للموت مهابة وقداسة وصمت، لا يكسرها جميعها إلا المبدعون في رحيلهم. هذا بالضبط ما فعله الشاعر الكبير أنسي الحاج (1937 ــ 2014). خلال اليومين الماضيين، لم تهدأ المرثيات، التي كُتبت في مناسبة رحيله. أمس، عاشت بيروت يوماً غير عادي. في تمام الساعة الحادية عشرة، أتى الازدحام المروري في منطقة الأشرفية مبكراً على غير العادة، بسبب الصلاة على روح الراحل، وتأبينه في «كنيسة مار يوسف الحكمة».
هناك، أوصى الراحل بأن تكون الصلاة عليه على نحو متواضع، يشبه تفاصيل حياته، من دون أي مظاهر مبالغ فيها، حتى «خشب التابوت أراد أن يكون من النوعية العادية»، يخبرنا أحد المقربين منه، بينما تنهمك عائلته بتلقي التعازي، ويُشغل أصدقاؤه في غمرة حديث ذكريات طويل عن الراحل. في الفسحة السماوية للكنيسة، تجمهر عدد كبير من المثقفين والمبدعين والفنانين، من بينهم: ماجدة الرومي، وطلال حيدر، ورياض الريس، وعلوية صبح، ونضال الأشقر، ورندا الأسمر، وكارول عبود، وجيزيل خوري، ومارسيل غانم، وبول شاوول وآخرون. يتسيّد أسود الحداد المشهد، فيخترقه بياض أكاليل الورود، وبعضها نصبت عند أبواب الكنيسة على شكل صليب، كتب على أحدها اسم السيدة فيروز، مسبوقاً بكلمتين لا أكثر «أنسي وداعاً»، عسى أن تعوّض الحروف القليلة عن غياب صاحبة الصوت الملائكي. نلمح على أكاليل أخرى اسمي تمام سلام، وستريدا جعجع، ومسؤولين وسياسيين لبنانيين كثيرين. يعلو صوت التراتيل الكنسيّة، مكرّساً عمق اللحظات الجنائزية القاسية، قبل أن يتخللها تناوب قاطني الأبنية القديمة المحيطة بالكنيسة على إطلالتهم الفضولية من شرفات منازلهم، فيما تدور في ساحة الكنيسة همسات المشيّعين من الأصدقاء والمحبين. «العوض بسلامتكم» هو أقسى ما يمكن أن يقوله أصدقاؤه المثقفون، فليس من السهل الخوض في بحر من الأحداث، أو استحضار تفاصيل أيام خلت، أو الاسهاب في وصف المشاعر الحقيقية عند وداع حقبة كاملة من تاريخ لبنان الثقافي والإعلامي. طلال حيدر يرفض الحديث أولاً، ويبرر ذلك بحجم الحزن الكبير الذي يشعر به، لكنه يضيف: «لم نودعه بعد. أشعر بأنني بحاجة إلى أيام حتى أتمكن من الكلام بحرية، أو أتمكن من رثائه كما يستحق الرثاء. أما الآن، فما زلتُ تحت سطوة المشهد. نحن هنا أمام وداع من نوع خاص، لأنه كان شريكا ورفيق عمر. أنا حزين جداً ولا أجيد الكلام الآن». الحالة ذاتها تنسحب على الشاعرة والصحافية جمانة حداد، التي أسرعت منذ وصولها نحو المذبح وجلست في مواجهة النعش. وعندما همت بالرحيل، اقتربنا منها نتبادل التعازي، فطلبت أن نعذرها عن عدم الكلام «على الإطلاق، لا يمكنني أن أحكي شيئاً وتحديداً عن أنسي». المسرحية نضال الأشقر استمهلتنا وقتاً قصيراً، وسرعان ما عادت لتقول لنا: «أنسي الحاج لا يمكن أن يكون غياباً، ولا يمكن أن نحكي عنه كجزء من ماض، هو عابر المسافات والأيام والسنوات». وتضيف عن تجربته «محبته وتألقه وإنتاجه وإبداعه سوف تكون خميرة وسياج موهبة، فهو كما سميته عريس دائم سيبقى في عز عطائه، ولن يتمكن الموت ولا غيره من تغييبه». أما الناشر والكاتب رياض الريس، فقد فضّل أن يبتعد عن الإسهاب في الكلام ليحتفظ بمشاعره، لعله يكتبها لاحقاً، ويخبرنا أنه «كتب الكثير عن الفقيد، وجزء كبير مما كتب لم يكن في المستوى المطلوب، لكن ماذا يمكن أن يقال اليوم في هذه الدقائق العصيبة، سوى أن أعمدة الشعر تتهاوى واحداً تلو الآخر: يوسف الخال، ومحمود درويش، وجوزف حرب، وها هو أنسي الشاعر المتعدد الأوجه يلحق بهم. لذا لم يبق شعراء حقيقيون في الوطن العربي». بعد الصلاة، يستنكر الناشر اللبناني خطوة الرئيس ميشال سليمان بإيفاده وزير الثقافة روني عريجي ليقلد الراحل وسام الأرز الوطني من رتبة ضابط، ويسأل: «ماذا كانوا يفعلون عندما كان على قيد الحياة؟».
أما المخرج المسرحي موريس معلوف، فيقول لـ «الأخبار»: «الناس عرفوا أنسي شاعراً وأديباً وصحافياً، لكن لم يتح لغالبيتهم أن يتعرفوا إليه كمسرحي، برغم أنه ترجم نصوصاً، وفتح مجالاً لتسهيل اللغة المسرحية وتخليصها من جلافتها في بعض الأحيان». وعن تجربته معه، يضيف معلوف «كان لي شرف العمل معه في أول مسرحية له وكانت بعنوان «كوميديا الأخطاء» لشكسبير، قدمت في مهرجان «راشانا». بعدها أكملنا معه تجربة خاصة بحضور بروفات وتمارين وعروض مهمة. لذا فإنّ من المنصف القول إنّه كان صاحب فضل في نجاح الحركة المسرحية اللبنانية أداءً ونصاً». على بعد أمتار من المخرج المسرحي، تقف سيدة مصدومة تسحب سيجارتها وتشعلها على عجل وارتباك. نقترب منها لنكتشف أنها الروائية علوية صبح. نسألها عن شهادة بالراحل أنسي الحاج، فتصمت طويلاً ثم تنهمر دموعها وتقول كلمة واحدة «تعبانة». ربما هي الحالة المثلى لوداع قامة مثل أنسي الحاج، تعب ممزوج بالكثير من الدموع.




حطّ بالخرج

فوجئ جمهور المشيّعين أمس، في «كنيسة مار يوسف ـــ الحكمة» بخطبة تأبين الراحل أنسي الحاج، التي ألقاها المطران بولس مطر. المدهش حقاً من «راعي أبرشيّة بيروت للموارنة»، المعروف بثقافته العالية ودقّة متابعته وسعة اطلاعه، ألا يتوقف ولو مرّة عابرة عند السنوات الثماني الأخيرة التي أمضاها الشاعر في جريدة «الأخبار» كاتباً ومشاركاً في القرار، وهي سنوات حافلة بالإبداع والعطاء. بل ذهب المطران أبعد من ذلك، إذ ختم كلمته التأبينيّة بتوجيه العزاء «إلى أسرة النهار» دون سواها. بعض الأوساط سرّب إلى «الأخبار» أن المطران «لا علاقة له وأن الكلمة كُتبت له»، وهو لو صحّ عذر أقبح من ذنب، إذ لا يجوز لمرجع روحي رفيع أن يبارك الباطل. هكذا تكون أحجية هذا اليوم الحزين: من هم «تجار الهيكل» الذين تركوا لأهوائهم الشخصيّة وحساباتهم الدنيئة أن تندسّ لحظة الفقد والحداد؟ أنسي يبتسم الآن من هناك. حطّ بالخرج !