كريم مروة شخصية لبنانية ذات حضور متميز على الصعد الوطنية اللبنانية والعربية، كذلك في أوساط سياسية وثقافية يسارية وديمقراطية على الصعيد الدولي. وقد عرفته الساحات السياسية والفكرية والثقافية العربية عضواً قيادياً بارزاً في الحزب الشيوعي اللبناني على مدى أربعة عقود، وكاتباً منظراً مجتهداً في قضايا الفكر والسياسة والثقافة والاجتماع من مواقع الفكر والمنهج الماركسيين. وكانت كتاباته، وما زالت، تحظى باهتمام واسع بالنظر إلى ما تحمله من أفكار تتسم بالرصانة والعمق، إلى جانب الجرأة في طرح الجديد منها وانتقاد بعض مما كان سائداً. وسواء اتفقنا أم اختلفنا مع آراء وطروحات الرفيق والصديق كريم مروة، تجذبنا كتاباته وتمتعنا قراءة مؤلفاته على الدوام، لأنها محفزة على التفكير ومثيرة للجدل الهادف إلى تجاوز الركود والجمود وإنتاج الفكر الأصيل والمجدد.منذ عام 1990، بدأ الرفيق كريم مروة يمهد لخروجه التدريجي من مواقع المسؤولية في الحزب ليغادر موقعه القيادي في عضوية اللجنة المركزية عام 1999، وينصرف إلى الكتابة والتأليف وإلقاء المحاضرات والمشاركة في الندوات والمناظرات الفكرية والسياسية والثقافية. وأنتج خلال هذه الفترة ما يزيد على 20 مؤلفاً، تركّزت موضوعاتها الأساسية على إعادة رصد وقراءة مسار الحركة اليسارية، والمسيرة الماضية للحزب الشيوعي اللبناني والأحزاب الشيوعية في البلدان العربية والحركة الشيوعية العالمية والتجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية السابقة الأخرى، ومراجعة ونقد التيار اليساري العربي. كما احتلت أوضاع لبنان، حاضراً وماضياً ومستقبلاً، موقع الصدارة في اهتماماته الفكرية، وقد كرس العديد من مقالاته وأبحاثه لتحليل عناصر ومسببات أزمة النظام السياسي في لبنان، القائم على أساس الطائفية السياسية، كاشفاً بدقة وجرأة عن المؤثرات والعوامل الداخلية والخارجية؛ الإقليمية والدولية، في نشوء الأزمات واستمرارها وفي إعادة اإنتاج النظام الطائفي المأزوم، وراسماً طريق إخراج لبنان من أزماته عبر مشروع بناء دولة لبنان المدنية الديمقراطية، النابذة للطائفية السياسية.
ولعل كريم مروة من مفكري اليسار النادرين الذي أعلن، وفي وقت مبكر نسبياً، اختلافه مع بعض أفكار ماركس ولينين، ورأيه أنّ بعضها قد شاخ ويجب تجاوزه، من دون أن يعني ذلك تخلّيه عن الماركسية. لكنه يعتبر أنّ من الخطأ أن يقول عن نفسه ماركسياً، لأنه يأخذ من ماركس ومن سواه، فهو «مفكر يتمسك بقيم دخل إليها ماركس باسم الاشتراكية».


ويؤكّد كريم مروة إعجابه وتمسكه بفكرتين ماركسيتين ذاتَي مضامين فلسفية وسياسية ومنهجية. فهو يعتقد أن الحركة الشيوعية وقوى اليسار عموماً لم تدرك، أو بالأحرى لم تجسّد وتستلهم في عملها ونضالها وفي عملية البناء الاشتراكي، المعاني العميقة لمقولة ماركس «الإنسان أثمن رأسمال»، وتأكيده ضرورة «عدم تحويل الأفكار إلى عقائد جامدة». ففي رأيه، إن الأحزاب الشيوعية، واليسار بصورة أشمل، لم تمارس المراجعة والنقد الحقيقيين على صعيد الفكر والممارسة، وإن أفكار ماركس وإنجلز ولينين أُحيطت بنوع من التقديس، ما أسس لحالة الجمود وغياب التحديث والتجديد، التي عانت منها الحركة الشيوعية ومن ثم اليسار على مدى عقود، خلافاً لجوهر فكر ماركس ولفكر وممارسة لينين. وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية لانهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي، ولانحسار تأثير ونفوذ الأحزاب الشيوعية والفكر اليساري.
وتأسيساً على الاستنتاجات والدروس التي استخلصها من تجربته السياسية ومن مواكبته الدقيقة، من المواقع السياسية القيادية التي شغلها، لأهم الأحداث والتطورات السياسية والاجتماعية والاقتصاية التي شهدتها المنطقة العربية والعالم، وضع كريم مروة لنفسه مشروعاً فكرياً وسياسياً طموحاً، يهدف إلى تحديث وتجديد الفكر اليساري والماركسي، عبر عملية مراجعة نقدية شاملة لممارسات وتجارب وسياسات الماضي، بالارتباط مع قراءة معمقة للحقبة التاريخية الماضية لبلداننا ومحيطها العالمي. إذ من دون معرفة الماضي والانطلاق من المجيد فيه والإيجابي، يصعب التحديد الصحيح للطرق المُفضية إلى تحقيق مشروع المستقبل الأفضل. وجاءت كتب مروة وإصداراته المتوالية خلال العقدين الأخيرين، بمثابة تجسيد لهذه الوجهة وتنفيذ لهذا المشروع، من موقعه «ككاتب يساري مستقل» كما وصف نفسه.
وفي موازاة مراجعته النقدية للفكر والممارسة والتجارب السياسية لبنانياً وعربياً، أخضع مروة سيرته الحياتية والسياسية لمراجعة نقدية، مماثلة من حيث المنهج والرؤية، رغبة منه في تقديم قراءة معاصرة لتجربته السابقة. وبالنظر إلى ارتباطها الوثيق بالأوضاع والحياة العامة، فإن هذه المراجعة تمثّل إطلالة على تحولات العصر الجديد. وهو يشير في أكثر من موقع إلى كونه ينظر إلى ماضيه بعين شخص مختلف عما كان عليه في حياته السابقة.
لقد أتاحت المسؤوليات القيادية للرفيق كريم مروة، التي أُنيطت به في مراحل مبكرة من حياته، كقائد طلابي أولاً ثم كقائد حزبي، أن يحتلّ مواقع قيادية في منظمات عالمية مثل اتحاد الشباب العالمي، وأن يمضي فترات طويلة نسبياً في الخارج، وأن يقوم بزيارات متكرّرة إلى أوروبا ومختلف بلدان العالم الآخر. وقد قام بزيارة خمسة وستين بلداً في القارات الخمس، والتقى بثلاثين رئيس دولة، وبعشرات القادة الحزبيين من كل الاتجاهات، وبمئات المثقفين. ووفرت له هذه السيرة الحياتية الغنية فرصة أن يكون شاهداً أو مشاركاً في كمّ كبير من الأحداث، وأن يراكم تجارب متنوعة ويطلع على طيف واسع من الأفكار. وانعكس هذا كله في تكوينه الفكري والثقافي، وعزز عنده النزوع نحو التجديد في الأفكار، والقدرة على إيصال أفكاره من خلال خطاب يسير الفهم. وخصص كريم مروة قسماً أساسياً من كتاباته، لاستحضار العديد من الشخصيات الثقافية والاجتماعية، التي لعبت أدواراً مهمة في ميادين السياسة والفكر والأدب والفن بالنسبة إلى كل منهم. ومن خلال هذه الاستحضارات استعاد الذكريات الشخصية التي ربطته بهم في مختلف مراحل حياته.
يضمّ كتاب «منمنمات تاريخية ـــ أحداث ومواقف وتأملات وذكريات» (دار الرواد المزدهرة ـ بغداد) الذي هو الآن بين يدي القارئ، مواضيع متنوعة تشمل كلّ مفردات المحاور التي تناولتها المؤلفات السابقة للكاتب، على مدى العقدين الماضيين، خصوصاً تلك المكرّسة لمراجعاته النقدية لتجربته في شؤون حياته الخاصة والعامة. وجاء هذا العنوان ليشير إلى هذا التنوع وإلى غياب وحدة الموضوع في الكتاب. علماً أن المعنى القاموسي لمفردة «منمنمة» يفيد الرسم الصغير الإيضاحي الذي كان يزين المخطوطات الإسلامية، والذي يتميز بالدقة في التصوير والزخرفة الملونة. لذا فإن في العنوان ما يشير أيضاً إلى الإيضاح المتوخّى لأفكار التجديد والتحديث في الفكر والسياسة والممارسة، من خلال الأحداث والمواقف والتأملات والذكريات التي يسردها الكاتب.
وتتوزع مواضيع الكتاب على ثمانية أقسام، ثلاثة منها مكرسة لقراءات ومراجعات نقدية للأفكار والممارسات التي أسست لبناء التجربة الاشتراكية السوفيتية، ولبلدان المنظومة الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تسبّبت في انهيارها في العقد الأخير من القرن العشرين. والرسائل الأساسية التي حملتها مواد هذه الأقسام الثلاثة موجهة إلى الأحزاب الشيوعية التي، حسب رأي الرفيق كريم مروة، لم تستطع أو لم ترغب في إجراء المراجعة والنقد الحقيقيين على صعيد الفكر والمارسة السياسية، بسبب تحويل الفكر الماركسي كما يقول إلى عقائد جامدة، والتمسك بالنصوص على حساب حركة الواقع، وذلك نهج بعيد عن الفكر الثوري الماركسي. ويدلل على ذلك من خلال استحضار موقف لينين في دعوته إلى السياسة الاقتصادية الجديدة (النيب) لإعادة بناء روسيا، بعدما خرجت منهكة اجتماعياً واقتصادياً من أربع سنوات من الحروب الأهلية والحصار والخارجي. ويوضح لينين في شرحه أن أوضاع روسيا تحتم اللجوء إلى آليات سوق منتجة لعلاقات رأسمالية في ظلّ دولة العمال والفلاحين، مطلقاً تسمية «رأسمالية دولة» على هذا النظام. ويعتبر الرفيق كريم أنّ موقف لينين يمثل مراجعة جريئة لمواقفه السابقة في ضوء قراءته للأوضاع المستجدة في روسيا.


ومن الأسباب الرئيسية التي يشخصها الرفيق كريم لانهيار التجربة الاشتراكية، فشل النظام الاشتراكي في تحقيق المواءمة السليمة بين الديمقراطية الاجتماعية وتأمين الحقوق والحريات السياسية للأفراد، التي تضمنها الديمقراطية السياسية، ما أدى في النهاية إلى خلق فجوة بين المواطن الفرد ومنظومة قيادة الحزب والدولة. وهو يجد أن الدولة والأحزاب الشيوعية الحاكمة في البلدان الاشتراكية، خالفت فكرة ماركس الأساسية التي تعتبر الإنسان القيمة الأساس في الوجود.
وفي الأقسام التي يقدم فيها قراءاته الخاصة لثورات القرن العشرين، خصوصاً الثورات العربية المعاصرة، وتأملاته في أحوال بلداننا وشعوبنا في البلدان العربية، يخلص إلى الأسباب التي تقف وراء التراجع لكبير الذي شهدته المجتمعات في البلدان العربية، على مستوى الوعي والقيم والتحضر، مقابل انتشار السلفية وحالة التأزم البنيوي، السياسي والاجتماعي ـ الاقتصادي المستحكمة التي تعيشها، والتي تتلخص في تداعيات وآثار انهيار التجربة الاشتراكية والفراغ الذي نجم عن ذلك، وهيمنة أنظمة الاستبداد وقمع الحريات وحالة التخلف المزمن. وقد أدى تضافر هذه الوقائع إلى تفكيك مجتمعاتنا على أسس دينية ومذهبية وإثنية وعشائرية، إلى جانب التدخل الخارجي الذي فاقم عملية التشظي المجتمعي وعدم الاستقرار السياسي وإعادة إنتاج الأزمات.
كريم مروة مسكون بحب لبنان، ومشغول على الدوام فكرياً وعاطفياً بهموم وطنه، وهو لا يخفي شعوره بالألم والأسف العميقين، إن لم نقل الأسى، لما آلت إليه أوضاع الوطن منذ الحرب الأهلية التي مزقت كيانه وحصدت أرواح أبنائه على مدى 15 سنة. ورغم ندرة بواعث الأمل، يوغل الرفيق مروة في دراسة وتحليل تاريخ لبنان، البعيد والقريب، لتحديد جذور أزمته الراهنة، واستشراف آفاق تطورها، واستخلاص الدروس والعبر لرسم خطوط مشروع يعيد إلى لبنان أمنه واستقراره ولحمة نسيجه الاجتماعي وألقه الحضاري. ونحن نجد في ما يعانيه لبنان، تماثلاً يكاد يكون تاماً مع ما حل بالعراق من خراب سببته الطائفية السياسية، والافتقار إلى مرتكزات الدولة المدنية، وتصدع منظومة القيم الأخلاقية، وإنتاج خطاب الكراهية وممارسة العنف.
يقدم قراءاته الخاصة لثورات القرن العشرين، خصوصاً الثورات العربية المعاصرة


وفي قسم «حكايات عراقية»، يستحضر كريم مروة فترة إقامته في العراق للدراسة في المرحلة الثانوية، برعاية ابن عم والده ومعلمه حسين مروة، الذي كان فقيهاً ومعمماً على امتداد ما يقرب من ثلاثة عقود، قبل أن يخلع أوائل الأربعينات زيه الإسلامي ويستعيض عنه باللباس الأوروبي، والذي أصبح من أبرز كتاب التنوير والبحث الماركسيين في التراث الإسلامي. ومعروف أنّ كتاباته وأبحاثه العلمية استثارت قوى الظلام التي أقدمت على اغتياله بصورة غادرة في النصف الثاني من الثمانينات.
وليس من المبالغة القول إن السنتين اللتين أمضاهما الرفيق كريم في مدينة الكاظمية في بيت حسين مروة، أسهمتا بشكل كبير في تشكيل فكره وشخصيته، وفي تطور وعيه نحو الفكر الاشتراكي وصولاً إلى انتمائه الشيوعي. ففي بيت حسين مروة، تعرف إلى عدد كبير من مثقفي العراق، الذين أصبحوا لاحقاً كباراً في ميادين إبداعهم، منهم جعفر الخليلي والشهيد حسين الشبيبي الذي أعدم مع الرفيق فهد عام 1949. كما تعرف أوائل عام 1948 على شاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري، والتقى كذلك بالشاعر بلند الحيدري والنحات خالد الرحال. وأثناء وجوده في بغداد، شارك مع حسين مروة في وثبة عام 1948. وهو يستذكر في كتابه باعتزاز علاقاته مع الشخصيات المذكورة. أما عن مكانة العراق في نفسه، فقد تحدث في ندوة في محافظة بابل، معبراً عن محبته للعراق بالقول: «أنا عراقي الهوى، والعراق وطني الثاني».
وفي القسم الأخير من كتابه، يلجأ كريم مروة إلى طريقة مبتكرة وممتعة في مراجعة تجربته الشخصية، وإظهار الاختلاف بين شخصيته اليوم وهو في الثامنة والثمانين من العمر، وما كان عليه منذ ستة عقود، من خلال حوار عابر للزمن بين الشخصيتين.