القاهرة | «دون كيشوت» أم «هاملت»؟ عبقري متمرّد أم مجنون؟ هو يرى نفسه ذلك الفارس بلا بطولة الذي يقضي عمره محارباً طواحين الهواء، لكن مسار حياته، جعله أقرب إلى ذلك البطل التراجيدي، الحائر، الذي لم يستطع أن يتحرّر من قلقه بينما يحوم حوله الفساد كشبح، ويعتصر الحزن قلبه، لإدراكه أنّ «شيئاً عفناً في مملكة الدانمارك»، لذا يصرخ صرخته العابرة للزمان «أكون أو لا أكون؟».هكذا كان نجيب سرور (1932ــــ 1978)، مزيجاً من العبقرية والجنون في الوقت ذاته، مزيجاً من بطل سيرفانتس، وبطل شكسبير، وإن اجتذبته بقوة شخصية «هاملت» الذي استلهمه في عمله الدرامي الشعري «أفكار جنونية في دفتر هاملت». لكن في دانمارك سرور «لا جدوى في هذا العصر من الكلمات». لكن رغم ذلك الحزن والإحساس باللاجدوى، يعلن «هاملت العربي» وصيته: «لا تنتحروا/ فلينتحروا هم/ لا نحن/ مهما كان جحيم الحزن/ لا تنتحروا، فالمنتحر هو المهزوم». لم ينتحر نجيب سرور، لكنه حوّل حياته إلى دراما تشبه كثيراً أبطال المسرحيات التي عشقها، وترك إبداعاً متجاوزاً اللحظة التي كتب فيها... حيث ستصبح «النكسة ميت نكسة».
تعود سيرة حياة سرور ونبوءاته إلى بؤرة الأحداث هذه الأيام بعد إعلان أسرته إصابة ابنه الأكبر شهدي بمرض السرطان، ودخوله أحد المستشفيات في الهند للعلاج، وعرض أرشيف صاحب «ياسين وبهية» للبيع لاستكمال تكاليف العلاج.
مأساة أخرى تضاف إلى حياة الأسرة التي غادرت مصر قبل 15 عاماً بعدما أسّس شهدي موقعاً إلكترونياً لوالده، ونشر فيه القصيدة الشهيرة «الأميات» التي تُعتبر أشهر قصائد الهجاء للواقع السياسي المصري، وكتبها بداية من نهاية الستينيات، وكان يتم تداولها سراً في أوساط المثقفين على شرائط كاسيت. وقد حوكم شهدي وقتها وحُكم عليه بالسجن لمدة عام بتهمة نشر «مواد مخلّة بالآداب»، فغادر مصر إلى روسيا، ثم إلى الهند حيث يعمل هناك.
وقائع المرض ـــ رغم ما فيها من مأساوية ــــ يصفها فريد الشقيق الأصغر في رسالة لصديقة مصرية: «كأننا في مسرحية من إخراج نجيب سرور، هو معنا في كل خطوة، هو المخرج لتلك الدراما التي نحيا فيها الآن، ولكن بالتأكيد ستحمل المسرحية مفاجآت سارة قادمة».
لكن كيف بدأت المأساة؟
لم يستطع نجيب سرور أن يطرد هذا الحادث من ذاكرته، بل شكّل حياته في ما بعد، عندما كان صغيراً، وأخبره والده، أنه لن يستطيع أن يشتري له ولشقيقه ملابس العيد، وطلب منهما أن يعملا في حقول القرية، ويحتفظا بما يحصلان عليه من أموال لشراء الملابس الجديدة. كان نجيب يضع ما يحصل عليه في «برطمان» زجاجي. كلما وضع فيه نقوده التي اكتسبها، يتخيل شكل ملابسه الجديدة. ذات صباح، اقتحمت سيدة عجوز بيته لتخبر والده أن نجيب اعتدى على ابنها الصغير وكسر يده، وقد كلفها تجبير الكسر جنيهاً كاملاً. نفى الصغير أن يكون قد التقى هذا الطفل، لكن الأب، منح السيدة ما ادّخره نجيب لينتهي حلم الملابس الجديدة. من أين أتت السيدة؟ ولمَ فعلت ما فعلت؟ أسئلة انشغل بها نجيب طويلاً. وكانت القصة التي يحكيها لأطبائه وأصدقائه ومعتقليه أحياناً. على مدى 46 عاماً عاشها، لم يجد إجابة على السؤال المؤرق. لكن الشخصيات التي التقاها في عمله في حقول القرية كانت أبطالاً لأعماله. كان يكتب ويمثل ويخرج لهم.
على مسرح كلية الحقوق، التقى أصدقاءه كرم مطاوع، وسعد أردش وجلال الشرقاوي، وقرّر أن يترك دراسة الحقوق والالتحاق بمعهد التمثيل. يتذكر صديق له ـ في رسالة غير منشورة- وقائع يومه الأول عندما ذهب لاختبارات المعهد: «هل تتذكر حين قابلتك أول مرة، عقب أدائنا امتحان القبول في معهد التمثيل، في أوائل نوفمبر 1952، سرنا معاً حتى ميدان التحرير. مراد وشكري وأنت وأنا، ومعنا آخرون صامتون قد أودوا الامتحان. أما أنت فكنت تردد، طوال الطريق، بعض المشاهد التمثيلية من عطيل إلى هاملت، إلى يوسف وهبي... هل تذكرت؟ وكنت تُسقط على هذه المشاهد أشياء من عندك. تأملتك ملياً، فأدركت كيف أن أيّ نصّ أو حقيقة تظل جامدة ميتة، ما لم نضف إليها شيئاً من نفوسنا، وقارنت نشاطك بصمت زملائك، الشبيه بصمت الموظف الذي أدى عملاً روتينياً، فأدركت مدى الطاقة التي لا بد أن تكون وليدة تجارب وآمال كبيرة، والتي تدفعك دوماً إلى الأمام. أما الامتحان الذي كنت قد خرجت منه لتوك، فليس إلا نقطة عابرة في خط سيرك المندفع دائماً إلى الأمام... وكانت تلك أول بادرة أشعرتني أنك لست كالآخرين».
لم يكن سرور كالآخرين. كان وحده سبيكة من الفنون، فناناً متكاملاً، شاعراً أحياناً، كاتب أغنية أحياناً أخرى، مترجماً، وممثلاً سينمائياً (شارك في بطولة فيلم «الحلوة عزيزة»/ 1969 مع هند رستم)، أستاذاً جامعياً ومحاضراً في معهد الفنون المسرحية، وناقداً أدبياً. رغم كل ذلك، إلا أنه اعتبر المسرح- لا شيء آخر- هو «قلعة الفنون» أو «قصة الصراع بين الواقعية والأفكار الرجعية». فاقتحم هذه القلعة كتابة وإخراجاً وتمثيلاً ونقداً، لأنه «المنبر الذي أستطيع من خلاله أن أقول كلمتي للجماهير الواسعة، هو العلاقة الحية بين الشاعر والجمهور، والتفاعل المباشر من دون وسيط» على حدّ تعبيره.
في نهاية الخمسينيات، سافر سرور إلى موسكو في بعثة لدراسة المسرح. وبعد أشهر من وصوله، حدثت أزمة بين مصر وموسكو، لتطالب مصر بعودة كل مبعوثيها، لكنّ نجيب تمرد على القرار، فأكمل دراسته من خلال منحة مغربية، وبدعم من بعض الجرائد اليسارية اللبنانية التي كان يكتب فيها. وقتها سحب جواز سفره، وأسقطت عنه الجنسية بعد هجومه على جمال عبد الناصر واتهامه بالدكتاتورية، لكن سوء الأحوال في روسيا اضطره للسفر إلى بودابست للعمل هناك في إذاعة عربية، ولكن أيضاً لم تكن الأمور مستقرة. ما دفعه إلى بعث رسالة إلى الناقد رجاء النقاش يطلب منه التدخل للعودة إلى مصر مرة أخرى، فكتب النقاش مقالاً بعنوان «مأساة فنان مصري في بودابست».
عاد ليقضي أياماً في المعتقل، ويخرج بعدها محاضراً في معهد الفنون المسرحية، ومخرجاً لعدد من المسرحيات التي كتبها آخرون مثل «بستان الكرز» لتشيخوف، و«وابور الطحين» لنعمان عاشور، كما كتب مسرحيتي «ياسين وبهية»، «يا بهية وخبريني» اللتين أخرجهما كرم مطاوع.
بعد النكسة، أصيب نجيب بانهيار عصبي، وطُرد من معهد الفنون المسرحية حيث كان يدرّس ولم يجد عملاً، وكانت «كازيون» (1977) آخر مسرحية يقوم بالتمثيل فيها. ورغم تقديمها في عرض محدود في «قصر ثقافة الغوري» في القاهرة، إلا أن الرقابة أوقفت عرضها، لتنتهي حياة سرور نهاية ماسأوية بعد رحلة في مستشفيات الأمراض العقلية بين القاهرة والإسكندرية... هو الذي وصف تجربته قبل الرحيل:
«هو لم يمت بطلاً ولكن مات كالفرسان بحثاً عن بطولة
لم يلق في طول الطريق سوى اللصوص،
حتى الذين ينددون كما الضمائر باللصوص
فرسان هذا العصر هم بعض اللصوص».
وفي ظلّ هذه الظروف القاسية كان سرور يواصل الكتابة تاركاً وصيته لابنه شهدي: «يابني بحق التراب وبحق حق النيل، وجعت زيي ولو شنقوك ما تلعن مصر».
وتاركاً وصيته لنا جميعاً:
«آه م الاهات... يا جرح إمتى تطيب؟».