«الماضي لم يمت، بل إنه ليس ماضياً بعد»
(ويليام فولكنر)

يعتقد كثيرون أن «محاكم التفتيش» مرتبطة حصراً بالعصور الوسطى المظلمة في أوروبا أو مقتصرة على فظائع الكنيسة الكاثوليكية ضد أصحاب البدع الهرطوقية و«الكفرة». لكنّ مراجعةً لذلك النشاط المنظّم الذي يستهدف قطاعات محدّدة من السكّان، وتحميه قوانين تقرّها السلطات ويتقاطع فيها الديني بالدنيوي، وتنفذه أجهزة محترفة وكوادر متخصصة تمارس رقابة على حياة الناس وتجمع معلومات موثقة ومؤرشفة، وتحقق معهم وتعاقبهم إن هم خرجوا عن «الطريق المستقيم» الذي ترسمه لهم... مراجعة مثل تلك سترينا بأن «التفتيش» الذي ابتدعه رجال دين ادعوا امتلاك الحقيقة قبل حوالى 800 سنة، صار مهمة تاريخية وروحاً ملعونة تناقلتها الأجيال عبر العصور، ليجد اليوم أعلى تمثلاته في الإمبراطورية الأميركية المعولمة.
بناء على تقرير فنّي مستوف من مجلس الإيمان لمدينة فالنسيا، فإن محكمة التفتيش الإسبانيّة قررت في 1834 إعدام المواطن كايتانو ريبويّ مدير المدرسة المحليّة حرقاً، خوفاً من تأثير أفكاره «السيئة» على الآخرين، لكي تتعذّب روحه في الدنيا فيضمن نعيم الآخرة. تضمّن التقرير اتهامات بأن الجندي السابق والأسير العائد من فرنسا لا يؤمن بمقررات المجمع المسكوني، ولوحظ أنّه لم يشارك في احتفالات عيد الفصح، وتحدث للبعض عن أن حضور القداديس قد لا يضمن الخلاص بالضرورة. وقد تكررت تقارير المخبرين بأنه لم يُشاهد ولو لمرّة يرسم إشارة الصليب. وتقول المصادر التاريخية إن السلطات المدنيّة في فالنسيا وافقت على قرار الإعدام بالإجماع بعد الاطلاع على محتويات التقرير، واقترحت على مجلس الإيمان أن تتسلم ريبويّ وتعدمه شنقاً كما يُعدم المجرمون. لكن مجلس الإيمان كان على اطلاع دقيق بمداولات المجلس البلدي، فاستبق الأحداث وقبض على الرجل المحترم الشريف الذي قاتل وأُسر من أجل الوطن الإسباني، وأعدمه حرقاً بوضعه في برميل خشبي أشعلت به النار، وألقي رماده في نهر جار.
وفق السردية الرسميّة للمؤرخين البرجوازيين، كان كايتانو ريبويّ آخر الضحايا المسجلين للتفتيش الإسباني قبل أن يضطر الملك فيرديناند السابع لإلغائه إثر ضغوط من الحكومة الفرنسية التي حمت نظامه من الثائرين على الحكم الملكي. لكن الوثائق التاريخية تقول إن محاكم التفتيش كانت ناشطة في روما حتى 1870 عندما عصى الجنود أمر البابا وانحازوا لإيطاليا موحدة، وأنّها لم تلغ قط بل أعيدت تسميتها لاحقاً بالمجمع المقدّس لشؤون العقيدة والإيمان. وهي إن لم تعد مكلّفة بحرق «المهرطقين» علناً، فقد بقيت تدير قائمة للكتب الممنوعة حتى عام 1965 (منها أعمال معروفة لجان بول سارتر، غراهام غرين، توماس رييس، تشارلز كوران...) وتحاكم المفكرين وتمنع كتبهم وتبذل جهوداً للتضييق عليهم في مصادر رزقهم.
دراسة التاريخ المفصّل للجرائم المرتكبة باسم الله ـ كما يسميها الشاعر البريطاني شيلي ـ ما زالت غير مكتملة رغم أنّ الفاتيكان أفرج في 1998 عما تبقى لديه من أرشيف من وثائق التفتيش بعدما نقل نابليون معظمه إلى فرنسا وتناثر من هناك إلى مكتبات عديدة ومجموعات خاصّة وهو يضم رفوفاً طولها لا يقل عن 50 ميلاً وفيه سجلّات دقيقة عمّا كان يحصل في أوروبا العصور الوسطى من تحليل أكاديميّ للأفكار المهرطقة التي يطرحها ديكارت، إلى تقرير من مخبر حقير في مونتريال عام 1560 عن طحّان قال لزبائنه إنه يعتقد بأن دود الجبن ما هو إلا ملائكة متقمّصين، مروراً بفواتير مفصّلة لمصروفات شراء الحبال والحطب وبقيّة مستلزمات الإعدام. ورغم محاولات بعض الباحثين الفاسدين ـ لأسباب مفهومة ـ التقليل من أعداد الضحايا إلى عشرات الألوف، إلا أن أكوام الوثائق المتفرقة تشير إلى أن الأعداد الواقعية لن تقلّ عن نصف مليون إنسان، لا سيّما أن همروجة محاكم التفتيش لم تكن مقتصرة على إيطاليا أو إسبانيا، بل امتدت إلى كل نواحي أوروبا والأميركيتين (المستعمرات الإسبانية في المكسيك والبيرو...)، وشمالي أفريقيا. وهناك نسخٌ محفوظة بالكامل من «دليل عمل المحققين في قضايا الهرطقة» بأقلام مفتشين كبار، وفيها نصوص تتطابق حدّ الذهول مع أساليب التحقيق وطرائق التعذيب لانتزاع الاعترافات التي كشف عنها في ملفات المخابرات الأميركية، مما يشير إلى أن المحاكم كانت نشاطاً يومياً لجيش من المحققين.
المواطنون الخاضعون أنفسهم يستخدمون التكنولوجيا لشن حملات تفتيشهم الخاصة على «المهرطقين»


بدايات التفتيش بصورته المنظّمة كما نعرفها كانت مبادرات محليّة قام بها رجال دين منذ القرن الثاني عشر ضد الكفرة من السكان الأصليين في أوروبا الذين لم يعتنقوا دين روما، وتحولت لاحقاً إلى عمل مؤسسي في عهد البابا لوسيوس الثالث (1184) الذي أرسل مطارنة للقضاء على الكاثاريين سكان جنوب فرنسا والولنداسيين في ألمانيا بحجة التفتيش. لكن المهمّة تحولت بعد القضاء على هذه الشعوب إلى برنامج ممنهج لفرض الهيمنة المادية على السكان، بمن فيهم المؤمنون، وأصبحت التهم معلبة وجاهزة لإلقائها ليس فقط على أي خروج عن التعاليم، بل استحالت في كثير من الأحيان حجّة للاستيلاء على الأراضي أو الأموال أو التخلص من المعارضين السياسيين أو إجبار النساء على الفضيلة بشكلها الرسمي المناسب للسلطات أو لإرضاء الغوغاء واستمالتهم ضد عدو مشترك أو حتى غطاءً لتنفيذ سياسات التطهير العرقي ضد المتحولين إلى الكثلكة من اليهودية والإسلام. ولا يستبعد أيّ من المؤرخين أنّ كثيراً من الناس أحرقوا أحياء بسبب نكايات شخصية من مخبرين محليين، أو ابتزازات رجال دين جشعين، بينما نجا آخرون لأنهم أثرياء دفعوا الرشاوى المطلوبة لتبرئتهم. هناك حادثة مدونة عن سيدة مجتمع حسناء معروفة في إيرلندا رفضت تودّدات أحد هؤلاء المحققين المتكررة، فألقيت عليها تهمة السحر وممارسة الجنس مع الشيطان، وصدّقت اعترافاتها رسمياً من قبل لجنة التحقيق، لتعدم حرقاً أمام العامة. بالطبع لم يكن الاعتراف بالجرم أو إنكاره ليصنع فرقاً. إذ لا بدّ من التعذيب ومن العقوبة العلنيّة كدرس لبقيّة السكان. لم تكن المقاومة لتجدي، إذ أن لجنة للتحقيق وصلت إلى إحدى القرى بعد طعن مفتش سيئ السمعة فيها أثناء وجوده في الكنيسة، وقررت بناء على الاعترافات المنتزعة تحت التعذيب إعدام 42 شخصاً أقرّ كل منهم على حدة بتنفيذ الهجوم.
لكن ارتباط الوثائق الناجية من محاكم التفتيش الأوروبية بأعمال الكنيسة الرسمية في أوروبا القرون الوسطى، لا ينبغي له أن يحجب عنّا حقيقة أن النخب الحاكمة ـ بغض النظر عن دينها أو زمانها أو طبيعة الضحايا المستهدفين ـ كانت توظف روحيّة ذات التفتيش لفرض هيمنتها الثقافية والمادية على عامة الناس. في تاريخنا العربي تحديداً قصص كثيرة عن تصفية المُعارضين والمفكرين بعد محاكمات تفتيش تشيب لها الولدان. إلا أن الأهم من ذلك كله أن نكون قادرين – بعد سقوط كل هؤلاء الضحايا – أن نفكك منهجيّة العقل التفتيشي التي انتقلت مع تحولات الأزمنة لتصبح من مهمات الدولة الحديثة. والدولة في المفهوم الغرامشي ليست سوى أداة النخبة لفرض الهيمنة على المواطنين. فمن الملحوظ أن التفتيش يتطلّب إلى جانب ادعاء ملكيّة الحقيقة (إلهيّات أو وطنيّات أو أيّ تلفيقات أخرى) عملاً مؤسسياً بيروقراطيّاً ضخماً، وكوادر محترفة قادرة على جمع أدق المعلومات عن مهرطقين محتملين، سواء في الدين أو السياسة أو حتى العلوم، ومراكمتها وأرشفتها، وتشريعات تؤطر استهدافها لمجموعات دينية أو عرقية أو طبقية من السكان. تتلاقى في الدفاع عن دورها مؤسسات رسميّة متحالفة مع هيئات مجتمع مدني ـ دينيّة أو طوائفيّة أو قومية ـ وتعتمد في تحقيق مهمّاتها على ما تحتفظ به مؤسسات الدولة عن مواطنيها من سجلّات، وتقارير شبكات المخبرين والعملاء (وحديثاً المعلومات التي نتطوع بتقديمها على مواقع التواصل الاجتماعي)، وتمارس انتزاع اعترافات تحت التعذيب، وتنفذ عدالة منتقاة في إطار قانون النخبة أو خارجه.
التاريخ المعاصر يكاد يفيض بالأمثلة التي تجعل رجلاً مثل توركويمادا (أول مفتش أعلى) أو خليفته دييغو دي ديزا (في سجلاته أسماء أكثر من 600 شخص حقق معهم وأعدمهم) يشعران بالفخر: المحاكم الستالينيّة البغيضة، المرحلة المكارثية في الولايات المتحدة، جرائم كولونيلات جيوش أميركا اللاتينية المدعومين من واشنطن (تشيلي، الأرجنتين..)، دولة الكيان العبري، أجهزة المخابرات في دول الشرق الأوسط، الحرب المزعومة على الإرهاب.... هما سيصابان أيضاً بالدهشة من الاحترافية والتقدم الذي وصلته المهنة على يد المخابرات المركزية الأميركية التي انتقلت بالتفتيش من مرحلة العلم إلى الفن. لكنهما لن يصدّقا أن المواطنين الخاضعين أنفسهم أصبحوا يستخدمون أحدث مقتنيات التكنولوجيا لشن حملات تفتيشهم المحلية الخاصة على المهرطقين. في الهند وحدها، قتل عشرات المسلمين على أيدي جيرانهم الهندوس بسبب شائعات عنهم نُشرت بواسطة تطبيق «واتس آب» ادعت بأنهم ذبحوا أبقاراً! أما إذا كانوا بالفعل اقترفوا تلك الهرطقة ـ تقول السلطات المتساهلة مع القتلة ـ فذلك ليس مؤكداً.