عند مدخل شبرا، أحاطت به أربع سيارات سوداء، كان في التاكسي، وكان في طريقه إلى الإسكندرية، اقتحم ثلاثة رجال طوال القامة التاكسي، جلس أحدهم بجوار السائق، وجلس اثنان في الخلف، أحدهم على يمينه، والآخر على يساره، ودون كلمة تحرّك التاكسي، وكان السائق يعرف الطريق- بحكم العادة- وبعد دقائق وجد نفسه في أحد أقسام البوليس. جذبته الأيدي الثقيلة إلى خارج التاكسي، ثم عادت فدفعته إلى مدخل القسم، ثم إلى سلم، ارتقى السلم ومشى في طرقة صغيرة ودخل... فوجد نفسه أمام مكتبين يجلس على كل منهما أحد الضباط الشبان، أجلسوه على أريكة بين الضابطين، وأغلقوا الحاجز الخشبي الذي يفصل بين المكتبين ومدخل الغرفة الضيقة. فجأة رنّ جرس التلفون، رفع الضابط الذي على يمينه السماعة: • أيوه يا أفندم.. أيوه.. مفهوم
والتفت إليه، ثم وضع السماعة، فهم هو أن المكالمة خاصة به، هكذا بسرعة؟! إنهم لا يضيعون الوقت حين تدعو الضرورة إلى الاستعجال.. ويبدو أنهم في عجلة من أمرهم هذه المرة.. كان يعرف مصيره جيداً. ولذلك قرر بينه وبين نفسه ألّا يترك العالم دون فضيحة، لم تمضِ دقائق حتى امتلأت الغرفة الضيقة بعشرات النسوة والرجال والصبيان من كلّ المهن، من أين جاؤوا بهذه الكثرة؟ وفي هذه المدة القصيرة؟
كانت الغرفة الضيقة تكاد تنفجر بالضوضاء حين قال للضابط بصوت مرتفع:
• اقدر اعرف انتو جايبيني هنا ليه؟
فرد الضابط بحده:
• أقعد ساكت!
• اقعد ساكت يعني إيه؟!
• يعني تخرس!
• انت اللي تخرس وتتلم وتكلمني كويس.
هدأت الضوضاء في الغرفة وتحولت إليه كل العيون. نظر إليه الضابط بذهول.. ثم كتم الضابط غيظه للإهانة وانكبّ على دفتر كبير أمامه وراح يفر أوراقه بعصبية.
***

أصبحت الغرفة والطرقة وسلم القسم أشبه بخلية نحل، وكانت الضوضاء أشبة بضوضاء السوق، توجّس شراً، فمن الجائز أنّ كلّ هذا مدبّر للتغطية على صراخه فيما لو بدأوا جولة التعذيب الأولى، أم أن البخت الأسود سيخلف ميعاده هذه المرة، ولهذا جاء كل هؤلاء الناس من كل الأصناف والأعمار، ليكونوا شهود إثبات على جريمة توشك أن تتم.
راح يتأمل العيون المحدقة فيه، كان فيها أسى وأسف، قرأ في بعضها نظرات تشجيع صامتة مكتومة، في لحظات الضعف والوحدة، لحظات المصير نتشبث بالأمل في أي شيء.

ممثلاً في مسرحية «صلاح الدين» (تأليف محمود شعبان ـ بطولة وإخراج نجيب سرور ـ 1958)

تراهم يعرفون ما سيحدث له؟! كم مرة حدث بعلمهم هذا الشيء الذي يوشك أن يحدث!
وهو ما رقمه في السلسلة الطويلة، في الفهرس الطويل ممن حاصرهم الرجال ذوو القامات الطويلة والأيدي الثقيلة. في الأزقة والحارات والشوارع والورش والمصانع والمدارس والمنازل. لهذا لا بد أن نكون نحن أيضاً هنا لا هم فحسب..لا بدّ أن نكون في كل زاوية وركن مثلهم تماماً. نرى كل شيء ونسمع كل شيء حتى لو بدا أننا عاجزون عن فعل أيّ شيء، إلى أن تحين لحظة الحساب فنفر نحن أيضاً دفاترنا كما يفعل حضرة الضابط الآن!
شعر بالراحة قليلاً وهو يتأمل العيون، الوجوه المصفرة، العيدان الهزيلة الذابلة، الأيدي المعروقة المتسخة، الملابس المهلهلة، لمح رغيفاً وقطعة جبن في يد صبي صغير!
جائع« هو» وعطشان، أدار بصره في الغرفة، كانت فوق رأسه مباشرة نافذة صغيرة تتربع فيها «قلة»، لمحها وهم يدفعونه أمامهم منذ قليل إلى الضابطين، نهض وتناول «القلة» دون إذن وشرب. نظر إليه الضابطان مرة أخرى وفي عينيهما الغيظ، أحسّ بالشماتة في الضابطين، على العموم لقد تمكّن من الشرب رغم أنفهما.
تذكر عندما كان أجيراً في أرض الباشا ولفحه العطش الشديد، طلب من الخولي أن يسمح له بالذهاب إلى الترعة ليشرب، لكن الخولي أصر على أن ينتظر القيلولة، الميعاد المحدد للأكل والشرب، كان صغير السن لدرجة لا تحتمل فهم العطش والقيلولة والخولي. انتظر لحظات حتى ذهب الخولي إلى آخر صف الأنفار، وجرى مسرعاً في اتجاه الترعة، رآه الخولي فراح يناديه، إرجع يا ولد.. يا ولد ارجع... ارجع يا ابن الكلب.. واستمر هو في الجري غير عابئ، وانكبّ على ماء الترعة يشرب ويشرب في لهاث، ثم عاد فسلّم نفسه للخولي وتلقى ضربات الخيزرانة على كل جزء من جسمه العاري إلا من جلباب كستور مقلّم كان يرتديه على اللحم الطري.
• نبيل محمد منصور
جاءه النداء من الخارج، ثم دخل عسكري إلى الغرفة وكرر النداء.. فرد نبيل
• أفندم
• قوم فز تعالى
• على فين؟
نهض الضابط الذي على يمينه وجذبه بشدة، فأوقفه ثم جذبه مرة أخرى ودفعه أمامه بقسوة إلى خارج الحاجز الخشبي.. فتلقفه العسكري من ياقة قميصه وضيّق على رقبته الخناق وسحبه إلى الطرقة الخارجية. كانت الطرقة تنتهي إلى بلكونة صغيرة تطلّ على ساحة خارج القسم رآها من التاكسي مزدحمة بالمارة والباعة والسيارات، ولاحظ محلّ أحذية صغيراً متواضعاً على يمين الداخل إلى القسم، ودون تفكير ترك قميصه في يد العسكري ووقف في البلكونة يصرخ، كان صوته جهورياً
• نبيل منصور الشاعر يتشنق ليه؟ نبيل منصور.....
راح يكرر هذه العبارة كالأسطوانة وبأعلى ما وهبته الطبيعة من صوت.. ووقف المارة أمام القسم وازدحمت الساحة كما لو كانت هناك مظاهرة.. كان يقف في البلكونة بحيث يمكنه أن يرى ما وراءه داخل القسم وما أمامه في الساحة.. ووقف الضابطان والعساكر والناس في الطرقة ينظرون إليه ولا يتحركون.. فهم يخشون الاقتراب منه فربما قذف بنفسه من البلكونة إلى الساحة.. وهو ما زال يكرر نفس العبارة.. فتحت نافذة فوق رأسه وناداه صوت
• تعالى يا نبيل.. إطلع أنا عايزك
قال أحد العساكر:
• سيادة المأمور عايزك
صرخ نبيل:
• عايزني في إيه المامور؟ عشان يبق الشنق دكاكيني؟ لأ خلوها كده ع البحري.. على عينك يا شايف.. نبيل منصور الشاعر يتشنق ليه؟
لا تكف عن الصراخ حتى الموت.. إلعب بكل ما تبقى لديك... حتى بأنفساك الأخيرة و«العيار اللي ميصيبش يدوش». هم يلعبون بالصمت والرعب.. إلعب بالصراخ والجنون.. أنت تعلم المصير الذي ينتظرك. وكنت تعلم منذ زمن بعيد وها قد حانت لحظات النهاية ولن يغير منها في شيء أن تخرس.. أو تبدو عاقلاً أو معتوهاً أو مهذباً أو قليل الأدب. المصير نفسه عاجز عن أن يأتي إليك بأفجع مما جاء به طوال أربعين عاماً... أربعين عاماً بين قريتك والقاهرة وموسكو وبودابست ودمشق، كنت دائماً تتوقع النهايات الفاجعة، لأنك تعودت على البدايات الفاجعة. كنت تسير في الشارع فتحس إحساساً عميقاً يقينياً بأن أصيص زرع سيسقط من إحدى البلكونات ليسحق رأسك.
أربعون عاماً بين قريتك والقاهرة وموسكو وبودابست ودمشق، كنت دائماً تتوقع النهايات الفاجعة

أو أن سيارة ستصعد فجأة إلى الرصيف لتصنع منك مع الحائط «ساندوتش» أو أن أحد أسلاك التروللي أو الترام ستنقطع فجأة ويسقط عليك سقوط الصاعقة... أو أن الموس سيتمرد على يد الحلاق ليحز رقبتك... أو أنك ستجد نفسك متهماً في جناية يحكم عليك من أجلها بالإعدام بلا سين ولا جيم.. أو أنك ستقضي حياتك في أحد الليمانات دون سبب مفهوم.. أو أن البلكونة ستسقط بك دون باقي بلكونات العالم.. وها أنت اليوم هنا في قسم شبرا بعد رحلة العذاب وبلا سبب معقول. كل شيء في هذا العالم يحدث بلا سبب معقول. ترى متى اكتشفت هذه الحقيقة؟ متى اصطدمت بالجنون لأول مرة! نعم. .نعم.. تلك الليلة من زمان يا دنيا.

■ ■ ■

كان العيد يقترب... وكنت صغيراً.. صغيراً جداً وتعمل أنت وأخوك بتنقية دودة القطن، نفس الجلباب الكستور المقلم، ومنديل تربطه أمك إلى رسغك كل صباح على قطعة من الجبنة القديمة المغموسة في المش. هذا كل طعام الأيام الشاقة.
كان يعود كل مساء ليضع في يد أبيه أجرة اليوم، خمسة قروش كاملة. خمسون مليماً. وذات مساء قال الأب للصغيرين:
• أنا مش حاخد أجرتكم من هنا ورايح، العيد قرب وكل واحد فيكم يشتغل ويكسي نفسه على دخلة العيد.
كانت تلك اللحظة في حدّ ذاتها عيداً للصغيرين، وفعلاً، بدا الصغيران يضعان أجرتيهما كل منهما في برطمان خاص به. وبدأت النقود ترتفع في البرطمان يوماً بعد يوم. لم يكن نبيل يراها نقوداً بل كان يراها خيوطاً للجلابية. وكان يتحسس البرطمان كل صباح وهو ذاهب إلى الغيطان تقذفه قرية وتلفظه قرية، وكل مساء وهو عائد مع الإجهاد والغروب. لكن مرأى الجلباب في البرطمان كان كافياً كل مساء ليمسح آلام الصبا. وذات مساء، جلس الأب والأم والصغيران إلى طبلية في صحن الدار يتناولون العشاء. وباب الدار مغلق عليهم كالعادة. دق الباب. كان هو قريباً منه، قام وفتح. وعاد يجلس إلى الطبلية دون أن يرى من القادم. ثم رأى امرأة عجوزاً في ذيلها صبي يربط ذراعه اليسرى المكسورة الموضوعة في الجبس إلى عنقه:
• منصور أفندي هنا؟
كان أبوه أفندياً ويعمل مدرّساً بالمدرسة الإلزامية.
• هنا يا ستي اتفضلي الأكل.. قالها أبوه
• بالهنا والشفا
• خير يا ستي
• خير يا منصور أفندي... بس.. ابنك كسر دراع ابني وكلفني جنيه بحاله عند المجبراتي.
التفت الأب تلقائياً إلى الابن الأكبر خالد. كان من عادة خالد أن يضرب عيال القرية كلما مرّ أحدهم من أمام الدار. أما الابن الأصغر نبيل، فكان في حاله دائماً، وإن كان عيال القرية قد اعتادوا أن يضربوه هو انتقاماً لشقاوة أخيه. لذلك كثيراً ما كان يضرب في صباه بلا سبب معقول.. إلا لأنّ له أخاً يضرب أولاد الناس بلا سبب معقول أيضاً.
• كده يا ابن الكلب
صرخ خالد:
• مش أنا يا با!!
وأغاثته العجوز:
• لا مش خالد يا منصور أفندي.
التفت إليها الأب في دهشة غير مصدق. فلم يكن يخطر بباله ما قالته العجوز فوراً
• نبيل.. نبيل هو اللي كسر دراع ابنى.
صرخ نبيل كمن لدغته أفعى:
• أنا يا خالة
رد الصبي:
• أيوه انت
لم تصعقه نظرة أبيه الذي أخذ على غرة. ولكن صفعته صرخة الصبي واثقاً فيما يقول.. فعاد نبيل يصرخ:
• أنا يا بني كسرت دراعك؟
• أيوه انت
قال الأب:
• نبيل ولا خالد يا بني؟!
• نبيل يا عم منصور
• طيب يا ابن الكلب.. أنا حاوريك
صعد الأب إلى الغرفة العليا وعاد ومعه برطمان نبيل، فأفرغ جلباب العيد في حجر العجوز
• ابقى وريني بقى حاتعيد إزاي
خرجت العجوز بالجلباب ونبيل في خرس الذهول يحدق في البرطمان الفارغ. قام عن الطبلية ولم يكمل عشاءه، ويقسم حتى هذه اللحظة وهو في بلكونة قسم شبرا أنه لم يكسر ذراع ذلك الصبي.. بل لم يكن قد رآه قبل تلك الليلة.. ودخل العيد عليه بنفس الجلباب الكستور المقلم.. القديم، والغريب أنّ خالداً أخاه يقسم على نفس الشيء... أيمانات تجمد المياه.
من أين أتت تلك العجوز! لقد ظلت في حياته شبحاً غير مفهوم تماماً كأشباح الحواديت. أمّنا الغولة والنداهة والجنية الزراعية عند مدخل القرية.. وهو في صغر العصفور. كان أبوه يعمل مدرساً في إحدى القرى البعيدة، وكان يزورهم كل خميس... وطالما منّتهم الأم بالهدايا واللعب التي سيأتى بها الأب.. وفي كل مرة كان يجيء خاوي الوفاض، إلا من كراريس فاضية وأقلام رصاص وأصابع طباشير واردواز وأساتيك.. لم تكن تشبع آمال الصغير في عودة الأب الغائب..فيعود لينتظر الخميس التالي.