديني وتمدّدت في أوصال البلاد. لا شك في أنّ «الضيف» فيلم مهم، وهو أيضاً يمتلك المقومات الأساسية لعمل فني جيد، من فكرة لامعة وحبكة مثيرة وشخصيات مشوقة. والمشاهد غالباً سيتابع الفيلم بحماس من بدايته حتى النهاية، وسيجد فيه لمحات من حياته والأفكار التي تشغل باله، لكن للأسف لم يأت العمل على قدر المواهب المشاركة، ولا الجهود المبذولة فيه.
ليست مشكلة فيلم «الضيف» أنه يدور في مكان واحد مغلق بين عدد محدود من الشخصيات أم أنّه يقوم بالكامل على الحوار مثل مسرحية من فصل واحد أو حلقة من برنامج «توك شو». هناك الكثير من الأفلام العظيمة على مدار تاريخ السينما تنطبق عليها هذه الكلمات، منها «الحبل» لهيتشكوك، و«12 رجلاً غاضباً» لسيدني لوميت، و«خمن من سيأتي للعشاء» لستانلي كريمر، و«كلاب المستودع» لتارانتينو، وغيرها. وهناك فيلم دانماركي بعنوان «المذنب» (إخراج غوستاف مولر) حقق نجاحات هائلة العام الماضي عبارة عن شخص يتحدث في الهاتف مع أناس لا نراهم. ومع ذلك يحتوي الفيلم على إيقاع وتشويق ينافس أضخم الأفلام البوليسية!
المشكلة، إذن، ليست في النوع أو الفكرة أو الموضوع. يدور «الضيف» حول كاتب «تنويري» معروف، يعيش مع زوجته وابنته الوحيدة. يزورهم ذات يوم صديق للابنة بهدف التقدم لخطبتها، ويتبين أنه شاب محافظ إلى درجة التطرف، قبل أن يتبين أنه جاء لقتل الأب انتقاماً منه لهجومه الدائم على المتطرفين!
لا بأس. موضوع جيد بالرغم من أنه ليس جديداً، وفكرة جيدة بالرغم من أنها خليط من أفكار أفلام مختلفة، منها «خمن من سيأتي للعشاء» سابق الذكر، و«الموت والعذراء» لرومان بولانسكي... وحتى «الإرهابي» لنادر جلال وبطولة عادل إمام.
المشكلة في «الضيف» أن شهوة الكلام فيه تتغلب على أيّ رغبة أخرى، فتحيل الحوار من دوره الأساسي في الدراما ككاشف للشخصيات ومحرك للأحداث إلى ما يشبه الحوار في برنامج تلفزيوني دعوي مثل ذاك الذي يقدمه اسلام بحيري وابراهيم عيسى أو حتى خالد الجندي، الذين يتصدون لما يعرف بـ «تجديد الخطاب الديني» كل على طريقته وعلى قدر درجة تنوّره!
فكرة لامعة وحبكة مثيرة وشخصيات مشوقة، لكن الحوار هو المشكلة


ولأنّ مشروع تجديد الخطاب الديني، أو الصراع بين التطرف والاعتدال، هو قضية مهمة وساخنة، بل مسألة حياة أو موت، بالنسبة إلى مجتمعاتنا العربية، ولأنّ مؤلف الفيلم هو نفسه طرف في المعركة، بل هناك اعتراف وتوكيد على أن شخصية الدكتور «يحيى التيجاني» تمثل ابراهيم عيسى من جوانب عدة، حتى إنّ خالد الصاوي يقلد شكله وملبسه وطريقة كلامه بوضوح. لذلك ضحى صنّاع الفيلم ببعض أصول الدراما من أجل الدفاع عن قضيتهم ونصرتها. لم يكن من الممكن بالطبع أن تحمل شخصية «الدكتور يحيى» الذي يمثل التيار التنويري أي عيوب أو سلبيات، حتى لو كان ذلك ضد ألف باء الدراما، ولم يكن ممكناً أن تحمل شخصية الشاب المتطرف أسامة أي إيجابيات أو مبررات إنسانية، وبالتالي فإن الحوار بين الاثنين كان لا بد من أن يكون من طرف واحد، حيث يحتكر التنويري الحكمة والمنطق والمعرفة، بينما يغالي المتطرف في الأفكار الظلامية الجاهلة والكراهية الهستيرية.
حتى لو كان هذا هو الواقع، وحتى لو كانت قناعاتنا لا تختلف إطلاقاً عن أفكار «التيجاني»، بل قد تكون أكثر حدةً ضد الرجعية، إلا أن الدراما تقتضي خلق شخصيات متكافئة القوة، قادرة على تصديق ما تتفوه به من أفكار وقادرة على تبرير أفعالها. للأسف، رغم المجهود الكبير الذي بذله الموهوب أحمد مالك لمنح الشخصية لحماً ودماً، إلا أنها تظل تجريداً لا تستطيع أن تتفاعل معه إنسانياً. ومن العجيب أن ذلك ينطبق أيضاً على شخصية «التيجاني»، رغم المساحة الهائلة التي تحتلها على الورق وعلى الشاشة، ورغم المجهود الجبار الذي بذله خالد الصاوي... تظل الشخصيتان تجريداً كارتونياً، مقارنة بشخصيتي الأم والابنة الثانويتين وحتى الخال الذي يظهر في مشهد واحد، يثيرون لدينا قدراً أكبر من التعاطف والخوف عليهم! وهنا، لا بد من الإشارة إلى براعة شيرين رضا في دور الأم، وجميلة عوض في دور الابنة، وماجد الكدواني في دور الخال، وهادي الباجوري المخرج، الذين صنعوا من هذه الأدوار شيئاً برغم المساحة الصغيرة جداً المخصصة لهم، ورغم أنهم لا يحظون بجمل حوار عميقة ومهمة مثل التي يحظى بها كلّ من التيجاني وأسامة... وهو دليل من الفيلم نفسه على أن الدراما لها منطق مختلف وأن قوة الشخصيات لا تكمن في مساحة أو نوع الحوار الذي تنطق به، ولكن بمدى قابليتها للتصديق والفهم والتعاطف من قِبل المشاهد.

* «الضيف»: قريباً في الصالات اللبنانية