رشا الأمير* إلى أنسي الحاج شاعراً ولبنانياً

تُريد الخرافة، ولعلكَ، بل الأرجح أنك شريك فيها، أنّك نؤوم الضّحى، لا تُغادر فراشك إلا عندما تطمئنّ أن البشر قد أحرزوا قصب السبق في الإعادة والتكرار؛ تتثاءب كثيراً قبل أن تقرّر أنّ المساء، ساعتك الأثيرة، قد دخل حقّ دخوله، فتتهندم كأنّك الضيف الشرف على احتفال سلطاني باذخ يقام مرةً، في العمر، واحدةً لا شريكَ لها، وتمضي إلى مكتبك، ومنه إلى ليلك الحاشد بالجنيّات والشياطين والمُستوحشين والكسالى وأحاديث قلّما يؤتى فيها على ذكر الشعر!

هذا ما تريده الخرافة، ولا سبب وجيهاً لوضعها على المِحك، أو لتمحيصها أو للشك بما تريده ــ أعني بما تريده الخرافة، وبما تريده أنتَ من الخرافة التي استَأمنت عليها سيرَتك وروايتَك، لا مُتكاسلاً، بخفر، بل بخفة النشّال، من تنقيحها كلما بدا لك ذلك، كأني بكَ بدا لك ذلك كلَّما أهلك الزّمانُ جيلاً من حوارييك وأهداك جيلاً جديداً.
لسواي أن يقولَ فيك غيرَ ذلك ولكن هذا، عندي، بعض ما يبقى منك من أول يوم طرقت فيه بابك الباريسيَّ في «النهار العربي والدولي» مُتلمسةً سبيلي في متاهات العمل الصحافي، إلى آخر يوم، قريب، أجاءتني فيه الصدف إلى تصفّح «ماضي الأيام الآتية». بل، كلّي يقين أن لسواي فيكَ غير ذلك، وكلّي يقين، أيضاً، أنَّ المسافة التي تعمّدتَ، دوماً، أن تخطّها خطاً مُبيناً بينك وبين شِعرك ــ (ولو أنَّه آثَرُ عندي، والأرجح عندكَ، أن أقولَ كلماتك) ــ طريقٌ إلى شِعرك، مِنْ طرق شتى، إليه. ليس أنَّ الشعر في مكان آخر بل إنه مكان آخر: مكان آخر تمضي فيه حياة أخرى، وأحيانًا آخرة، على رِسْلِها مُنْتَحِلَةً الحِكْمةَ أو بسرعة الطلقة مُعانقة الجنون، وتدعو، مِنْ غير أن تَدعو، كلّ من يعنيه الأمر، أنْ يحذوَ حَذوك فيمضي فيه، في الشعر، حياة أخرى، وأحيانًا آخرة.
هو كذلك، ولكن الشّعر هذا ليس بالمكان الموهوم أو بالمكان المستحيل؛ و«لن»، مقدمةً ونصوصاً وورثة ذوي استحقاق ـ ومتطفّلين، خير دليل على ذلك. وإن أنسى، لا أنسى يوم أعادت «دار الجديد» نشر الخمسة الأوائل من دواوينك ــ دواوينك «التاريخية» على افتراض أن للصلح بين «الشعر» وبين «التاريخ» محلّاً أو مجالاً ــ إن أنسى لا أنسى بكم من الدقة، بل بكم من الوَسْوَسة، كنت تُصحّح وتستأنف، المرة تلو المرة، تصحيح تلك المسوّدات على قلق متّصل كأن هذه الطبعة ــ أو تلك أو هاتيك ــ هي «الكتاب» الأخير بعينه ونفسه، أو قل كأنّها «الكتاب» الذي يحاسب عليه المرء، يومَ الشّعر، وعلى ما فيه، الحسابَ العسير.
وإنْ أخشى، وحقُّ القَلْب أن يتوجَّس الخيفات، فأخشى ما أخشاه على «الخرافة» أنسي الحاج أن تُصْلَب على خشبة «الشعر» دون سواها، أو أن تُودع في كتاب ــ كائنا ما كان هذا الكتاب. إنْ كان لا بدَّ من ذلك، فأنسي الحاج يستحق أن يُصْلَب على صُلبانَ كثيرةٍ ليس أخشنَها، ولا أقلَّها ارتفاعاً، صليب لبنانيته الهازلة المغرورة في آن واحد، ولو أنها قد تبدو اليوم، لبعضهم على الأقل، من زمن غابر.
أحب أن أتذكر أن أنسي الحاج، بوصفه المدير المسؤول لجريدة «النهار»، استُدْعِيَ ذات يوم، في عز «الوصاية»، أمام القضاء اللبناني، لمُساءلته عن نَشْرِ مقالات ذات صلة بالدّخْلل والحميمية بين «الأجهزة» اللبنانية والسورية (البعثية)، وأحبّ أن أتذكر أن أنسي الحاج، قبل التحاقه بـ «الأخبار» بسنوات، غادر «النهار»، بيتَ أبيه، مُحْنَقاً، فاحتكم في نزاعه ذاك «إلى القارئ»، في كرّاس نشرته «دار الجديد»... أحب أن أتذكر أن «الشعر»، على دِين أنسي الحاج وذمته، هو «العكس مِنْ كلّ ما يَقهر».
* كاتبة وناشرة «دار الجديد».