هذه المرة، تغيّر السيارة وجهتها في الطريق إلى زيارة أنسي الحاج. عوض أن نصعد يميناً لدى الوصول إلى مستديرة «مدرسة الحكمة»، نلفّ الدواليب يساراً، ونتّجه إلى كنيسة المدرسة التي تعلّم فيها قبل أكثر من ستين عاماً. الراحل هو من طلب أن يصلّى على جثمانه في هذا المكان، رافضاً أن تُفتح له الصالونات الواسعة. بتواضعه المعروف، رفض أيضاً أن يتميّز جنّازه برقيم بطريركي، كما يروي المستشار الإعلامي لأبرشية بيروت المارونية جورج سعد.
«هو كان وجيهاً، لا يحتاج إلى رقيم بطريركي لكي يثبت موقعه. يكفي العجقة التي حصلت في الأشرفية اليوم لتعرفي حجم محبّيه». لم تكن هذه الطلبات مفاجئة بالنسبة إلى سعد، «فأنا أعرف تواضع الأستاذ أنسي، هو ربّانا». ولولا العلاقة التي كانت تربط أنسي الحاج بالمطران بولس مطر، لكان يمكن أي أب آخر أن يترأس القدّاس، «لكن سيادة المطران بولس مطر سيتلو الكلمة لأنه كان قريباً من الراحل. وهو إذا حكى عنه، فهو يحكي عن معرفة» يضيف سعد.
يدور هذا الحديث في الباحة الخارجية للكنيسة التي غصّ صالونها الصغير بالمعزّين. هنا، كانت الفرصة لكي يتلاقى أصدقاء أنسي الحاج، زملاؤه ومعارفه. ولم يكن لافتاً أن يضمّ الجمع أشخاصاً من مختلف الأعمار، تجد بينهم مجايلي أنسي الحاج، كما تجد الشباب الذين تعرّفوا إليه في «الأخبار». حضر وزير الثقافة روني عريجي ممثلاً الرؤساء الثلاثة، ووزير الإعلام رمزي جريج، ونقيب الصحافة محمد البعلبكي، ونقيب المحرّرين الياس عون، ونقيب الممثلين جان قسيس، والفنانون نضال الأشقر وماجدة الرومي وهبة القواس وجورج الصافي، والشاعر طلال حيدر، إضافة إلى عدد كبير من السياسيين والفنانين والكتاب والصحافيين. وقد وضع الوزير عريجي على نعش الراحل وسام الأرز الوطني من رتبة ضابط الذي منحه رئيس الجمهورية ميشال سليمان للشاعر النائم بهدوء في صندوق خشبي، أحاطت به أكاليل الزهور البيضاء التي حمل أحدها توقيع فيروز تحت عبارة «وداعاً أنسي».
كلمة الوداع تكرّرت على ألسنة من أتوا لوداع أنسي الحاج. فقد كان هو محور معظم الأحاديث التي دارت في فضاء المكان. يسرد كثيرون ذكرياتهم معه، التي كان هو يذكّرهم بها، خصوصاً في حال كانت جميلاً أُسديَ إليه، ويرغب في الاعتراف به. أما تجربته في «الأخبار»، فقد مثّلت مادة لحوار ممتع مع زملاء في «النهار»، عرفوا وجهاً مختلفاً لرئيس تحريرهم السابق عن الذي عرفناه نحن في «الأخبار». حوار يستحق إضاءة منفصلة، لما قد يكشفه من اختلاف بين صحافة تسمي نفسها «كلاسيكية»، وأخرى تدّعي «كسر التقليدية». وقد لا تكون صدفة على الإطلاق أن يكون القاسم المشترك بين هاتين التجربتين: أنسي الحاج.
هذا الأمر لم يلتفت إليه المطران بولس مطر في عظته، أو من كتب تلك العظة، إذ خلت من أي إشارة إلى مشاركته في تأسيس «الأخبار»، وعمله فيها حتى رحيله، في إطار سرده لسيرة الفقيد مع الصحافة. هذا الإغفال أحزننا، نحن تلامذة أنسي الحاج وزملاءه، على الصعيد الشخصي. لكنه يفترض أن يُحزن أكثر الحريصين على تجربة الراحل المهنية واكتمالها. ونفترض أنه سيُحزن الحريصين على الاقتداء بأنسي الحاج الإنسان، المحبّ والصادق، الذي لم يعرف الزيف في حياته، كما جاء على لسان مطر نفسه: «نحن جميعاً مأخوذون بعمق التزامه الحقيقة والمحبة وكلاهما قبس من أنوار الله». لكن من استمع إلى عظة مطر تُلقى من على مذبح كنيسة، لم يشعر بأنها كانت مأخوذة بهذا الالتزام. فجاءت حياة أنسي الحاج الصحافية على الشكل الآتي: «... كان من المنتظر أن يبدأ حياته العملية في جريدة «النهار»، وأن يكمل الدرب فيها طويلاً قبل أن يطوف وحيداً في محراب الوجود طوافه الأخير... وكان له أن يسلك في العمل درب والده الصحافي الشهير الأستاذ لويس الحاج الذي رافق النهار منذ نشأتها على يد جبران تويني الأول، ومع عملاقها الفكري الأستاذ غسان رحمه الله، وصولاً إلى جبران شهيد الوطن الذي نزل إلى جحيم الحب الأعمق ليطلع منه متجلبباً حلّة بيضاء وقد غسلت بدم الحمل. وما من شك في أن علاقة خاصة نسجت بينه وبين غسان المفكر، لا لأن أنسي قد اعتنق الفلسفة النظرية أو العملية، بل لأن غسان كان هو أيضاً على مثاله محبّاً للفكر المتفلت من الكلمات والرامي إلى تذوّق الحقيقة بمكاشفة العشق لها والتوحد بها في نشوة الإيحاءات». وأضاف: «هكذا ندرك فرادة العمل الصحافي الذي اندرج فيه أنسي، فهو لم يبتغ منه خدمة الخبر السائر، ولو كان صحيحاً وبنّاءً، بل لأنه أراد من خلاله خدمة الإنسان في أدبياته وفي توقه إلى الثقافة الفضلى، فجمع بذلك بين الشعر الذي كاد أن يلهيه عن كل لاه، وبين الأدب الذي رأى فيه اكتمال الحقيقة وعرساً لها». وختم «في أسبوع الأبرار والصدّيقين، أي هذا الذي نحن فيه، ينتقل أنسي العزيز من الموت إلى الحياة. ولنا كلّ الرجاء في أنه سينضم إلى صفوفهم مصحوباً بشفاعة العذراء والقديسين، لأنه كان في دهره رجلاً صادقاً، ولا يمكن هذا الصدق إلا أن يصله بالله الذي هو الصدق كله. فأنسي لم يعرف الزيف في حياته ولا توسّم الوجهين ولا اللسانين. ولم يعتنق نرسيسية كان يكرهها حتى الأعماق، بل راح يتلمّس طريقه إلى الله عبر القيم الإنسانية الفضلى وجمالات الوجوه العاكسة بهاء خالقها ومرسلها إلى الوجود. وهو أراد أن يبني في الدنيا بيتاً من خيوط الحقيقة التي تقدر وحدها أن تحرّر. لذلك كنت تراه مع الناس بعيداً على قرب وقريباً على بعد، إلا عندما كان ينشده للنزاهة ساطعة فينحني لها إجلالاً ويرى نفسه أمامها عابدة لا معبودة، فليس من معبود إلا الله وحده. بهذه الروح يقرأ ترفّعه عن المناصب والمكاسب وميله إلى تواضع النفوس الكبيرة التي لا مكافأة لها إلا من ذاتها».
وبعد العظة وتقبّل التعازي، نقل جثمان أنسي الحاج إلى بلدته قيتولي الجزينية، حيث ووري في الثرى بعد إتمام مراسم قروية هادئة، وعظة لطيفة غلبت عليها استشهادات من كتابات الراحل.