■ سأبدأ حديثي عن زمن عبر، عن الطفولة. أخبرني عن أهلك وصف لنا المكان الذي سكنت وتربيت فيه؟
أنا من بلدة قيتولة في قضاء جزين (جنوب لبنان). لكنني ولدت في بيروت في «مستشفى الدكتور جورج حنّا»، وسكنت مع أهلي في حيّ خندق الغميق. كان الحيّ مزيجاً من كل الطوائف، من الأرمن، الأكراد، السريان، المسلمين شيعة وسنة، ومن المسيحيين.

وكان في فيه كنائس وأديرة، ومازالت كنيسة السريان قائمة إلى اليوم، وأيضا مدرسة الفرنسيسكان للراهبات. أذكر دكاكين بائعي الخضار، وعلى بعد أمتار منها الـ«غران تياتر» (المسرح الكبير) الذي يمثل تاريخاً مهماً، وفي مقابله توجد «دار المكشوف» التي نشرت الكثير من الكتب اللبنانية المهمة. كانت بيروت حينها «ملمومة» على بعضها، وكان شارع واحد يضم كل الناس.
أمي توفيت عندما كنت في السادسة، وكانت قد أنجبت أربعة أولاد؛ صبيانان وبنتان. ثم تزوّج والدي وأنجب ستة أولاد، فأصبحنا عشرة. أبي كان من الآباء الكادحين، وعمل في أماكن عدة ليؤمّن تكاليف تعليمنا في مدارس راقية. لم أره يوماً بلا عمل، فحتى في البيت كان يعمل. كان يكتب، ويترجم، ويمارس الصحافة بين جريدتي «النهار» و«المكشوف».
لا أدري إن كانت طفولتي سعيدة أم حزينة، لكنّها كانت مخطوفة. لم أكن أملك الوعي الكافي لأضع «اتيكيت» تقول ما إذا كنت فرحاً أو حزيناً. لكن حين توفيت أمي، قرّرت ألا آخذ علماً بوفاتها، وقرّرت عبر نوع من النسيان اللاإرادي أنّها لم تمت.

■ أما زلت تعي تلك اللحظات التي توفيت فيها؟

أجل. ولا زلت أراها مسجّاة وقد أمسكتني أختي «ليلى» كي أقبّلها قبلة الوداع. كانت أصعب وأقسى اللحظات في حياتي.

■ كنت مدركاً ما حدث؟

الموت لا يحتاج إلى الكثير من الفهم. أعتقد أنّ الطفل هو أكثر من يشعر بالغياب. هو لا يحس بغياب من يحبّهم فقط، بل يترك فيه بصمات لا يمكن أن تزول. فالطفل عجينة.

■ إلى أي مدى كانت علاقتك بها قوية؟

يخبرني إخوتي أنّني كنت الطفل المدلّل عند أمي وأبي، ولا أدري إن كنت أستحق هذا الدلال الذي اعتبرته حينها حقاً طبيعياً رغم أنّه مؤلماً للآخرين بسبب التمييز الناتج عنه. أحيانا يقرّر الأهل أن يمنحوا دلالهم لطفل معيّن.

■ هل تستطيع أن تصف ما قالوه عنك وأنت طفل؟

لا أحب أن أذكر هذه الأمور. كل الأهل يلاحظون في أبنائهم أشياء غير موجودة في الواقع، بل هي إسقاطات ناتجة عن المحبة. وتداول هذا الإسقاط يثير الضحك، فالأذن الغريبة الموضوعية ستتعجّب لو سمعتهم.

■ ألا يعجبك ما قيل عنك؟

لا. لقد كنت أفضّل أن أكون طفلاً مهملاً، وإذا واتاني الحظ في ما بعد، أستطيع أن أقول أنّني وصلت إلى ما توصّلت إليه بفضل جهدي الخاص، على أن أكون طفلاً مدللاً لن يستطيع تحقيق ما توّقعه منه أهله، مهما فعل.

■ هل كانت أمّك سيّدة جميلة بنظرك؟

كانت أمي جميلة جداً بحسب ما تبرزه الصور. وكانت شاعرة تكتب الشعر باللغة الفرنسية. أهلها من عائلة «عقل»، أقاموا في «قيتولة»، لكنّهم ولدوا في مصر. فجدي لأمي هاجر إلى مصر حيث كان يعمل في استوديو للتصوير الفوتوغرافي في المنية، وأنجب أولاده هناك، وهم يمتازون بطباعهم المصرية.
لقد كانت أمي على جانب كبير من الثقافة، كما تمتعت بالحس المرهف، وتركت كتابات احتفظنا بها أنا وشقيقتي الكبرى. وهي عبارة عن كتابات رومانسية حزينة يغلب عليها طابع الكآبة والألم.

■ هل تألّمت في حياتها؟

أصيبت بالمرض لكنّها سريعاً ما وافتها المنية، ولم يُتح لها المجال للتعبير عن ألم المرض. لكن الألم تخلقه الحياة؛ من مراهقتها إلى التربية المحافظة التي تلقّتها إلى القيم والمثل العليا، إلى حلم الحب الواحد والإخلاص الأبدي، ثم ما لبثت أن رزقت بأربعة اولاد وهي لا تزال يافعة.

■ هل تزوّج والداك عن حب؟

طبعاً ولهما قصة. كانت أمي مخطوبة من عمي، أخ أبي، الذي سافر إلى الشام ووكّل أبي ــ أخوه الأصغر ــ بالإهتمام بـ«ماري» (أمي)، فاهتم بها أبي إلى درجة أنّه عشقها، ثم خطبها وتزوّجها (يضحك).

■ إذن أنت ثمرة علاقة حب؟

أكيد، فأبي كان يعشق أمي، كما أنّه أحبّها واحترمها كل من عرفها من الوسط الصحافي من زملاء أبي واصدقائه في العمل. أحدهم هو كامل مروة، صاحب جريدة «الحياة»، وأخته «دنيا». لقد كانا من أصدقاء العائلة، وقد حدّثوني عنها وعن كيف كانت تستقبلهم، وأثنوا عليها.

■ وفقاً لعلم النفس، إذا توفي أحد والديّ الطفل فإنّه يشعر شعوراً عميقا بالذنب. وهذا الإحساس يتجسد كآبة و حزناً دفينا، أو أنّه يولّد عدم الإستقرار مع النفس أو رعباً من الحياة في مكان ما، لأنّه إذا اعتبرنا أنّ الأم هي الحياة، فكيف تموت؟ أنت أنسي الحاج خلال حياتك، هل نمت معك هذه المشاعر أم رافقتك مشاعر أخرى؟

أتعلمين أنّه يصعب على المرء أن يسترجع ذكريات ومشاعر وانطباعات نشأت في السادسة أو السابعة من عمره؟ أنا أشعر أنّها فترة غائبة، وأنّ شعور الذنب يسيطر عليها مئة في المئة، وهو يُعزى إلى سبب واضح جداً وجارح بالنسبة إليّ. أمي لم تكن تعلم ما الذي أصابها، والطب في تلك الأيام كان أرحم من أيّامنا هذه. فالطبيب ما كان ليُخبر المريض بمدى خطورة مرضه بل كان «يكذب» عليه على أمل أن يساعده ذلك في مقاومة المرض. وأمي كانت ذكية إلى درجة أنّها شعرت بأنّهم يخفون عنها الحقيقة. وذات يوم، ربما كان يوم أحد، وبينما أنا في البيت وحدي معها حين كان أبي في العمل، نادتني وطلبت منّي أن أدسّ يدي في جيب معطف أبي المعلّق لأعطيها ورقة كانت بداخله. أعطيتها الورقة التي كانت عبارة عن «رابور» (تقرير) طبي، فعلمت بحقيقة الأمر. وعندما حضر إخوتي، أنّبوني على فعلتي، علماً أنّني كنت طفلاً لا أحسن القراءة ولا استطيع أن أرفض لأمي طلب.

■ ممً كانت تعاني؟

عانت من سرطان الرحم، وكان ذلك في عام 1944 حين لم يكن العلاج متاحاً.

■ كم كان عمرها آنذاك؟

كانت في العشرينيات، ربما في السادسة والعشرين. لم أعد اذكر بالتحديد. موتها لا يمكن أن أنساه إطلاقاً، وقد تربّى معي رغم الدلال الذي عشته. فإذا حدث زلزال في اليابان، أشعر بأنّني مذنب. وطوال الحرب الأهلية اللبنانية شعرت أنّني مذنب تجاه الجميع، وهذا الشيء يحمل نوعاً من الجنون، كما فيه تضخماً للـ«إيغو» (الأنا)، لكنّه ضد صاحب الـ«إيغو» وليس تدليلاً للذات. بل على العكس، فيه قتلاً مستمراً للذات. وعندما ينتابني شعور معاكس أشعر بذنب مضاعف، فكيف أكون سعيداً في الوقت الذي لا ينبغي أن اكون كذلك؟ وهذا الشعور يرافقني طوال الوقت، وهو أساس كل ما أفعله، وكل ما أكتبه، وكل علاقاتي.

■ هل شكّل مسرحاً لحياتك؟

شكّل القاعدة لحياتي كلّها.

■ من ربّاك بعد وفاة الوالدة؟

أختي الكبيرة كانت بمثابة الأم لنا كلّنا، وحتى لأخي الأكبر منها سناً. تعلمين النزعة الأمومية التي تكون عند البنت، وقد كانت أختي مُحبّة، ومتفانية، وكريمة جداً، وقوية أيضاً، وكانت تملك القدرة على تحمّل المسؤولية رغم أنّها كانت في بداية عمر المراهقة. وقع عليها العبء، ونجحت في تحمّله بشكل ممتاز جداً.

■ أبوك، ماذا فعل؟

بعد موتها، لعب أبي الدورين، فكان الأب والأم معاً. وأذكر أنّني لم أكن أنام إلّا على يديه، يحكي لي الحكايات ويُسمعني الأغاني. وقد ورثت عنه أشياء لم يقصد أن يورثني إيّاها، وهذا هو الإرث الأعمق. لقد كان رجلاً موهوباً ومتضلعاً لغوياً. قدرته على الكتابة البسيطة والمباشرة كبيرة جداً، ويا ليتني ورثت هذه الطريقة منه لكنني عكسه. هو مشهور بأسلوب ابن المقفّع السهل الممتنع، أما أسلوبي فممتنع وغير سهل. شخصيتي معقدة في حين كان أبي شفافاً ومباشراً وواضحاً ونيّرا، وكان صاحب شخصية متفائلة ومحبة للحياة، ومعطاء ومتواضعاً وقنوعاً.

■ هل ترك فيك أثراً؟

أثّر فيّ كثيراً عندما بدأت أعي الحياة وأرى أساتذة اللغة العربية في المدارس التي ترددت عليها يبدون اتجاهي اهتماماً متزايداً عندما يعلمون من هو والدي.عندما توفيت أمي، هبطت روح أبي إلى الهاوية، وانهارت أشياء كثيرة في نظره. لم يعد للحياة قيمة عنده، لذا صار مستهتراً: يكتب مقالاً بدون توقيع، ويرضى بأي راتب يُعرض عليه، ووصل إلى حد القرف. لم يكن يعبّر عن هذا الشعور أمامنا فقد كان يجمعنا ويطلب منا أن نغنّي له، وكان يبدو سعيداً جداً «قد الدني». أبي مجاز في الحقوق من «جامعة دمشق»، وكان يفترض أن يكون محام. هو مؤهل لهذه المهنة وكان يتقن اللغة القرنسية. أما العربية، فكان إتقانه لها أكثر لذلك كان مترجماً، وترجم الكثير من الكتب في مختلف حقول الكتابة من الطب إلى السياسة إلى الأدب.
من هنا، وحين صرت كاتباً صار لدي رغبة بالإنتقام له. صرت أكتب إسمي مشفوعاً باسم والدي في الجرائد، بهدف منحه الشهرة رغم أنه كان مشهوراً حينها ومعروفاً في الاوساط الصحفية. لكنّني أعتقدت دوماً أنّه مظلوم في المجتمع.

■ هل لعب حساسك بالذنب دوره؟

أجل. كنت أحزن حين أنظر إلى جريدة «النهار» وهي تباع على الطرقات ولا أرى إسم أبي بل إسم عائلة تويني. علماً أنّ أبي وشخصين أو ثلاثة معه كانوا يصدرون الجريدة. ففريق العمل آنذاك كان قليلاً جداً. لم أكن أعلم حينها أنّ أبي هو من لا يرغب في ذكر اسمه وليس مظلوماً من أي أحد. حتى أنّ غسان تويني كان يعتبره أباً ثانياً ويكنّ له حباً كبيراً. صرت أرغب في منحه الشهرة بكل غرور الفتى.

■ أخبرني عن علاقتك بأخوتك؟

أخي الأكبر «عدلي» ساعدني على نشر أولى مقالاتي وهو صحافي عريق مارس المهنة قبلي، وأختي الصغيرة من أمي «دنيا» تحتل مقاماً مهماً في حياتي، هو مقام الأخت الصغرى التي ليس لها أم. كنت دوماً أشعر برغبة في حمايتها، ولكن كان الأمر صعباً. فكيف أحميها وأنا عاجز عن حماية نفسي؟! وبرغم أنّنا كنّا نعاني الفقر، شعوري بأنّها ظُلمت كثيراً لحاجتها إلى عطف الأم كان يفوق حاجتي بأشواط كثيرة. أنا لدي «إيغو» يحميني، أما هي فحتى الـ«إيغو» لم تحظ به.
اليتيم مقطوع الرأس والقلب، ويظل يتيماً طوال حياته حتى لو صار جَدّاً. وحتى لو أعطي «دون جوان» كل نساء الأرض، فلن يشعر بالشبع. ليس لأنّه «أزعر» بل لأنّ في داخله صحراء مهما رواها الماء ستظل عطشى. وسيظل جائعاً طوال حياته.

■ حزين هذا الحديث .

لا هذه هي الحقيقة .

■ حقيقة جارحة ولكن ألسنا جميعا يتامى؟

كل إنسان منّا يتيم ونحن يتامى من الأساس، وليس اليتم أن يفقد الإنسان ابويه جسدياً. أحيانا يكونان موجودان فقط وجوداً جسدياً، وهو ليس وجوداً حقيقياً حين لا نرضع منهما الحليب الآخر أي الحليب المعنوي والعاطفي. نحن الشرقيون خصوصاً، ربما لدينا جوع عاطفي يفوق الجوع الموجود لدى شعوب أخرى.
نحن نتربى على فكرة الأسرة فلا نستطيع أن نحيا من دون الأم والأب. الأسرة هي معطف الروح، وإذا خلعها المرء أو شعر أنّ الأبوين مشغولان عنه سيشعر بالبرد.

■ الصبي خصوصاً إذا ماتت أمّه فإنّ ذاتيّته ومحوريّته حول نفسه ينموان، لأنّ الأب ينمّي شخصيّته الإجتماعية والجماعية. أنت كونك يتيم الأم هل دفعك هذا الوضع إلى الإهتمام بنفسك على حساب الآخرين؟

في مراحل متناوبة، كلعبة «يا طالعة يا نازلة»، أحيانا ما عدت أرى سوى نفسي وبشكل سادي، وأحيانا تكون ردة الفعل عكسية تماماً فيحدث الإنمحاء من أجل الآخر. لكن الفترة الطفولية كانت فترة ضياع روحي يشبه قطع الرأس كما قلت سابقاً. كنت أشك بأنّني سأنجح في مدرستي. وكان أبي يمازحني بالقول: «طالما أنّك فاشل في الحساب ستصبح صانعاً فرّاناً»، مشيراً إلى الفرن الذي كان بالقرب من منزلنا في منطقة النويري (بيروت). كنت حين أذهب لشراء الخبز منه أشعر بالسعادة لأنّني أجد الدفء عنده، لأنّ منزلنا لم يكن مجهزاً بوسائل التدفئة، وكنت أطيل المكوث فيه والعائلة بانتظاري.

■ هل كان أبوك يتمتع بحس الفكاهة؟

طبعاً، كان يمازحني ليحمّسني على الإجتهاد أكثر.

■ قلت لي أنّه تزوّج بعد وفاة أمك، متى تزوّج؟

لم ينتظر طويلاً نظراً لوجود أربعة أولاد صغار لا يستطيع الإهتمام بهم في الوقت الذي هو ملزم بالذهاب إلى العمل. لذا تزوّج بعد فترة قصيرة.

■ كيف كانت علاقتك بزوجة أبيك؟

كانت علاقة جيدة جداً. خالتي «أليس» إمرأة تمثل مزيجاً من الطيبة والإرادة. والإرادة كانت ضرورية في تلك الحال. كانت تكبر أخي الكبير بسنوات قليلة وكانت جميلة أيضاً. وامتلاكها لهذه الصفات مجتمعة مكّنها من القيام بأعباء العائلة مع الأطفال الستة الذين أنجبتهم. كانت طيبة إبنة القرية بإرادة فولاذية للقيام بالأعباء بشكل صاف.

■ كانت تحبّكم رغم أنّكم لستم أولادها؟

طبعاً. لم تشعرنا يوماً بالفرق بيننا وبين أولادها، بل على العكس، رغم الأوضاع الصعبة والفقر الكبير الذي عانيناه. لكن في السنوات العشر أو الخمسة عشر من حياته المهنية، استطاع أبي شراء منزل في منطقة عين الرمانة (جبل لبنان). كان ثمن البيت يومها ثلاثون ألف ليرة لبنانية، وكان حدثاً مهماً جداً ومدهشاً.

■ هل أثّر الفقر على شخصيتك؟

أجل، لكن ليس بشكل مأساوي. فأنا لا أدلّل على أنّنا فقراء، وهذا شأن شخصي وليس موضوعا للكتابة.

■ هل كنت تشعر بالفرق بينك وبين أصحابك؟

أكيد كنت أشعر بالفرق.عندما كنت أدخل إلى بيوت أصحابي، كنت أخجل كثيراً. وقليلاً ما حدث أن زرت أحدهم، ربما مرّة أو مرّتين. وحدث ذات مرّة أنّ دخلت مع أحدهم، وهو من آل البساتني، إلى بيته الكائن في «البسطا الفوقا» فوجدت سجاداً على الجدران ولم أجرؤ على الدخول، وتساءلت في نفسي أنّه لا يعقل أن يكون هذا منزل بل معبد! (يضحك). رأيت صواني نحاس، فتعجبت حدّ الإندهاش، وشعرت بهيبة ساحقة إذ سحقني ترف البيت وظللت واقفاً، ولم أجلس. أحسست أنّه من العيب أن اجلس. كان صديقي شامي، والشوام يعتنون كأهل بيروت وأكثر بأثاث المنزل وبالزينة.

■ هل شعرت بالفروق الطبقية؟

أحسست بالفرق، لكنني كنت معجباً ولم أكن مقهوراً أو حسوداً. فهؤلاء الناس مميّزون حتى يمتلكوا هذه الأشياء، وهم يستحقون أن يكونوا أغنياء. أنا لا أحسد بل أُعجب، ومن أُعجب به أحبّه، وبالتالي فما لا أملكه لنفسي أحبّه لغيري. أنا أحب الأغنياء وأخاف على أموالهم ، وعليهم من الإفلاس، ولا اشتهي الحصول عليها، فأقول مثلاً: «إن شاء لله الحريري ما ينقصوا مصرياتو» (يضحك). أشعر أنّني أخاف على النبع، وسواء كان لي أم لغيري فهو يتدفق، واخاف عليه أن يجف سواء كان من يشرب منه ماعزاً أم بشراً أم عصافير أم بقراً أم وروداً.

■ لديك إذن شعور بالشفقة والخوف على الآخرين؟

الخوف على الآخرين تماماً

أبوك قام بدور الأم والأب حسب قولك. رؤيتك إيّاه في البيت عندما كان يهدهد ويغني لك ويهتم بك، هل دفعتك إلى اكتساب صورة أنثوية عن الذكر؟

لا أبداً، فأبي كان ذكراً «ومكتّر». وهذا الشعور غير موجود أبداً. فتدليله إيّانا لم يكن يحمل في طيّاته صفة خنثوية أو أنوثة، بل كان تدليل رجل. أما مزحه ومرحه فكانا الجانب الطريّ من شخصيته، وليس إنحلالا أو «هرقة».

■ هل كانت لديه هيبة؟

هيبة غير عابسة بل ضاحكة. وأتمنى أن يكون لدى كل الأولاد آباء يمتلكون هذا النوع من الهيبة. هو يمازحك ويخاويك قدر ما تشائين، إلا أنّك تظلّين تشعرين بأنّ «الحائط أعلى منك». وهو شعور تلقائي وليس هيبة مفروضة باسم العادات والتقاليد.


■ هل كان والدك يحب النساء ويعدّد علاقاته؟

يُقال. ولكن أمامي كان يتحفّظ، ويبدو حريصاً على الحشمة لأنّني كنت بريئاً جداً. وهو شعر أنّني معجب جداً به، فلم يرغب أن يخدش هذا الزجاج الجميل، واستمر هذا الوضع إلى ما بعد زواجي وحتى موته.

■ وجودك أنت بالتحديد؟

أجل. يبدو أنّني كنت أذكّره بأبيه. يُقال أنني كنت شبيه جدي الذي كان شيخ الضيعة. الشيخ «نعيم» كان قاضي صلح، ولديه هيبة ومصداقية، وكان الناس يحتكمون له. وكان عندما يشعر أبناؤه أنّه قادم إلى البيت، وبمجرّد أن يسعل، يهرولون إلى الداخل: «إجا الشيخ نعيم». ما كانوا يقولون «بيّنا». رغم كونه لطيفاً، كان لديه هيبة مستحقة وليس هيبة الإرهاب التي تحرّض على التمرّد عليها، فالصرامة الإرهابية ليست مقبولة. أما هذه الهيبة، فمستحقة وكأنّ الأمر يبدو تسليماً. فهذا الشخص يصبح مرجعاً ولا نقاش في الموضوع. سلطة طبيعية وليس سلطة مفروضة.

■ هل أثيرت غيرتك عندما تزوج أباك إمرأة ثانية؟

لا أعرف، ولا أستطيع أن أحلل الأمور في ذلك الحين، فأنا كنت طفلاً صغيراً. لكن أعتقد أنّه كان هناك شعورين حينها: شعور بأنّ الفراغ قد تكرّس في داخلي. رغم أنّني تناسيت موت أمي إرادياً، لكن الزواج الثاني نبّهني في وعيي، وتحت الوعي، أنّ الفراغ سيحلّ إلى الأبد. وفي الوقت نفسه، شعرت بالإمتنان لوجود شخص مؤنس وقويّ يحملنا ويرعانا في البيت.

■ من المؤكّد أنّ أحداً لم يملأ هذه الفجوة؟

أكيد لا أحد، وهذا شيء مستحيل


حوار مع لوركا سبيتي على "صوت الشعب"

المشاعر الإنسانية:

■هل تكره؟
نعم ولكن لا أكره أناساً بل حالات. حين لا يفهم أحدهم ما أريد أو ما أشعر أغضب. كنت أكره حين كنت غبياً وولداً صغيراً، لا ليست الكلمة «غبياً» بمكانها الصحيح بل كلمة «أحمق» بالتحديد. غبي ربما ما زلت كذلك، ولكن الحماقة تتكسر مع العمر. كنت أكره عن عجز وعن شعور بالضعف اتجاه من هو أقوى. حين كنت ولداً كرهت من له سلطة عليّ ومن يمارس قوّة حين لا أقدر أن أغلبه.

■وهل قتلت أحداً خارجك؟
في الخيال نعم. أثناء الحرب قتلت كل المسؤولين الذين يقتلون الناس، ولكن في اليوم التالي أفرح حين أراهم على قيد الحياة، أشعر أنّهم لا يستحقون الموت. أو ربما يوماً ما أحدهم سيقتلهم عملياً وليس في الخيال.

■عرفت البشرية في بداية تاريخها في قصتين: حين قتل آدم الله في داخله واستبدله بحوّاء، وحين قتل قابيل أخوه هابيل. كيف تشرح فعل القتل أنسي الحاج؟ كفيلسوف؟
لا لست فيلسوفاً بل أنا لست شيئاً، أنا إنسان عادي حين يغلبني شعور ما أجرّب أن أكتبه كي أستقوي عليه وأقتل شياطينه فيي. لا أعتقد أن آدم قتل الله. أنا في كتاب «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» جرّبت أن أقول أنّه إذا كان هناك خطيئة فهي خطيئة السلطة. حين جرّب آدم أن يكون مكان الله، وفكر أن الله نائم في مكان ما وهو الآن الزعيم، وملكه على الحيوانات والعشب والأرض وأعطاه حق التصرف، وكل الأشياء تحت أمري، فقرّر أن يكون الآمر. هذا رمز لسلطة الرجولة ورجولة السلطة التي استوجبت بحكم طموحها وطبيعتها وتطلعاتها التضحية بالآخرين وأوّل ضحية كانت حوّاء وليس العكس، كما يعلموننا في الأديان أنّ حوّاء هي التي جرّت آدم إلى الخطيئة، وكيف ذلك، فالجنس هو التعويض عن البؤس وهو نعمة وليس خطيئة. الخطيئة هي الانقلاب على السلطة.




■إذا آدم ثار منذ السماوات وورثنا هذا الشيء؟
طبعاً هو الثائر الأوّل. أنا جرّبت في كتاب «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» أن أقول أنّ النزعة السلطوية موجودة في الإنسان والحيوان على السواء، فهاجمة الأسد والنمر غزالاً ومحاولتهم قتله وتمزيقه أليست جريمة؟ ولكنّي لا أصدّق كيف أنّ هناك من يقتل ويأكل غزالاً!
الشرّ هو عدم القبول بالضعف. أن تكون أضعف من الآخر، حين يكون الآخر فريستك فقد تحوّلت إلى قاتل وتحوّل هو إلى قتيل. الفضيلة أن أكون القتيل بل بمعنى أدق المضحي. أن أحب، فالحب هو السمو بهذا الكائن الميال إلى الإنحطاط ، الإنسان، لا يسمو به إلا الحب. فالحب يجعله إله. فيقتل فيه ثلاثة هم الشرّ والطمع والسلطة، وهم بهامية البشر، الإلهية أن تفدي الآخر بالحب.

■هل نسطيع القول أنّ الإنسان قاتل بالفطرة؟
لا أظن. الطفل ليس بقاتل هو ملاك. والإنسان يخلق طفلاً، ولكن المجتمع وقوانينه تجبره أن يكون ذئباً. المثل الشعبي الذي حفظناه هو: «إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب»، تخيّلي أننا تربّينا على هذا المثل الأخلاقي الشعبي، وهذا يعني أنّ النضج يخربنا حين نكبر ونمتلك ونملك ونبني وننشأ العائلة ونود أن ننشهر.
فعل الإماتة عند المسيحين مهم جداً، أو التضحية بالذات. فعلى قدر ما تميتي نفسك تظل تحتاج للأماتة لأنّك إن تركتها فسيعود الرفاص إلى طبيعته. ومن هنا نتعلم من حياة الرهبان، من كل الأديان، تشفيف الذات، أبشع شيء في الحياة هو الكثافة.

الدين والعلاقة مع الله:

■ كيف تفهم الله، وهل تمارس طقوس دينية؟
علاقتي بالله جدلية. أحيانا تخفّ وأحيانا تشتّد. أحيانا تكون سلبية وأحيانا إيجابية.عندما يغلب الإيمان على الشك أو بالأحرى على عدم الشعور بوجود الله، غالباً ما يكون مشوباً بشيء من التمثيل كمن يؤدي دوراً على المسرح: يا إلهي! حيث توجد غنائية مصدرها الخوف والضياع. ففي حالة الضياع يبحث الإنسان عن مسند وإلا فإنّه يتشتت في الخلاء. لا أعلم إن كنت مؤمناً أم لا. مع أنّني أفضّل أن أكون مؤماناً.



■ لماذا تفضّل الإيمان؟
في مكان ما، أشعر أنّ الإيمان بكائن منظّم للوجود وللكون هو في الحقيقة إيمان بالنفس. بمعنى أنّه يمنحني الشعور بأنّني الإله، وبالتالي فإنّ الموت لن يقوى عليّ بالمعنى الوجودي للكلمة وليس الجسدي. أي اللحم والعظام والدم، التي تندثر لتصبح طعاماً للحشرات. لكن بالمعنى الروحي والفلسفي والديني معاً.

■ أيحتاج الإنسان إلى فكرة الإله؟
المسألة ليست أنّه يحتاج بقدر ما إن الله انعكاس للإنسان وبالتالي الإنسان انعكاس لله. فعندما أقول أن الله غير موجود، هذا يعني أنّه ليس لدي قبس ولا نور، لا في كتاباتي ولا في فكري ولا في عقلي. فهل أنا مجرّد آلة بيولوجية، هل يعقل أنّ الآلة البيولوجية تنتج إنساناً كموزار وبيتهوفن؟ ما هي الموسيقى وما لغتها، ومن أين نشأت؟ زرياب من هو، هل هو كائن عادي؟ هل هو حيوان تحوّل إلى إنسان ثم إلى عوّاد ثم إلى مغن من الطراز الأوّل وزاد وتراً على العود؟ فضلاً عن الرسامين والعباقرة كمايكل أنجلو. لا أدري إن كنت زرت روما وشاهدت ما ابدعه مايكل انجلو من عجائب، أو رأيت دافنشي وعجائبه أو رافاييل، إنّه شيء مذهل. لا يعقل أن تكون هذه الأمور من إنتاج بشر. هناك فن، والفن أكبر دليل على وجود شيء يتجاوز الإنسان، ولكن في داخل الإنسان.
يتجاوز الإنسان كما يتجاوز النور المصباح. فالنور يضيء الشارع بأكمله. سمّ هذا الشيء ما شئت: كهرباء، طاقة. فكما يوجد نفط في الأرض، وحقول مغناطيسية كما علمنا من الفيزياء، إذا زادت درجة توّترها يحصل ما يشبه البرق أو الصاعقة أو الشمس التي أعتبر أنّها ليست مجرد كوكب. فأنا عندما أدركها وأعيد إنتاجها، أي إعادة إنتاج الموجود وهذا ما يسمى شعراً. فالشعر، إعادة خلق المخلوق، وبالتالي اكتشافه يعني إعادة خلقه وإعادة كتابة اللغة. لماذا البقرة لا تقوم بهذا الشيء؟ الأسد ملك الغابة، وما أجمله، لماذا لا يقوم بهذا الشيء؟ لماذا يمتلك الإنسان هذه القدرة، ومن أين أتى بها؟ قد تقولين الجينات.

■ العقل والمنطق؟
هذه الأمور تفسّر، لكن لا تولد، أنستطيع أن نفسر معطيات موزار؟ أن كنت تعاني من الكريب فهذا يعني أنّك ستسعل، هذا تفسير الموجود لكن من أوجد الوجود؟ من أوجد الخارق في الموجود؟ أنا أقبل نظرية التطوّر في الإنسان أنّه كان قرداً ثم تطوّر. العالم الذي اكتشف الأمور العلمية والطبيب الذي اكتشف الأمصال ضد الأوبئة، باستور أو غيره من أين أتوا؟ ليس المجهر من أوجد الأشياء إنّه أداة. الخوارق هي البرهان على الخالق وإلا لكنّا جميعاً أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب وأسمهان.

■ عادة ما نجد أنّ من يتجه نحو الدين يتعصّب في ممارسة طقوسه الدينية وإذا نظرت إلى حياتهم لا تجد الأمان فيها، ما رأيك؟
التعصّب الديني سخيف جداً، وهو أبشع ما في الإنسان.هناك تعصّبات جميلة كتعصّب الحب، وتعصّب العشق، وتعصّب الفن، والتعصّب للحقيقة. لكن أبشع أنواع التعصّب هو التعصّب الديني لأنّه ولّد مجازر بشرية ولا يزال إلى الآن.
أنا أتحدّث عن الإيمان في علاقتي بالغيب أو المجهول الذي نسميه الله. الأديان ساعدت على توضيح الأمور وعلى تعبيد الطرق للإنسان الضائع الحائر الذي يبحث عن يد تساعده. لا شك إنّي لا أستطيع الإدعاء أنّي وصلت إلى الإيمان المجرّد «الاغنوستيكي» الذي هو خارج الأديان، لولا مساعدة الأديان . فعندما أدركت كم تتشابه الأديان في جوهرها، الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والكونفوشوسية والعقلانية تساءلت عن أهداف هذه الأديان وعن كل هذه الأحزاب ولماذا لا نأخذ الفكرة الموجودة لدى الجميع؟ أنا أخذت الفكرة لكنني مررت ببعض الطقوس. أنا أؤمن ببعض القديسين لأنّهم وسطاء. أنا اؤمن بوجود إنسان وسيط بيننا وبين العالم الغائب.

■ الوسيط؟ كيف ولد إيمانك هذا؟
ألا ترين الأشياء أحياناً قبل أن تحدث؟ هناك بشر يخافون من أنفسهم من شدّة الرؤيا التي يتمتعون بها. كالأولياء والقديسون والوسطاء لأنّ الإنسان لا يتحمّل دائماً وقعة الإنصعاق في مواجهة الفكرة الإلهية. رمز ذلك موسى والعليقة، عندما صعد موسى جبل سيناء وطلب من الله بحسب التوراة أن يراه، فأجابه أنّك لا تستطيع أن تراني، وإذا رأيتني ستعمى، فأنار له العليقة أو العوسجة الملتهبة. هذه القصة رمز فهل تستطيعين أن تنظري إلى الشمس؟ لن تستطيعي، وهي شمس وليست من أوجد الشمس.

■ هل تؤمن بالحياة بعد الموت ؟
لا أدري.

■ هل تؤمن بوجود حياة بموازاتنا؟
أكيد. أنا أحب الجنيات الصغار التي تخبرنا عنها الأفلام وتصير كالفراشات وأعتقد بوجود كائنات في الهواء حولنا ونحن لا نراها. فلماذا لا يكون بين هذه الكائنات أرواح وملائكة؟ هل نعلم ماذا تخبىء أعماق البحر؟ حتى الغواصين لا يزالون يكتشفون عوالم وحيوانات وأسماك لا علاقة لها بما يعرفونه. كل هذا والبحر قريب منّا وهو مستعمرة للبر ولا نعرفه، فكيف نعلم ما في الهواء ؟!

■ عينك تجعلك ترى ما تريد أن تراه أو ما هو موجود؟
أرى ما ينبع منّي وما يأتي من الخارج يظل حيث هو. فالإنسان موجود داخلي، وأحياناً أفكّر في نفسي بأنّ طوبى لمن ليس له داخل لأته قد يكون سعيداً. المسيح يقول: طوبى لأنقياء القلب أو البسطاء لأنّهم أبناء الله. إنّهم أقرب الخلق إلى الله لأنّهم بسيطون ولا «يفذلكون» الأشياء. بينهم وبين الإيمان توجد الصلاة، والصلاة جميلة جداً.

■ هل صليت ذات مرة ؟
كثيراً ما أصلي.

■ على الطريقة التقليدية؟
لا. عندي صلواتي ومع ذلك فأنا أحب الصلوات التقليدية. فبمجرّد أن يقول الإنسان: أبانا الذي في السماوات، أو بسم الله الرحمن الرحيم، ينفتح قلبه. عدنا إلى ما ذكرناه عن التواضع والضعف فعندما يضعف الإنسان يركع، وأجمل مشهد هو مشهد الإنسان الراكع. دائماً نلاحظ في الرسم أنّ الراكع عليه شعاع من نور وهذا ليس صدفة لأنّه يعبّر عن البصيرة والحب واشتماله بمن يرعاه.

■ أمام من ركعت أنسي الحاج؟
ركعت لوحدي كثيراً. وصلّيت للآخرين من أجل الآخرين ومن أجل نفسي أكيد.

■ كيف تدعو لهم وماذا تقول؟
من أحبهم، أخاف عليهم ومن أخاف عليهم أصلّي لهم.

■ هل تستعمل عبارة «الله يخليهم»؟
أجل أنا أدعو وعندي إيمان كامل بقديسة تدعى سانت ريتا وكتابها لا يفارق جيبي.

■ أخبرنا عنها.
لا أحب لأنّني أشعر أنّني أقوم بالترويج لشيء أرفع من أن نتحدّث عنه.

■ لماذا تحب هذه القديسة؟
لأنّها أحدثت لي معجزات وحققت لي طلبات مستحيلة وهي تدعى شفيعة القضايا اليائسة. لذا أؤمن أنّ الوسيط شخص عظيم. ألا تتوسلين وسيطاً للحصول على وظيفة؟ أو للعفو عن قريب لك وتخليصه من السجن؟ هذه الأشياء نستطيع أن ننقلها على صعيد معنوي. لماذا نؤمن بالوسيط مثل النائب أو الوزير؟

■ لأننا نراه؟
أنا أراها. طبعاً!

■ ماذا طلبت منها وأعطتك ؟ مم كنت يائساً؟
لا أستطيع أن أذكر ما طلبته نظراً لتعلّق بعض المسأئل بآخرين. وسأطلعك على أمر. الإيمان هو الحب. الإيمان ليس تعصباً لأنّ التعصب بغضاً. الإيمان هو حب وتفاني واضمحلال في الحب، هو التلاشي. إنّ مشكلة الإنسان إذا تحدثنا عن السلطة هي الـ«إيغو» أي الأنا، وهذه المشكلة لها حل.

■ ما هو؟
الحب. ولماذا حلّها الحب؟ لأنّ الحب هو إيصال الـ«إيغو» إلى عرش العروش لأنّ الإنسان عندما يحب فهو يحب نفسه من خلال الآخر. صحيح أنّه يحب الآخر لكنّه يحب نفسه من خلاله. فمن يحب الآخر بهذا القدر يكون قد انتزع الـ«إيغو» الذي يشبه المسمار، ومن على القمة رماه في البحر حيث اضمحلت في الأنا الكونية الأكبر. الأنا موجودة دائماً. عليه أن ينقل الأنا من ضلوع الصدر الصغيرة ليرميها في الأنا الكبرى، عندها سيشفق على الفقراء ويناضل من أجل البؤساء، ويحزن مع المضطهدين ولا يتحقق هذا الشيء من خلال التظاهر بل بالإحساس بالوجع لدى الموجوع أشد من إحساس الموجوع نفسه، حتى لو لم يقدّر الموجوع هذا الوجع.

■ هل يمكن لغير القديسين أن يتحلّوا بهذا الشعور؟
أجل الكثير من الناس. هل تعتقدين أنّ الممرضة تعمل فقط من أجل الحصول على 300 أو 400 دولار شهرياً؟ هل تعلمين مدى التعب الذي يعانون منه والسهر، والمعاناة مع المرضى وحتى مع الأطباء؟ ماذا تعتبرين كل ذلك؟

■ هل تعتقد أنّه ناتج عن الحب؟
إنّها نزعة الخدمة. إنّ البعض من الذين ينتسبون إلى الصليب الأحمر والدفاع المدني لا يقومون بهذا الفعل لعدم توفر فرص عمل أخرى أمامهم. صدقيني أنّ بعض الأطباء لا يحصلون على أجورهم من المرضى لعلمهم بأنّ هؤلاء لا يملكون المال. هذا النوع من الناس كالجنود الذين يقتلون على الحدود أو في المعسكرات، كان بإمكانهم أن يكونوا سائقي تاكسي ليحققوا أرباحا أكثر ويصبحوا زعماء. إنّ بعض الناس لديهم نزعة الخدمة الإنسانية والعطاء المجاني. العطاء حيث يحققون أنفسهم، كل يحقق نفسه بطريقة .

الرضى والخوف:

■ هل تشعر أنّك راض ومرضي؟
عندما أعذب نفسي كثيراً أشعر أنّني راض أي عندما أكون قد ضحيت كثيراً، لا يعني هذا أنّني «مازوشي»، بل بذلت ما بوسعي بحيث تحققت لدي الطهارة الذاتية.

■ ومرضي ؟
لا ليس الأمر بهذا الشكل. في مرحلة ما كنت أنتظر الحصول على المقابل كما يفعل الآخرون، وأقول إن الحياة مراحل وهنيئاً لمن يختصرها بسرعة فيصبح حاله كما هي حالي اليوم بعد فوات الأوان. وبعدما عشت أنانيتي لفترة طويلة وبطريقة شريرة، الآن وصلت إلى مرحلة أشعر فيها أنّني لست متضامناً فقط مع المتألّم بل مذنباً ومسؤولاً عن ألم المتألم وكـأنّ المسؤولية تقع على عاتقي.

■ هذه المشاعر تحتاج إلى زمن ولا أحد يخرج إلى الحياة ومعه هذا الشعور؟
للأسف. نعم تحتاج إلى وقت، لكن بعض الناس يمتلكون هذه الفضيلة منذ صغرهم وهذا شيء رائع جداً جداً وخصوصاً في مجتمعات حديثة تذكّي الأنانية وتذكّي تجاهل الآخر، لأنّ التنافس قائم على «اللقمة» وعلى كل شيء، فمن يُخلق وهو يمتلك هذه الفضيلة يكون قديساً.

■ مم تخاف؟
من كل شيء.

■ من الأماكن المرتفعة، من الماء، من؟
من كل شيء. أخاف من الخروج من المنزل، أخاف من الشارع ومن الناس. أخاف أن ألتقي بشخص أحبّه وأخاف أن ألتقي بشخص أكرهه. وأخاف أن ألتقي بمن يخدعني، وأخاف ألا ألتقي بأحد وهذا أفظع ما يكون.

■ ما هو الاحتمال الذي تخاف منه؟
أنا أخاف، وأول كلمة كتبتها في أوّل كتاب ألّفته هي: «أخاف». ولم يكن الأمر صدفة، وأنا لا أؤمن بالصدفة أبداً فكل ما يحصل أقدار. أنا أخاف من كل شيء وكثيراً ما أخاف على من أحبه وليتني لا أحب أحداً.

■ هذا الخوف له علاقة بالموت، أتخاف الموت؟
لا أعرف، أخاف الموت بكل أنواعه: الموت الفيزيولوجي، الموت العاطفي أي موت العلاقة، موت الوهم وموت الخيال، موت التوقع.

■ كم من الميتات عشت في حياتك؟
أوف.

■ لا تحصى؟
لا ليس إلى هذه الدرجة. كل لحظة تنقضي تموت وأحياناً تمر لحظات لا نتمنى انقضائها، وأحياناً تمرّ لحظات نود رحيلها بسرعة لكنّها تمر ببطء.

■ هذا الخوف يعطيك القوة أم يضعفك؟

الخوف هو الذي جعلني أكتسب إنسانيتي، ولولاه لشطحت في غروري وفي وهم القوة التي تغنى بها «نيتشه»، هو نبي الدعوة إلى القوة، وأشعر أن القوة التي لديه هي نوع من خداع النفس: أنا قوي إذاً أنا أضحك. بينما حقيقة الأمر أنّه مدمراً من ملايين الجهات في ذاته، وقد أوجد هذه الطريقة ليستقوي بها على آلامه.

■ لكنّه حظي بأتباع كثر من البشر؟
طبعاً، لأنّ هذه الطريقة تعتبر حلاً من الحلول ولا شك في ذلك. في فترة من الفترات طبقت هذا الحل على نفسي ودعوت إلى الضحك حتى وإن كان مصطنعاً. ثم وجدت أنّ هذا الوضع غير صحيح وأنّني لست كذلك لأنّني لا أستطيع أن أكون كذلك فأبسط الأمور تجرحني.

■ كنت تمثّـل؟
لم أكن أمثل بل كنت أستعين بخشبة الخلاص الإصطناعية في الوقت الذي لم أكن أمتلك سواها.

■ «إذا رأيتم أحدهم يتهاوى للسقوط فادفعوه بأيديكم وأجهزوا عليه». هذا ما يقوله «نيتشه». لقد تطرّف كثيراً في أقواله، صح؟
لا تنسي أنّه تألّم كثيراً. «نيتشه» شاعر وليس فيلسوفاً فقط. ليس هناك شاعر شرير إطلاقاً، بل هناك شاعر مقهور وشاعر منتقم وفي أغلب الأحيان يكون انتقامه من نفسه. بودلير كان شريراً لكنه كان طفلاً إذ كان يركع ويصلي للعذراء ويطلب منها أن تحفظ أمه. كان يركع وقد تجاوز الأربعين من عمره يصلي ويبكي ورغم ذلك كان يقول في قصائده: «أريد أن ألعن أريد أن أفعل كذا. وكذا». ولم يكن ذلك صحيحاً، فالشاعر طفل مقهور: يصرخ ويرفس وبعد قليل يبكي ثم ينام.

الحرية؟

■ هل أنت إنسان حرّ؟ حتى من نفسك؟
لا. الحرية موضوع طويل، لقد بدأت (كتاب لن) بكلمة «أخاف» وأنهيت آخر قصيدة بكلمة «حرية» أي أنّني لا أريد غيرها لأنّه لا يوجد غيرها. وفي إحدى قصائدي أقول أنّ الحرية أجمل من الحب، وبمعنى من المعاني هذا صحيح. الحرية أكثر راحة من الحب فلا غيرة ولا ما يشبهها.

■ ما معنى أن يكون الإنسان حراً؟

يعني غير مرتبط وغير مجذر بشيء يجعله ثابتاً في مكان واحد، كالشجرة الثابتة في مكانها، وإذا انسلخ من مكانه، سيذبل وييبس كما تيبس الشجرة المقتلعة من جذورها. الحب هو العناصر الأربعة مع بعضها بالإضافة إلى عنصر خامس لا أعرفه، الماء والهواء والنار والتراب. إذا اقتلعت الشجرة من التراب فمهما سقيتها بالماء ستيبس وحتى لو تعرّضت لكل الهواء فما دام عنصر التراب ناقصاً لن تحيا. لذا الحب هو هذه العناصر مجتمعة.

■ أليس لفعل الحرية علاقة بفعل القتل؟ بمعنى أنّك إذا تحرّرت من الآخرين الا تكون قد قتلتهم بداخلك؟
أكيد .

■ هل تحررت من نفسك؟ من أهوائك؟
قصدك تغلبت على نفسك وليس تحررت منها. النفس تستعبد الفرد أحياناً وتقوده إلى مكان بحيث أنّه لا يملك القرار الحرّ ليكون فيه. أنا أفهم الحرية بمعنى متطرّف فقط، بالمعنى السياسي والإجتماعي وبالمعنى الأخلاقي أي التعبير عن الرأي، بمعنى الكينونة المستقلة الحرّة ضمن المجتمع. فلا حق لأحد أن يتدخل في رغبتي بفعل شيء ما أو عدمه، هذا ما أقدّسه، وكذلك عدم اقتحام الحياة الخاصة للأشخاص فلهذا الأمر قدسية عندي تفوق قدسية المعبد. أما الحرية بمعنى الإستهتار فليست حرية هذا مفهوم مهروق للحرية، كحرية الإنتحار، فإذا كنت أحب شخصاً ما لا أدعه ينتحر.
مثلاً الشعب السوري، أنا لا أفهم أي شعار يثور لأجله سوى الحرية وبقية المطالب أعتبرها سخيفة ولا تستحق الموت. أجل، أنا أريد أن أنتخب بحرية، أريد أن أمارس حياتي السياسية بحرية، أنا أريد أن أكتب مقالاً في جريدة. هذه الأمور تستحق النضال والثورة. لكن حرية قتل الجار ليست حرية. الحرية هي ان لا أزعج أحدا ولا يزعجني أحد.

الإدمان:

■ لكل منا أمور يدمن عليها، فعلام تدمن؟
كثيرة هي الأشياء التي أدمن عليها، فكل شيء أتعود عليه أصبح مدمناً عليه ولا أستطيع العيش بدونه حتى لو كنت لا أحبه. مثلاً أنا لا أحب القهوة، لكن بمجرد أن أصل إلى العمل أشعر برغبة قوية في الحصول على فنجان القهوة وإلا فتنتابني رغبة في النوم مع أنّني لا أكون قادراً على النوم. هذه عبودية وليست إدمانا فقط. عندما كنت أدّخن كنت أستهلك ثلاث علب من دون أي سبب. فأنا لا أحب التدخين لكنني تعوّدت، ثم تركت التدخين.

■ هذا يعني أنّك تستطيع التخلي عن إدمانك؟
لا. تركت التدخين لأنّه وصل إلى حد الإزعاج، لكن إذا طلب مني الآن أن أتبع نظاماً معيناً في تناول الطعام «ريجيم» فلا أستطيع. أنا توقفت عن تناول الكحول لكنني سأجن.

■ لماذا ؟
أوامر طبية .

■ هل تؤذي الكحول؟
في حالات معينة. مثلاً الشخص الذي يعاني من ضعف في الكبد أو من ضعف بنيوي عام.

■إدماناتك إذاً مجرّد عادات. ما هو الشرس منها؟
لا يقال... ليس كل شيء يقال (يضحك).

■هل انت سعيد بهذا الشيء؟
سعيد عندما تكون الفرصة سانحة لممارسته، مع شراكة حرّة بممارسته معي وهو نادراً ما يحصل.

الحرب الأهلية اللبنانية:

■ خلال الحرب الأهلية اللبنانية كنت تكتب في جريدة «النهار»، أي قضية تبنيت وقتها؟ وما هي المبادئ التي كنت تحملها؟ أخبرنا عن تجربتك في الحرب.

أنا من أوائل الذين كتبوا متغنين ومادحين للمقاومة الفلسطينة، حتى قبل ظهور ياسر عرفات علناً. وأوّل عملية مقاومة حدثت كتبت عنها في مجلة «كلمات» واستمريت في مديح المقاومة الفلسطينية إلى حد أنّني اعتبرتها الحلّ لكل الأنظمة العربية المهترئة التي يجب عليها أن تتعلم من هذه المقاومة حتى تصبح شبيهة لها. ليس فقط من حيث السلاح إنّما أيضاً من حيث الثورة والشباب الطاهر. هكذا كنت أنظر إلى المقاومة الفلسطينية في بدايتها، ولم تكن هذه نظرتي وحدي، فقد كونت لها شعبية هائلة في الوطن العربي.
ولكن حين حدث ما سمي حينها بـ«التجاوزات الفلسطينية» أحسست بالخوف. كان خوفاً على الفلسطينيين من قيام مؤامرة لبنانية ضدهم وبالتحديد مؤامرة لبنانية مسيحية من جهة. وخوفاً من أن يصبح رد الفعل فعلاً في أماكن معينة كالدفاع الذي يصبح هجوماً. الحواجز التي أقامها الفلسطينيون في تل الزعتر والنبعة وغيرها، والذبح على الهوية، علماً أنّهم (الفلسطينيون) هم الضحايا فكيف أصبحوا جلاّدين؟!
حينها أحسست أنّني انقسمت شقفتين لم أعد أعلم أين أنا. إذ أنّني كنت أعتبر نفسي «كتير لبناني». ليس بمعنى التشوف بل بمعنى أن لبنان بلد صغير إلى درجة أنه دائماً يكون ضحية، تماماً كالولد. فكيف يمكن لأي كان أن يكون ضد هذا الولد ؟ كتبت حينها افتتاحية في جريدة «النهار» بعنوان: «كلنا ضحايا».
أنا مع الضحية أين ما كانت، مع الضحية اليوم في سوريا. والمصادفة في لبنان أن كلّهم ضحايا، وعيب عليهم أن يتقاتلوا وقد وقعوا معاً في الفخ بمنتهى السذاجة والجهل.

■ ما هو سبب الحرب الأهلية اللبنانية برأيك ؟ هل هو مؤامرة خارجية ام حتمية داخلية ؟
أكيد مؤامرة خارجية. عن أي حتمية يتحدثون؟ لقد ثبت مع مرور الزمن أنه عندما كفّ المسيحيون عن الوقوف ضد مواجهة الفلسطينيين، وفهم الفلسطينيون أن المسيحيين ليسوا ضالعين في مؤامرة لإلغائهم بل أصبح الفلسطينيون الحكام الفعليين للبنان، وهذا ما أكده عرفات حين قال: «كنت حاكماً فعلياً للبنان»، انحسرت القضية بين المسيحيين والفلسطينيين، ووكل بالتنكيل بالفلسطينيين أطراف مسلمون وعرب وليس المسيحيون اللبنانيون. كان لبنان المستهدف دائماً والفلسطينيون بالدرجة الاولى. فحرب المخيمات من نفذها؟ الكتائب؟ حرب المخيمات نفذتها «حركة أمل» ومن خلفها الجيش السوري، هذا الأمر أصبح معروفاً ولم يعد سراً، لقد كانت حرباً رهيبة، لا تبرير لها، وكيف يمكن للعالم أن يبررها؟ مسلم يقتل مسلماً وعربي يقتل عربياً. من هو الطرف المؤهل للقيام بهذه المهمة، ومن كان يموّل كل هذه الحروب؟ أطراف عرب يملكون المال واليوم يموّلون أشياء أخرى.

■ ماذا فعلت في الحرب؟ كم خفت؟ وكم بلغ خوفك آنذاك؟
لم أخف من القتل، ليس بفعل شجاعتي بل لإنتهاء مخزون الخوف عندي، لم يبق عندي خوف، صرت شجاعاً، ويائساً. توقفت عن الكتابة والعمل عام 1976، اعتبرت أن الصحافة انتهت بمجرّد أن دخل الجيش السوري إلى لبنان. أنا أتحدث عن الأشياء كما هي لأن التاريخ كتبها ولم نعد قادرين على أن نخاف، (ما عادت تحرز انو نخاف) والرصاصة أكثر راحة من المستشفى، ورصاصة أو رصاصتين ثم أصبح شهيداً!
عندما دخل الجيش السوري إلى لبنان وقام الرئيس اللبناني آنذاك سليمان فرنجية بالإعلان عن وثيقة دستورية مع نظيره السوري حافظ الأسد اعتبرت حينها أننا انتهينا ولم يعد هناك «لبنان». أو بالأحرى لم يعد لدينا صحافة وبأحرى الأحرى فقدت جريدة «النهار» حريتها، وهي التي تعتبر الحرية مبرراً لوجودها، فكيف ستكون حرّة في ظلال بنادق الجيش السوري؟ في سوريا لا يعرفون ماذا تعني حرية الصحافة وهذا المفهوم غير موجود عندهم.
البلد عانى حينها من أزمة مالية هائلة وانخفضت كمية المبيعات ولم يتمكنوا من الوصول إلى المناطق لتوزيع الأعداد فبقيت في بيروت. لم يكن ممكنناً إيصالها إلى المناطق في ظل وجود الحواجز والمسلحين، صرت أتقاضى حينها نصف معاش ثم أصبح ربع معاش «ويكتر خيرهم» لأنهم ظلّوا يدفعون لي .

■ ألم تنتسب الى حزب ما ؟
أعوذ بالله! أنا أخاف من السكين...

■ هل سبق لك ان اوقفت على حاجز ؟
عندما توقفت عن العمل بقيت في البيت ولم أخرج منه كي لا أصل إلى الحواجز. لم يكن للمبنى الذي كنت أسكنه ملجأ، بل كان هناك مجرد قبو مطلّ على الشارع لا يشبه الملجأ بشيء.

الزعماء والطائفية:

■ هل سبق أن صدّقت زعيماً ما أو هل تصدّق مسؤولاً سياسياً في أيّامنا هذه؟ أم أنك تؤمن أن لا مبادىء في السياسة؟
لا أنتمي إلى أي زعيم، فالزعامة عندي فقط للكتابة، ليس عندي زعماء أشخاص بل زعماء شعراء كالمتنبي وبودلير، وفيكتور هيغو وشكسبير هؤلاء «على راسي». فالزعيم السياسي حتى يكون زعيماً حقاً عليه أن يمتلك عقلاً شموليّاً ليس بالمعنى التوتاليتاري بل أن يحب كل الناس. أنا لا أرى زعيماً واحداً (اليوم) يحب الناس ولا أرى أحداً بمستوى أي كتاب اقرأه فكيف أعجب بهم!
هم لا يشعرون بما أشعر به اتجاه الناس ولو كانوا يشعرون مثلي لأشفقوا عليهم. هناك مئات الألوف من اللبنانيين ينامون بلا عشاء فمن يحسّ بهم ومن يسأل عنهم من الزعماء.

■ إذاً لمَ يتّبعهم الناس؟
من قال أن الناس تتّبعهم، هذا فقط بالمظهر. الناس تتبعهم لأن الغريزة تتبع الاقوى ونحن نمتلك الكثير منها وأبرزها الغريزة الطائفية والمذهبية ولا عقل يتحكم بها، وبدل أن يسيطر عليها الزعماء فإنهم يستثيرون الناس بهذه الغرائز. أين هو الزعيم الذي يقول: تبّاً لطائفيتكم أيها الأولاد!

■ ألا تعتبر أن الطائفية هي الحلّ في ظلّ غياب الدولة لأن المواطن لا يخدمه إلّا زعيم طائفته؟
هذا حكّ للغرائز، الدولة هي التي تشجّع الطائفية وبغيابها واضمحلالها تقول للمواطن الجأ إلى الزعيم وإلى رجل الدين فأنا لست موجودة.

■ إذن لا حل للطائفية إلا بحلّ مشكلة الدولة؟
هذا أكيد. فالطائفية ليست هي المشكلة. الطائفية السياسية هي نوع من الديمقراطية، فبدل أن تتمثل الاطراف بأحزاب يسارية أو يمينية فهي تتمثل بالطوائف. لا مانع من ذلك شرط أن لا تصبح الطائفية على مستوى الشارع والتعصّب الديني. هناك الكثير من البلدان موزّعة طائفيّاً أو موزّعة عرقيّاً، ففي بلجيكا هناك عرقين متوافقين مع بعضهما: العرق الهولندي والعرق الفرنسي، وهناك لغتان ويمكن أن يكون هناك دينان وماشي الحال. أما سويسرا ففيها ثلاثة أعراق: طليان وفرنسيين وألمان.
المشكلة تربية الشعب أوّلاً، وتأهيله للديمقراطية وللعلمانية وإلغاء دوائر النفوس الدينية، فأنت مثلاً لستِ موجودة إلا إذا كنت مسجّلة عند الشيعة.

■ تقصد الأحوال الشخصية؟
أنت لست موجودة كمواطنة لبنانية إن لم تكوني مسجلة في الأحوال الشخصيّة، لا يعترف بك ولا بأبنائك ولا بزواجك. يجب أن نبدأ من هنا من الزواج المدني من الزواج المختلط وليلغوا الأحوال الشخصية، فلماذا يتحكم بي رجل الدين؟ أنا لا أريد أن يتحكّم بي رجل الدين. أريد أن أكون في سجل مدني. إلى الآن لا زعيم ينطق بهذا المنطق. حاول الرئيس اللبناني الراحل الياس الهراوي تشريع الزواج المدني فقامت القيامة عليه.

■ هل ترى أن هناك أملاً في أن يصير لبنان وطناً؟
أكيد. لمَ أنت «بنت غير شكل» عن غيرك؟

■ لأن عندي أمل...
لأنّك قرّرت أن تكوني «غير شكل» عن غيرك، إذن عندما يكون هناك شخص واحد ضمن المليون ولم يكن هذا الشخص فاسداّ فهناك أمل... أكيد.

■ نعرف أنّه في البلاد الراقية كأوروبا إن تعرض المواطن للخوف الشديد أو للحرب أو السجن وقبل أن يعود إلى حياته الطبيعية في المجتمع فإنه يخضع للعلاج النفسي أو لإعادة تأهيل، أما هنا في لبنان وبعد فترة الحرب الطويلة كيف يعالج الناس أنفسهم برأيك؟
من يفكّر بهم؟ إذا ظهرت على التلفاز وتحدثت عن التأهيل النفسي فسيستهزؤون بك.

■ من أجل ذلك الناس على استعداد دائم للحرب لأنها لم تعالج ولم تجر عملية نقد ذاتي أليس هذا صحيحاً؟
لا يوجد أب للشعب، ليس عندنا آباء بل ملاّك وإقطاعيين يمتلكوننا. هذا الزعيم يأخذ جماعته إلى حيث يريد، والجماعة تروح معه إلى جهنم لو أراد، فكيف تعالجين هذا؟ فبنظرهم منتهى الشرف ولاؤهم لهذا الشخص فهم يضعون فيه كل آمالهم وثقتهم.


الجيل الجديد:

■ إن جيلكم الذي عاش بيروت بعزّها وعظمتها حين كانت «سويسرا الشرق» أعطاها لجيلنا، الجيل الجديد، مدمّرة مغبّرة ولا تزال رائحة الجثث تفوح إلى الآن، ماذا تقول لهذا الجيل؟

جيلكم حلو وأنا عندي أمل. رغم ما أسمعه ممّن حولي عن أنهم متعصّبون أكثر من آبائهم. أنا لا أرى ذلك بل أرى هذا الجيل متمدّناً، متعصرناً، وحديثاً ولامعاً وعم يطلّع صبايا وشباب متحرّرين كليّاً من التعصب الطائفي أكثر بكثير لأنّني عشت المرحلتين. ودائما نجد أن وراء كل جيل هناك مآس، ستقولين: أن وراءكم الحرب الأهلية، وسأقول وراءنا حوادث العام 1958 والحرب العالمية الثانية ووراء أبي الحرب العالمية الأولى، ووراء أجدادي مذابح العام 1860. هذا قدرنا طالما نحن متخلّفون سياسيّاً، أمّا اللبناني على صعيد فردي فهو ليس متخلّفاً بل هو أغنى إنسان في العالم، إذا أردت إعتبار الغنى نبوغاً، فأهم أطبّاء القلب وجراحته كانوا لبنانيين. اللبناني على صعيد فردي موهوب.

الصحافة:

■ لنعد إلى الصحافة. هل تذكر أوّل نصّ نشرته؟
أجل أذكر. أوّل نص نشرته كنت حينها في الصف الثالث أي البريفه، وأرسلته إلى مجلّة شهيرة كان اسمها مجلة «الاحد» وقد وضعت اسم أبي خلف اسمي كي أجعله جسراً، وحتى يقال هذا ابن لويس ! فلنسايره إذن. ولم أكن أعرف أحدا لأنني كنت طالباً وذلك بدا جليّاً من خلال خطي، وكان عبارة عن جمل صغيرة، كتلك التي تنشر هذه الأيام في صحيفة «الأخبار» تحت عنوان «عابرات». هكذا بدأت كتاباتي وقد كان نفسي قصيراً ولم يكن المقال طويلاً متماسكاً بل عبارات وجمل، أشياء مشابهة بدائية وطفولية. وقد نُشر في صفحتين، خفت من العنوان لكنّني كنت سعيداً ومخجولاً في آن. أحضرت المجلّة وخبّأتها ولم أجرؤ على إطلاع أهلي عليها. أخي الكبير هنأني وأخبر أبي الذي ارتبك وشعر بأن التشجيع أو عدمه سيكونان عبئاً عليه، فتظاهر بعدم المعرفة لكنه كان سعيداً ونظر إلى المسألة من الناحية الإيجابية فأنا استعملت اسمه لأفتخر به، وهذا صحيح لكنني كنت انتهازياً أيضاً.

■ هل دخلت إلى عالم الصحافة من باب الوراثة؟
لا. أنا لم أفكّر أبداً في الصحافة. عندما وصلت إلى صفّ الباكالوريا فكّر والدي بإرسالي إلى باريس، إلى «السوربون»، لمتابعة الإختصاص الذي أرغب به. وقد أغرمت حينها الغرام الأوّل الذي لا يقاوم. وكنت أشعر أنّني يجب أن أصل بهذا الغرام إلى نهاية المطاف، يجب إعداد القصر والخدم، علماً أنّني لم أكن أملك شيئاً. ثم تطوّر الحب مع ليلى زوجتي بفعل الشهامة والمروءة والفروسية، وقد كانت رائعة الجمال ومدللة ووحيدة أهلها. أحببتها وجعلتها تحبني رغم أنها لم تكن تفكّر بالأمر لأن أباها كان يعد نفسه بأن تتزوج إبنته بمحامٍ أو طبيب أو بشخص موفور الحال. تمّت الخطبة وكنت لا أزال طالباً بعمر ثمانية عشر عاماً. وعندما أصبحت في صف الفلسفة تركت المدرسة إذ لم يكن الغزالي ولا إبن رشد يستهوياني، واتجهت نحو التعليم الخصوصي وكنت أتقاضى ثلاثين ليرة شهرياً وكان مبلغاً زهيداً، فطلبت من والدي أن يساعدني في الحصول على عمل أفضل. عرض عليّ العمل في جريدة «النهار» فرفضت لأنه كان رئيس تحريرها، لقد كنت أفضّل أن أعمل عند شخص لا أعرفه. وقد أعجب والدي بالفكرة وكان يريد أن يطرحها ضمنا لكنه شعر بالخجل. بدأت اتدرب عند كامل مروّة في جريدة «الحياة» التي كانت حينذاك من أكبر الجرائد اللبنانية والعربية، وكانت في المرتبة الثانية بعد «الأهرام». تدرّبت عنده وتعلّمت الصحافة على يديه، ولمّا خطبت ليلى كان راتبي في جريدة «الحياة» مئتي ليرة. بعد ذلك استدعاني غسان تويني وسألني: «كم تتقاضى في الحياة؟ أنا سأعطيك ثلاثمائة ليرة على أن تستلم القسم غير السياسي في النهار. اهتمّ بالصفحات الأدبية وكلّ ما لا يتعلق بالسياسة»، أي أن أكون رئيس قسم في حين أنني كنت عاجزاً عن قراءة جريدة، فتعملّت.

■ أحببت إذاً هذا العمل؟
ليس كثيراً، لم يكن هذا هاجسي فالحب هو الذي كان يسّيرني، كان الكل.

الرجل والمراة والزواج:

■ هل تشبه زوجتك أمّك في بعض المزايا؟
من الناحية الجسدية شعرها أسود وعيناها سوداوان، لا أذكر أمّي كثيراً. زوجتي كانت مزيجاً من الأنوثة وقوّة الشخصيّة وتتميّز بالغموض، وأنا أحبّ المرأة الغامضة بدون إفتعال، بدون حركات خارجيّة بل طبيعيّة جدّاً. كما أنها تمتلك شيئاً لا يقبض عليه، فهي تكون معي لكن في نفس الوقت أعجز عن استهلاكها. الحبّ يولد من هنا، من هذا الشعور أن ما بين يديك جسد وسراب في الوقت نفسه.

■ أي أنها معك وليست معك ...
هي معي وهي كليّة، تحبّ حتى النهاية، أو أنها لا تحب أبداً، هذا هو نوعها. إلا أنّني كنت أشعر أن لديها بعداً لا أستطيع الإمساك به أوحبسه ضمن سلطتي. هذا هو الحب، فالمرء عندما يمسك الأشياء ويضعها في جيبه يسعى للحصول على غيرها، ومن يبحث عن شيء يظل في سعي دائم وفي حلم دائم.

■ كم سنة عشت معها؟

كلّ العمر، من عام 1957 جتى عام 2005، وكنّا صغاراً عندما تزوّجنا، لا نعرف شيئاً ولا حتى الجسد وهو عارٍ. وفي الحقيقة فقد تعارفنا بشكل طفولي حتى أنّنا بقينا أيّاماً نفتّش عمّا يجب فعله.

■ أليست جميلة هذه اللحظات؟
لا تنسى، مثل آدم وحوّاء في أولى لحظات وجودهما.

■ كنت بتول أليس كذلك؟
طبعاً طبعاً، في كل شيء.

■ هل تعتقد أن الحب واحد في جميع الأزمنة أم أنّه يختلف؟
لا، كما الإنسان ليس هو نفسه، فهناك جوهر لا نعرفه، والإشعاعات التي يرسلها إلى السطح تختلف. ففي مرحلة ما يكون الحب شهوانيّاً، أي إكتشاف الجسد وتدفّق الهورمونات، هذه مرحلة لا يسيطر عليها الإنسان وستلعب دورها وقد تحدث في البداية أو في الوسط أو في الوداع. وأحياناً يمكن أن تحدث في المراحل الثلاث، وأحياناً في المرحلتين في البداية والنهاية، وأحياناً في الوداع حيث يكون الشعور كإنتفاضة الديك الذبيح الذي يودّع، فتصبح لديه شراهة فظيعة.
... وحين يصبح عجوزاً وبسبب التجربة التي إكتسبها، بالمعنى المعنوي والمجازي والنظري يصبح أنسب ما يكون لإقامة علاقة، نضرة، يقدر أن يحب كألف شاب في الوقت الذي لا يُحب... وغالباً ما يكون كذلك. هناك عجائز كبيكاسو إمتلك حظّاً جعل النساء ينهمرن عليه كالمطر رغم أنه كان بشعاً وعجوزاً وثقيلاً ... لا شكّ أنّه كان فناناً كبيراً لكن على الصعيد الشخصي كان أنانياً ونرجسيّاً. كن يحببنه لشهرته، فالمرأة تتغلّب أحياناً على الحساسيّة الجسديّة والشكليّة الجمالية لأن النجم يستهويها والشهرة. عمر الشريف مثلاً لا يزال إلى اليوم يستهوي الفتيات رغم بلوغه الثمانين، الشهرة تستهوي المرأة كالفراشة التي يستهويها الضوء. المرأة إجتماعية في حين أن الرجل قد يحب خادمته، الطبقية لا تفعل في هذا الوضع.

■ الرجل يحبّ المرأة التي تستهوي فكره أما المرأة فتحب الرجل الذي يرغب جسدها؟
احسنت فالمرأة تنبهر! تنبهر بالمظهر والسلطة والمجد والشهرة، فقد تتعلق بوزير بخيل وقبيح لكنه وزير ... يا لطيف!
أمّا الرجل فقد تستثيره خادمة تحسن إستمالة خياله، لأن سهولة الحصول من عوامل إثارة الرجل، السهولة وليس الصعوبة، المرأة تبحث عن الترقي في العلاقة أمّا الرجل فيرتاح مع المرأة العاهرة بلا ولا مشكلة، فمعها يستطيع أن يسرّح غرائزه كيفما شاء.

■ يُعجب بالمرأة القويّة لكنه يفضل أن يحظى بإمرأة طيّعة؟
من الناحية الجنسية لا يرغب الرجل في إجراء ديباجة فيستسهل المرأة السهلة، وفي الحقيقة السهولة فضيلة ولا أرى أنها عمل بشع، صعوبتنا تكمن فينا فلا داع لاصطناع صعوبة في الخارج.

■ دائماً نجد في الزواج «طلعات ونزلات»، مشاكل، شغف، هدوء، غضب، أحياناً يكون الآخر صديق، وأحياناً يكون عشيق، وأحياناً لا يكون، أنسي الحاج الشاعر كيف كان زواجك، وهل خنت زوجتك يوماً ما؟
الزوجة في البداية تكون العشيقة والمعشوقة، لكن الزواج مع الوقت يقتل الشغف. أفضل نهاية له أن تصبح الزوجة رفيقة وصديقة وألاّ تحوّل إلى عدوّ وإلى اسوأ من عدو: كائن لا يبالى به. في البداية يكون الزواج نتيجة الحب ومن المؤكّد أن الحبّ سيستمر، ولا يمكن أن يستمرّ إلّا إذا تزوّجا عن نضج وفي عمر معين، بحيث أنه وصل إلى الشبع وتقلّب على الحالات المختلفة، ففي مثل هذه الحال يدوم الزواج مع الحب والعشق إلى الأبد. الإثنان وجدا نفسيهما وهذا هو الإمتلاء الكامل وهو يحصل. أما إذا اختلفت الظروف فالأفضل أن يتصادقا بعد العشق من أن يصبح هو بانتظار شيء لن يحصل عليه منها، فالحلم تبدّد وجاء الواقع، أمّا هي فتتساءل عن سبب امتناعه عن معاملتها كما في السابق عندما كان يخاطبها: يا حبيبتي، أحبّك، وتفكّر لم انتهت هذه المواقف؟

■ إذا عاش الرجل معها، امرأة في داخله، وإلى جانبه، في مثل هذه الحال لا يحصل إستبدال لأن أحداً لا يحلّ مكان آخر، ولكن هل يسمح لها أيضاً بأن تستبدله؟
هذه الأمور ليست خاضعة للإذن فهي تحصل بين الإنسان ونفسه ولا أحد يكون رقيباً عليه.

■ هل تقبل بهذا الأمر كرجل في هذا الشرق؟
ليس ضرورياً أن أعرف. هل تعتقدين أن هناك أحداً يمارس مع شخص آخر العلاقة الجنسية وفي عقله الباطني وخياله لا توجد صورة مثالية لشخص آخر؟ لا أعتقد ذلك. مع الشخص الواقعي هناك في خيالنا شخص غير واقعي، أحياناً هناك ظلّ لا يشبه الأصل أبداً، وأحياناً أخرى يشبهه، أو يكون إنعكاساً له أو أصله. على الأقل هناك شخص واحد واحياناً هناك أكثر من شخص.

■ هل علمت زوجتك بخيانتك لها آنذاك ؟

أفضّل أن لا أتحدّث عن هذه المرحلة لأنها تؤلمني كثيراً وتشعرني بمدى حقارتي حينها، كما تشعرني بعدم جدوى الخيانات كلها. هناك أماكن تكون فيها جدوى وذلك عندما يحب الشخص أحداً ما، فالحب يطهّر وحيث يكون الحب يكون الغفران والفضيلة والأخلاق، فالحب قربان ولا فساد فيه. لكن ليست كل الخيانات ناتجة عن حب للأسف، أحياناً تكون على حساب الشخص الذي تحصل الخيانة معه وليس فقط على حساب أمانة النفس والزوجة، فأنا لم أكن أسعى سوى وراء هدف عابر وغالباً ما تدفع المرأة الثمن.

■ هل تشعر بالندم تجاه زوجتك؟
طبعاً، ليس ندماً فقط، إنما بتفاهة هذه الأمور التي كان سببها الأساس الضجر والهروب إلى الأمام وسطحيّة القرارات التي يتخذها المرء والتي هي بمثابة سقطات وليس أكثر، ليس بالمعنى الإجتماعي إنما بمعنى خيانة الذات.

■ خيانة الذات أصعب من خيانة الآخر؟
خيانة الذات هي الأساس. أصعب شيء، وأجمل شيء أن يتصرف الإنسان وفقاً لطبيعته، وأن تكون طبيعته جميلة، فإذا كانت طبيعته شريرة وتصرّف على أساسها سيكون مجرماً، ما أقصده كما الطفل إذا مارس دوراً أكبر من عمره. أنا كنت طفلاً ولا أزال وأحياناً كنت أظهر لنفسي أنني عملاق وجبّار وهذه أمور سخيفة وليست صحيحة فأنا من الداخل لست كذلك، كنت أهرب إلى الأمام.

■ أحبّتك النساء؟
لا، لا أستطيع أن أقول ذلك فكل رجل يجد من يحبّه من النساء.

■ أنت شاعر ولسانك جميل وحساس ...
لا، فقد كنت إستفزازياً وقد «ربيت سكسوكة» حتى يكرهني الناس، وكنت أضع نظارات بنيّة كي أبدو كالوطواط، وكنت أكتب كتابات إستفزازية حتى يكرهني الناس. يمكن أن يكون هذا التصرف تعويضاً عن سلطة غير متوفرة في شكلي الناعم، فقد كنت ولداً صغيراً ولكي أوحي بالهيبة صرت أتصنع، فقد كنت سمجاً جدّاً ولا أدري كيف أحبوني. ربّما أحبّني البعض بسبب (ثقالتي ).

■ بعض الناس كشفوا ما تخبئه وراءالنظارات البنية ...
لا لم يكتشفوني.



خواتم:

■ سنتحدث الآن عن «خواتم»، هل تناجي هذا الجيل؟
صدّقيني أنني عندما أكتب لا أفكر لأي جيل أكتب، وقد فوجئت بشكل مفرح جداّ أن أكثرية القرّاء الذين يقرأونني في جريدة «الأخبار» همّ من الشباب والصبايا، وبردودهم عبر الإنترنت وجدالهم حول المقال، جدل حرّ جداً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن أقصى المحافظة إلى أقصى التحرّر. البعض من الجيل السابق يعتبرونني غامضاً ولغتي معقّدة وغير مفهومة، أمّا هذا الجيل فهو يفهم تماماً ما أقول وليس لديه أي مشكلة على الإطلاق.

■ هل يجد فيما تكتبه هموماً تمسّه؟
هموم مشتركة. إذا طالعت مواقع الإنترنت الخاصّة بـ «الأخبار» ستتفاجئين بعدد الصبايا وبالإختلاط الطائفي من كل الطوائف، وانا سعيد جداً لآنها المرة الأولى التي أختبر فيها هذا الامر. في الماضي كانت تصلني الرسائل، أمّا الإنترنت فهو كالمرآة الصادقة لأنهم لا يكتبون للمجاملة، والأصدقاء الذين أكتسبهم، أكتسبهم بعد الكتابة لذا لا مشكلة عندي مع هذا الجيل وأنا ممتنّ جداً لهذا الشيء.

الثورة السورية:

■ لاحظنا أنّه منذ بدء الثورات وبالأخصّ السورية منها كتبت مرّتين أو أكثر عن الموضوع فلماذا لا ترافق هذه الثورة في الوقت الذي يحتاج فيه الناس الى قراءة رأيك؟
أنا لست معلّقاً، بل كاتب وجداني والوجدان يعبّر عن نفسه مرّة أو مرّتين أو ثلاث مرّات، ثم ماذا يفعل هل يكرّر النشرة ذاتها؟ أنا كتبت ما أردت قوله في مقال تحت عنوان «ما تستحقه سوريا».
وكان ذلك في بداية الثورة في شهرها الأوّل أو الثاني، وسبقه مقال آخر عبّرت فيه عن ضياعي حيث لم أكن أعلم ما هو الموقف الذي يجب تبنيه لأن البداية كانت «مضيّعة»، وكان الأمل معقود كلياً على أن بشار الأسد سينقلب على نظامه ويجدّد الدولة السورية. وما كتبته في مقال «ما تستحقه سوريا» هو بمثابة دعوة لهذا الأمر. فماذا كان يريد الشعب السوري؟ في ذلك الوقت لم يكن الشعب يطالب بإسقاط النظام بل بتغيير المحافظ في منطقة معينة وأشياء مشابهة.

■ تعني إصلاحات؟
ناشدته أن يعطي حرّية الرأي للشعب السوري لأن كل ما يطلبه هذا الشعب يختصر بكلمة هي: الحريّة، أمّا الباقي فلا يهمّه. فهو يريد أن يعيش كبقية الشعوب التي تكتب بحرّية كما هو الحال في لبنان وفي مصر، للأسف لم يحدث هذا الشيء.

■ هذا يعني أن المقال الذي كتبته يختصر كل ما أردت قوله عن هذا الموضوع؟
أجل لقد كتبت كل ما أردت قوله عن سوريا في هذا المقال.

■ هذا يعني أنّك لم تكن بعيداً ؟
لا أعوذ بالله...

■ البعض يتهمونك بكتابة موضوعات تجريدية هي مجرد موضوعات برجوازية مخمليّة بعيدة عن الأرض؟
أنا لست معلّقاً سياسيّاً...

■ ولكن ألست صحافيّاً؟
لا أبداً لست صحافياً، ولكنّني أكتب في الصحافة أي أنّني لا أشعر أنه ينبغي عليّ أن أكتب اليوم عمّا حصل في «بابا عمرو»، فماذا سأكتب «الويل لكم أيّها الطغاة»؟ فمثل هذا المقال ماذا سيقدّم أو يؤخّر؟ أنا أتبنّى موقفاً وأعتقد أن موقفي كان شجاعاً، ففي ذلك الوقت لم يكتب أحد (عن الثورة السورية). مثلاً لديّ صديق شهير جدّاً كتب مقالاً في إفتتاحية جريدة «السفير» دعا فيه إلى عدم حصر السلطة في سوريا بحزب البعث، هذا كان أقصى مطلب له. فهذا الأمر لا أعتبره حلّاً، فحزب البعث لم يعد موجوداً في سوريا منذ زمن، فهو مجرد يافطة لشيء غير موجود. أما الموجود فعلاً فهي السلطة ورئيسها وما تبقّى، فهم مجرّد منفذون. فالحق ليس على حزب البعث، فهو ليس كالحزب الشيوعي في الإتحاد السوفياتي الذي كان يحكم البلد.

■ هو تحوّل إلى سلطة؟
تحوّل إلى صراع على السلطة وهو إحدى أدواتها، فإذا تخلّصنا من حزب البعث وأتينا بالحزب الشيوعي فهل هذا يعني أن مشكلة سوريا قد حلّت في ظلّ الأنظمة الدكتاتورية؟ يجب أن تمنح الحرية لا مجال للبحث، وما تبقّى ليس سوى كذب ودوران حول الموضوع وخوف من تسمية الأشياء بأسمائها.
أنا سمعت وقرأت على الإنترنت، واستجابة لتوبيخ الضمير سأكتب غداً مقالاً عن الموضوع لأن لدي ما أقوله غير ما قلته سابقاً.

■ صار في تطورات؟
ليس تطوّرات، فكل يوم تحدث تطوّرات في المحور ذاته. فبدل أن يسقط خمسون قتيلاً يسقط مئة أو أكثر، القتل ماشي، والتهم ذاتها: إنها مؤامرة وإسلاميون متعصبّون، ودولة فاضلة ممتازة أو رجعية، فهل سنظلّ نكرّر هذه الأقاويل؟

■ هل سبّب لك المقال الأوّل مشكلة ؟
لا.

■ هل تتوقّع أن يستفزّ مقالك الذي ستكتبه أحداً؟
لا أنا لا أتطاول على الحق ولا أكتب «لأنعر» بل لأشهد، وما على الشاهد سوى الشهادة وما على الرسول سوى البلاغ. هل تعلمين من يكره؟ الكاتب الذي تشعرين أنه مأجور أو مغرض حتى لو كان مجانيّاً، لحساب حزب ما أو لحساب زعيم أو سلطة. أما أنا فلا غرض لديّ فأنا أحب الحياة والناس وأشفق عليهم. أنا مع الضحية حتى لو كان الضحية صدام حسين، بشع هو منظر الضحية، حاكمه بدلاً من ذبحه. معمّر القذافي كان مجنوناً ومعتوهاً لكن ليس هكذا كان يجب أن تكون نهايته، بل كان يجب أن يحاكم وليس أن يسحل ويذبح عندما يصبح ضحية، عليهم أن يكونوا أفضل منه.
كل قاتل يجد أقتل منه يصبح ضحية والأقتل يصبح جلّاداً، ومع الأسف أحياناً يصبح الضحايا أجلد من الجلّادين وأقتل من القتلة.

■ لو كنت في هذه المرحلة في سوريا مكان بشار الأسد فماذا كنت تفعل؟
أعطيهم كامل الحرية.

■ هل تعتقد أن لديه متسع من الوقت للقيام بذلك؟
لا اعلم إن كان سيستطيع. مع الأسف أعتقد أن الدستور الذي صيغ والذي ينطوي على أمور إيجابية كثيرة وسيجري الإستفتاء بشأنه، يتضمّن مادّة تنصّ على دين رئيس الدولة: يجب أن يكون رئيس الدولة مسلماً. في بلد كسوريا متعدّد الطوائف والأعراق وحيث أصبح المسيحي اللبناني فارس الخوري رئيساً لوزرائه ذات يوم، وحيث مؤسّس حزب البعث ميشال عفلق، والذي أعطى قسطنطين زريق أبا العروبة، فهل يجوز أن ينص الدستور على دين الرئيس؟ عيب. ثم يقولون أنهم تراجعوا أمام الإسلاميين فكيف تتراجعون أمامهم؟ هذه لطخة في تاريخ سوريا العلمانية. هذا لا يجوز أبداً.

■ تقصد من سيء إلى أسوأ؟
الرجل يحاول، لقد ألغى تفرّد حزب البعث بالسلطة وهذا رائع وعظيم، ولكن متى فعل هذا؟ بعدما سال كلّ هذا الدم، كيف سينسى الناس بعد أحد عشر شهراً من الأزمة؟ الآلة بطيئة، آلة سوفياتية تعود الى أيام ستالين تتنفس كل عشر سنوات مرة، الأمر يستلزم مبادرات صاعقة وليس مدافع صاعقة، ومع الأسف لا توجد.

الأعمال الادبية القصيدة الحديثة والمواهب الجديدة:

■ هل تتابع الأعمال الأدبية الجديدة؟
قدر الإمكان.

■ المواهب الجديدة والشعراء الجدد؟
أنا أتشوّق إلى إكتشاف مواهب جديدة، إلى الإعجاب. وأحبّ أن أعجب وأظلّ أفتّش عن شيء أعجب به وأبالغ في إعجابي حتى يدعوني البعض إلى التروّي، ولا أريد أن أسمّي من أعجب به لأنّني كثيراً ما أنسى وأخلط بين الأسماء .

■ هل وجدت من يضاهيك شعراً؟
لا، أرجوك. أنا شاعر فاشل، كنت أحب أن أكتب شعراً موزوناً لكنّي لا أستطيع. أحب أن أكتب الأغاني لأنها جميلة لكنني أعجز عن ذلك إذ يطغى على ما أكتبه الفكر.

■ لكن هناك من غنىّ لك.
لا رغبة لديّ في هذا الشيء، لأن ما كتبته ليس للمغنى بل للكتابة. وعلى كل حال أنا اشكر من غنّى لي وجازف بشعبيته لأنني لست شعبياً. كنت أحب أن أكون شاعراً يكتب الموزون، شاعر تفعيلة. لديّ شعر تفعيلي لكنّه ناتج عن الصدفة (الخطأ).

■ يعرف عنك أنّك لا تحبّ القصيدة العامودية؟
هناك فرق بين أن لا أحب القصيدة العامودية، وبين أنني كنت أطالب بحيّز شرعي لقصيدة النثر. لم أكن أريد لقصيدة النثر أن تلغي الشعر الموزون. وعندما وصلنا إلى وقت تأزّم فيه الوزن وانعدم، دعوت في حديث مع صديقي الشاعر والناقد والكاتب الكبير عباس بيضون لمجلّة «الوطن العربي» التي كانت تصدر آنذاك في باريس، دعوت إلى إعادة ضخّ الحماسة في الوزن وإعادة الكتابة بالوزن.

■ ألا ترى أن القصيدة الكلاسيكية العامودية ليست حرّة، بمعنى أنها مسيّجة برويّة وصدر وعجز؟
لا ليس الأمر على هذا النحو. لذلك يجب أن نشجعها حتى ينضبط من يكتب شعراً، فكل من يكتب كلمة على سطر ، مثلاً:
ذهبت/ جلست/ دخّنت/ شربت/ القهوة/ في/ مساء/ الأربعاء، صار شاعراً نثرياً...
ماذا يحاول هذا الشاعر إخبارنا، إذا كتب هذه الكلمات جنباً إلى جنب سيكون الحال أفضل. هناك إستسهال، وأفكار خاطئة عن قصيدة النثر ولا نستطيع دائماً أن نذّكر بمبادئ قصيدة النثر. حتى وصلنا إلى حدّ أن كل من يرغب في كتابة مذكّراته يعتبرها قصيدة نثر، أو كلّ من يريد أن يرسل رسالة إلى حبيبته يعتبرها قصيدة نثر، وكل من يريد أن يقول «نكتة» في مقهى على نحو «مرّت ذبابة فوق رأسي وكانت خضراء وليست سوداء» يعتبر ما يقوله مبررّاً كافياً لوضعه في كتاب وإعطائه عنواناً.
الأمر ليس كذلك والكتابة ليست نهفة، فالفن عدوّ النهفة وعدوّ النكتة. لا يمكن إنشاء الشعر بناء على نكتة، يستطيع أن يكون ساخراً او هازئاً أو عبثيّاً ولكن ليس صاحب نكت «كنجيب حنكش». لا يمكن الإستناد إلى نهفة لإنشاء قصيدة. القصيدة تحتوي على الطفولة وهناك فرق بين الطفولة والبراءة والسذاجة، التي هي رائعة في الكتابة والفن، وبين من يسعى لإضحاك مستمعيه. هذا الشيء لا ينتج كتابة ولا فنّاً بل «سهرة» حول النارجيلة ليس أكثر.

النقد الأدبي:

■ برأيك هل لدينا نقد صريح ؟
لا يوجد، فالمشكلة تكمن في غياب النقد. لكنني لا أريد أن أبالغ إذ أن هناك نقاد جديّون وهم أساتذة جامعيون ممتازون، لكنهم وللأسف منهمكون بالتدريس والإشراف على أطروحات طلّابهم، وهم نادراً ما يكتبون. بعضهم يعدّ من النخبة إلى درجة أنك لا تصدقين أنهم موجودون في بلادنا سواء في لبنان أو سوريا أو العراق أو في مصر . الحقيقة أن هناك نخبة عظيمة جداً وقد أتيح لي أن اقرأ بعض ما كتبوه في مجلّات متخصّصة وأتعرّف إلى أصدقاء منهم. حرام أن يظلّ هؤلاء مدفونون في التعليم أو الصحافة، فالمواهب الخلاّقة يجب أن لا تحصر بوظيفة. ولكن ليس كل النقّاد دائماً منهجيين ومرجعيين، فمثلاً على ذلك سانت بوف في القرن التاسع عشر، الذي كان يكرّس من يمدحه وينهي على من ينتقده ويهاجمه، وحتى لو كان أحياناً على باطل وليس على حق. فسانت بوف لم يعجب ببودلير، وقد أخطأ في ذلك، مع هذا فقلّما أخطأ وقد كانت أحكامه في أكثر الأحيان صحيحة، وقد كان مرجعاً. وعندما كان يكتب عن شخص ما فهذا يعني أن هذا الشخص يستحقّ الكتابة.

■ سواء قال ما هو سلبي إو إيجابي؟
طبعاً، أما نحن فليست لدينا هذه المرجعية. عندنا نقّاد يمكن إعتبارهم في الجوهر أعظم من سانت بوف، لكنّهم لا يمارسون النقد ممارسة منهجية، أي أنّهم لا يحصون كلّ الكتب المنشورة بحيث أنهم يتركون ما لا قيمة له ويعالجون الكتب القيّمة. إنهم لا يتّخذون من هذا العمل مهنة رغم أنه كذلك.

■ ألا تعتقد أن السبب يعود إلى الصداقات القائمة بين الكتّاب والنقاد والصحافيين؟
أجل، هذا ما لا بد منه. حتى سانت بوف كان كذلك. هذه طبيعة البشر، فالعلاقات الشخصية تمارس دورها ولا يستطيع الشخص أن يعيش في صومعة. ولكن الناقد الحقيقي لا يتجاوز حدوداً معينة من المجاملة. في بداية القرن العشرين وفي القرن التاسع عشر كان لدينا نقّاد عظماء في لبنان والعالم العربي. إبراهيم اليازجي كان ناقداً مهما جداً، وبطرس البستاني وأحمد فارس الشدياق، كان لدينا سوابق في العصور العباسية والأموية، الجرجاني كان ناقداً عظيماً. العربي يعتبر ناقداً، لكن تفتّت الدول العربية وانقسامها أثرا في العلاقات من جهة، ومن جهة أخرى أصبحت العلاقات بين الناس شخصيّة وليست موضوعيّة، وانتفَت مهنيّة النقد إلا في الجامعات حيث يمارس الأساتذة هذا الأمر برسولية رائعة.

■ من المعروف أنّك ناقد إضافة إلى كونك صحافياً وشاعراً.
لقد جنّت عليّ مجلة «شعر» حيثن بدأت أكتب كناقد. أتذكر حين طلب مني يوسف الخال رحمه الله قبل صدور العدد الأوّل أن أكتب شعراً فقلت له: لا أكتب شعراً، فضحك وقال: كيف هذا وبالأمس قرأت لك في مجلة «الأديب» قصيدة. وبالفعل كان ألبير أديب رحمه الله قد نشر لي قصيدة.
كانت مجلة «شعر» مختصّة بالشعر فقط، وكان يكتب فيها شعراء كبار كأدونيس ويوسف الخال وميشال طراد وجورج صيدح وبدر شاكر السيّاب وعبد الوهّاب البيّاتي ونزار قباني، كنت متهيّباً منهم، فأين مقامي بينهم، لذا أجبته بالنفي: «لديّ شعر ولا أريد أن أنشره». فقال لي: إذاً هيّئه للعدد الثاني. صدر العدد الأوّل بدوني، وحين حان وقت صدور العدد الثّاني، عرض عليّ يوسف الخال أن يضمّني إلى هيئة التحرير فعارضت الفكرة و طلبت منه أن يعطيني كتباً لأقدّم نقداً لها.

■ ولكنّك من مؤسّسي مجلة «شعر»؟
نعم أنا من مؤسّسيها، ولكنّي كنت متوارٍ عن العدد الأوّل كناشر وعملت في الإدارة، وعند صدور العدد الثاني كتبت نقداً تناول شعراء عرب من كل البلدان العربية. واستمرّيت في كتابة النقد في عدّة أعداد. ومع اقتراب موعد صدور العدد الثالث أصرّ يوسف الخال على الشعر. هكذا تورّطت في هذا الأمر ولم ألبث أن نشرت المجموعة الأولى التي لا أحبّ أن أسمّيها ديواناً، وحينها خضت معركة قصيدة النثر والشعر الحديث مع أصدقاءنا الآخرين.

■ هل حدث ذات مرة أن «هزّك» نصّ كتبه أحدهم؟
كثيراً ما يحدث هذا الأمر، عباس بيضون «يهزّني» كثيراً، فهو يمتلك شجاعة لا أمتلكها وأحسده عليها، كما يمتلك وعياً مفترساً وحقلاً يهتمّ به، وأنا أعجز عن دخوله: الأدب الإجتماعي السياسي. أنا لا أجيد هذا النّوع من الكتابة، وأشعر بنقص يملؤه شخص كعباس لأنه يجمع هذا الوعي الإجتماعي السياسي التاريخي الموضوعي، ويجمع إحساس الشاعر ورؤياه وهذا شيء عظيم جدّاً. وعبده وازن أيضاً أحبّ كثيراً ما يكتب، وشوقي بزيع، أنا أعجب إلى حدّ «الشهقة» بكتاباته الشعرية الموزونة والنثرية فهو متمكّن من لغته، بحيث أنه يتصيّد العبارة ويصيب بذكاء مطلق، وعنده إحساس نقدي، فالشاعر عندما يكون ناقداً هو أهم ناقد، وشوقي لديه الميّزتين: شاعر كبير وناقد عظيم. حتى أنك تحبين النص الذي يتحدّث عنه وهذا هو الناقد، إذ يجعلك تتبنّين شيئاً لا تعرفينه من خلال نقده لهذا الشيء، أو ترفضين شيئاً لا تعرفينه من خلال هذا النقد.

■ أخيراً، أريد أن تعطيني المعنى الأوّل الذي يخطر لك عند سماع هذه الكلمات:

■ ليل:
الشيء الذي أنتظره كلّ يوم بمنتهى الخوف.

■ ألا تنام في الليل ؟
أبداً، هو الشبح الذي يرعبني لذا أرافقه بطوله كي يضمحلّ وطالما أنّه ليل فأنا بانتظاره، ومن ينتظر الآخر لا أدري.

■ النهار:
بشع ويعيش في داخلي، الليل والنهار يقيمان فيّ. الليل كائن موجود أما النهار فتصحبه الضجّة، والغبار، والمازوت، والبنزين، والشارع يكون جميلاً أثناء النهار لمرور الصبايا الجميلات فيه وخصلات شعرهن التي يتلاعب بها الهواء و «التنورة» التي تتمايل، ويشعرن بعيون تحدق بهنّ. هذا المنظر يحيي النهار ولا يكون في الليل حيث يخرجن منتعلات حذاء عالياً وبصحبتهن أزواجهن أو أصحابهن.

■ الجسد:
ليس الجسد بل الجمال. الجسد قبيح ما لم يصبح خيالاً وجزءاً من المخيّلة، عندها يعاد خلقه وهكذا نكون قد عدنا إلى الشعر. فالشعر إعادة خلق المخلوق والمرأة كائن مثل الرجل لها مشاكلها، وحاجاتها البدنيّة فهي ليست جميلة إذا لم يبدعها الخيال ولكنها أكثر من يعطي الخيال المجال لإعادة الخلق، أكثر من أي شيء في الطبيعة. مهما تغزّل الشاعر بالقمر لا يستطيع إعادة خلقه، لا الشمس ولا القمر ولا النهر ولا البحر كلّهم تنتهي بهم الأفكار. أما المرأة فلا تنتهي لأنها تجدّد في الإنسان كالحب.

■ هل تحب جسد المرأة؟
أحبّ ما توحيه لي ويتجاوزها، لحسن الحظ يتجاوزها ويتجاوز جسدي لكنّه لا يتجاوز خيالي وحلمي. الإنسان غير موجود في الواقع لأجل الواقع: الحمّام وعالمه، والمطبخ وعالم الطبخ، والكلام الذي نتبادله والشتائم التي نتبادلها والضرب الذي نمارسه، والملابس والصحيفة والإذاعة والتّلفاز، هذه الأمور لا يحيا الإنسان من أجلها.

■ هل نعيش فقط من أجل الحلم؟
طبعاً.

■ يد:
القلم.

■ الرسولة بمن تذكّرك؟
إنّها كائن خرافي يستطيع من حين إلى حين أن يتجسّد في الواقع.

■ شكراً لك أنسي الحاج على هذا الحوار الحقيقيّ والشامل.
الشكر لك لوركا لأنك طلّعت مني كل هذه الذكريات والآراء.

حوار أجرته لوركا سبيتي مع الشاعر أنسي الحاج في برنامج «صوت الشعب»، عبر أثير إذاعة «صوت الشعب»، بتاريخ 24 آذار (مارس) عام 2012.