في البدء كان الخوف، وفي الختام كان التمرّد، وبينهما عاش أنسي الحاج. ليس غريباً أن يبقى أنسي متفرّداً وموشوماً بلعنة مجايليه، ومرجوماً بحجارة الباحثين عن «الاستقرار». لم يكن لهذا النبيّ حواريّون أو أتباع؛ ولعل هذه السمة هي ما ميّز أنسي عن «شعراء مجلة شعر»، وما جعله (إلى اليوم) شاعرها «الملعون».
ليس ثمة مبالغة في القول إنّ شعر أنسي لم يُدرس دراسة نقدية حقيقيّة إلى اليوم. بقي شعره دوماً على هامش «الحركة» النقدية العربية المحكومة (في معظمها) بفصل تام بين تطرّفَيْن: مديح مفرط أو ذم هدّام، أما ما يشذ عن هذين التصنيفين، فلا يحاول التأسيس لبناء نقديّ مستقل أو حتى «منزلة بين المنزلتين»، بل يستند إلى «ثقافة عربيّة» مديدة شغوفة بالمقارنات. وقد كان معظم نقّاد شعر أنسي الحاج من أنصار الاتجاه الأخير، حين عجزوا عن التقاط فرادة هذا الشاعر فألحقوه بـ«مدارس» أو «تيارات» مكرّسة، كأن يقارنوه بالمدرسة الرؤيويّة الأدونيسيّة أو «القصيدة اليومية» الماغوطية، وإنْ كان ذلك لإظهار بأنه «هجين» بين هاتين المدرستين. أو عمدوا إلى القول إنه سليل المدرسة الفرنسيّة لقصيدة النثر، دون الأخذ في الاعتبار التيارات المتباينة والمتمايزة في القصيدة الفرنسيّة وشعرائها.
وربما يعود هذا التردد النقدي إزاء أنسي إلى أيام تأسيس مجلة «شعر» (1957)، إذ كان من بين الأسماء التي واكبت تقلّبات المجلة الشعرية الأشهر والأبرز في القرن العشرين، ابتداءً بتأسيسها الجريء، وانتهاءً بإغلاقها المتكرر عدة مرات، مروراً بالمعارك والجدالات التي شنّها كثيرون ضد تلك المجلة، ومن بينهم «أبناء» لها، بدأوا مسيرة «ردّتهم» بإعلان التنصّل من تلك «الخيمة» التي آوت جميع البذور الشعرية التي ستُزهر بتنوعات شتى في السنوات اللاحقة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن السنوات الثلاث التأسيسيّة للمجلة (1957ــ1960) لا تزال حقلاً بكراً لم يقاربه النقد الجاد إلا في استثناءات نادرة. كانت تلك السنوات هي الحامل الأبرز لمعظم الدواوين الأولى للشعراء الذين سيصبحون الشعراء الأبرز في السبعينيات، وكانت أعداد «شعر» ومنشوراتها هي البوصلة الفعليّة في الكشف عن «الشمال الشعريّ» الذي ستتجه إليه القصيدة العربية في مسيرتها المضطربة.
خلال تلك السنوات، وصولاً إلى المحاولة المخفقة لإحياء مجلة «شعر» في الثمانينيات، كان أنسي هو الشاعر الوحيد (إذا استثنينا المؤسس يوسف الخال) الذي شهد «تقلبات» المجلة، ومضى يكتب وينظّر لقصيدة النثر. ويمكننا القول إنّ باكورته الشعرية «لن» (1960)، بقصائدها ومقدّمتها النظريّة، هي المعبّر الأفضل عن الأفكار الفعليّة لمجلة «شعر»، قبل أن تعاني تلك الأفكار، لاحقاً، من تعديلات وانحرافات ترافقت مع ابتعاد شعرائها عن تلك «الخيمة»، ليؤسسوا خيمهم الخاصة التي بقيت مرتبطة عضوياً بالمجلة الأم وأفكارها، وإنْ اختلفت سبل أبنائها.
في ديوان «لن»، سنجد روح قصيدة النثر وعمودها الفقري النظريّ. أنسي كتب مقدّمته الشهيرة تلك وهو مدرك أنّه يؤسّس لعالم شعري جديد. وللمفارقة، يمكننا اعتبار أن تلك المقدّمة عاشت أكثر من القصائد المرافقة لها، إذ لا تزال مقدّمة «لن» هي البيان الأشد توازناً ووضوحاً لقصيدة النثر، حتى بعد مرور أكثر من نصف قرن على كتابتها. بينما لن تجد معظم قصائد ذلك الديوان مكاناً متقدماً لها اليوم إذا وضعناها تحت عدسة نقد صارم. كانت تلك القصائد ابنة لزمن كتابتها، بينما كانت المقدمة النظرية ابنة لزمن قادم. وقد كان أنسي مدركاً لهذه المسألة، برغم نفوره من التنظير الشعري، لذا كانت دواوينه اللاحقة، بخاصة «الوليمة» (....)، مختبراً شعرياً لتلك الأفكار النظرية، مبتعدة عن الصرخة الأولى في «لن»، دون أن تتخلى – في الوقت ذاته – عن «الثوابت» الأبرز في شعر أنسي؛ أي، التمرد والخوف و«خيمياء» اللغة (بمعنى إخضاعها الدائم لثورات متلاحقة)، والروحانية الشفيفة.
ومجدداً، ليس ثمة مفر من تكرار القضية الجدليّة الدائمة بين الإبداع والنقد، ولا أعتقد بأنّ ثمة مبالغة في القول إنّ شعر أنسي متقدّم على نقّاده بمراحل عظيمة. كان شعر أنسي الحاج (ونثره بصورة أوضح) أعمق بأشواط من الكلام المعتاد في المقالات والدراسات «شبه النقدية» التي تحاول مواكبة مسيرة الشعر العربيّ. كان أنسي يُذهل قرّاءه ونقّاده دوماً بقفزات يتزايد عمقها مع كل ديوان جديد. حتى المرأة، التي تعدّ «الثابت» الأهم في شعره، تظهر بصور متعددة ومتناقضة في كل قصيدة جديدة؛ هي القديسة أحياناً، العاهرة أحياناً، الكون بأسره تارةً، والتفصيل المنمنم تارة أخرى، والإيروتيكيّة دوماً. ولا يمكن فهم شعر أنسي دون المحاولة المثابرة لفهم صورة المرأة لديه. ولعل تغيّر هذه الصورة وتباين أصدائها لديه كانا السبب الأكبر في تهمة «الغموض» التي أُلصقت بأنسي، دون أن ننسى «المختبر اللغويّ» الدائم لديه في كل قصيدة؛ «فالشاعر لا ينام على لغة»، كما عبّر في مقدّمته الشهيرة.
إن فرادة أنسي الحاج (شعراً ونثراً) تكمن في كونه يعيش دوماً على التخوم، ما جعله عصيّاً على التصنيف. إنه يتأرجح دوماً بين الهوامش: هوامش الروحانية، التمرد، المسيحية، السوريالية، التصوف، الإيروتيكية، واللغة. وتلك هي الصفة الأهم للنثر، كحالة كتابيّة وحياتية في آن واحد، ولذلك أوغل أنسي الحاج في النثر كداء وترياق في الوقت ذاته في «زمن السرطان» الذي لا فرار منه، ولا حياة فيه، إلا للمتمردين والخائفين والمجانين والملعونين.