ربما في وقت قريب ستكون الحفلات التي تستعيد أغنيات عبد الحليم حافظ (1929 ـــ 1977) هي الوسيلة الأكثر سهولة للاستمتاع بفن «العندليب الأسمر»، في ظلّ إعادة هيكلة السوق الفني في مصر. وهو وصف مجامل لعملية احتكار السوق من قِبل شركات مقرّبة من الدولة، فيما مُنحت إحداها حق الاستغلال الحصري لقدر غير محدود من التراث الفني المصري، الموجود ــ نظرياً ــ في خزائن اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري «ماسبيرو»، والمتاح عملياً عبر منصات الإنترنت المتعددة، البصرية والسمعية، مشكّلاً جزءاً رئيسياً في ما يعرف بـ «القوى الناعمة» المصرية. بحسب الإجراءات الجديدة، سيمكن الوصول إلى هذا التراث حصرياً من خلال التطبيق watch it، مع اشتراك مالي (ستة دولارات أميركية) يقارب سعره اشتراك أصغر باقة في شبكة «نتفليكس» الأميركية. لكن المشكلة الأبرز أنّ المشكلات التقنية صاحبت التطبيق منذ الأيام الأولى لإطلاقه، ما يهدّد إمكانية الوصول إلى ذلك التراث حتى بعد تضييق مجال عرضه.
عبد الحليم حافظ (من صفحة «أنتيكا» على فايسبوك)

هكذا، فإنّ حفلات مثل التي يحييها المغربي عبدو شريف (يسميه البعض «العندليب الجديد») في «مهرجانات بيت الدين الدولية» (10 آب/ أغسطس 2019)، والفلسطيني محمد عساف مع المصرية نهى حافظ في «مهرجانات بعلبك الدولية» (20 تموز/ يوليو 2019) بقيادة المايسترو المصري هشام جبر، الذين يستعيدون تراث «حليم» في أمسيات صيف لبنان تحت عناوين تبدأ من «أمسية معه» إلى «تحية إليه»، ستكون إطلالة حيوية على الأغنيات التي أزهرت في «زمن الفن الجميل» كما أنها ربما أيضاً، كما هو الحال مع الحفلات السابقة للمطربين الشباب أنفسهم، قد تتوافر على الإنترنت بعيداً عن التطبيقات الحصرية، والتي يمكن عبرها التعرف إلى صوت عبدو القريب إلى حد الدهشة من صوت عبد الحليم، وحيوية نهى التي تتنقل بين «حليم» تارة وشادية أو عزيزة جلال تارة أخرى، منسجمة مع عضويتها في فرقة «أيامنا الحلوة» التي ــ كما يبدو من اسمها ـــ تتخصص في استعادة أغنيات الربع الثالث من القرن العشرين. أما عساف، فيمتلئ «يوتيوب» بصوته القوي مؤدياً أغنيات «حليم»، من «جانا الهوى» و«صافيني مرة» إلى «يا خلي القلب» و«على حسب وداد قلبي». حتى إنه لا يكتفي بالأغنيات المنفردة، بل يقدم من أدائه في استضافات تلفزيونية «مختارات» بعنوان «أجمل ما غنّى عبد الحليم».
لا قلق إذاً من جهة الاستمتاع بحفلات استعادة عبد الحليم في صيف لبنان، فالأصوات التي تحييها متشربةً خبرة التجربة ومتسلحة بعذوبة وقوة الأصوات. أما «حليم» نفسه الذي مرت هذا العام الذكرى 42 لرحيله عن عمر لم يتجاوز 47 عاماً، فهو لا يزال الأيقونة التي احتفظت بمكانها بين كبار الكلاسيكيين رغم أن تجربتها كانت ترمز للجدّة وافتتحت ــ في زمنها ــ طريق الغناء «الشبابي»، إلى درجة استُقبل في بدايتها بالاستهجان والرفض الهائل. لكن الطفل اليتيم القادم من الأقاليم بجسد نحيل يسكنه المرض، كان يحمل قوة المجددين، وسرعان ما صار، مستفيداً ــ إلى جوار موهبته ــ من التغيرات السريعة التي اجتاحت مصر مع ثورة يوليو، ورغبة الحكام الشبان في العثور على أصدائهم في أصوات أكثر شباباً من «الستّ» وموسيقار الأجيال، كان عبد الحليم موجوداً مسلحاً برفيقيه محمد الموجي وكمال الطويل. وكان ذلك عصر المواهب العظمى، فبقيت الموهبة ونتاجها الذهبي حتى بعدما انقضى العصر وانقلبت قيمه. ومهما سادت عشوائيات الغناء، فإنّ الصمت يحلّ حين تُعزف «أهواك»، ومهما سادت العدمية فإنّ العين تبكي في «عدّى النهار».