من المخيمات الفلسطينية في بيروت، رأى الفنانون بلادهم. اسماعيل شموط، وناجي العلي، وابراهيم غنام، ومصطفى الحلاج وآخرون اخترعوا فلسطين تشبههم، ولو أنها متخيلة. ثمة اختلاف جوهري بين لوحتي فناني الداخل والخارج، ليس بالنتيجة البصريّة التي حملت رموزاً مشتركة، أحياناً، بل في الرؤية السابقة على اللوحة. كان على فناني الداخل أن يرسموا ما يرونه كل يوم. تفاعلهم مع المكان كان محكوماً بعلاقة متبدّلة بسبب تغيّره الدائم. هذا ما جعلهم يتدخّلون فيه عبر حذف الجدران، وحجب السطوة الإسرائيلية على المساحات الفلسطينية. رسموا أشجار زيتون بدلاً من تلك التي كان الاحتلال يقتلعها. أما فلسطينيو الشتات، فقد اعتمدوا أحياناً على المرويات الشفهية، على القصص والذاكرة المتناقلة، وعلى الخيال الذي يعبّد الكيلومترات الطويلة مع الجغرافيا الفلسطينية. لم تستجب السوق الفنية المحلية في لبنان لهم تماماً، بل بقيت مغلقة في وجههم. لكن أعمالهم كانت تقدَّم ضمن معارض جماعيّة لـ «منظمة التحرير الفلسطينية»، وفق ما يذكر المؤرخ والفنان الفلسطيني كمال بلاطة في كتابه «الفن الفلسطيني ــ من 1850 إلى الحاضر».
«عرس الدكتور جبرا الأعرج (١٩٤٧)» لنبيل عناني (أكريليك على قماش ــ ١٠١ × ٧٥ سنتم، بإذن من نبيل عناني)

بيروت شكّلت مساحة أساسية للفن الفلسطيني في الشتات بعد النكبة والنكسة، وصولاً إلى الثمانينات وإلى جيل أحدث من الفنانين اليوم. الشهر الماضي، زار العاصمة اللبنانية أربعة من أبرز الفنانين الفلسطينيين، أولئك الذين قلّصت أعمالهم المسافة بين الفن والمقاومة اليومية، أو صنعوا انتفاضة فنية أخرى مقابل الانتفاضة الشعبية الأولى. سليمان منصور (1947)، وفيرا تماري (1945)، ونبيل عناني (1943) وتيسير بركات (1959) حضروا ندوة لافتتاح معرض «هموم الهويّة» الذي أقامته «دار النمر للثقافة والفن»، بالتعاون مع «مؤسسة الدراسات الفلسطينية». يعدّ «هموم الهويّة» الذي اختتم أخيراً، المعرض الأوّل لحركة «نحو الإبداع والتجريب» في بيروت، بعدما كانت قد أطلقت أعمالها بمعرض في القدس عام 1989، وانتقلت إلى الأردن، وإيطاليا وأميركا وألمانيا... في الندوة التي أدارها الفنان الفلسطيني عامر شوملي، استعاد الفنانون مراحل من تطوّر مسار الفن التشكيلي الفلسطيني، أبرزها الحركات الحديثة التي ظهرت خلال السبعينيات متجاوزةً الحدود التي فرضها العدو الإسرائيلي على الفنانين والفن. منعت القوانين العسكرية الإسرائيلية المناشير بما فيها اللوحات، وأغلقت الغاليريهات والمعارض، وصادرت الأعمال وسجنت الفنانين. أولى تلك التحركات الفلسطينية الفعلية لمواجهة الاحتلال تمثّلت في إطلاق «رابطة الفنانين التشكيليين الفلسطينيين»، التي اندرجت ضمن همّ مأسسة الفن الفلسطيني كما قال سليمان منصور. تضييق الاحتلال ظلّ مستمرّاً، بينما استطاعت الرابطة أن تؤسس فروعاً لها في البيرة وغزة والخليل، وأن تعرض أعمالها في مختلف الفضاءات والمراكز العامّة بسبب غياب غاليريهات ومؤسسات فنية.

«الاجتياح» لتيسير بركات (أكريليك ومواد متنوعة على قماش ــ ١٢٢ × ١٦٢ سنتم ــ ٢٠١١، بإذن من تيسير بركات)

بعدها، أطلقت الرابطة «مركز الواسطي» في القدس الذي احتضن مجموعة من المعارض لفناني الداخل والشتات مثل فلاديمير تماري وليلى الشوا وكمال بلاطة... التوثيق للفن الفلسطيني في الداخل والخارج، كان الخطوة التالية. استعاد الفنانون تلك الفترة خلال الندوة، حين كانت الفنون التشكيلية مشغولة بهموم الهويّة الفلسطينية وتظهيرها، وهو ما يمكن رؤيته من خلال كروم الزيتون والبرتقال، والفلاحات الفلسطينيات بعباءاتهن المطرّزة... شجر البرتقال شكّل رمزيّة للجزء الساحلي الذي احتُل بعد سنة 1948، فيما يرمز الزيتون للجزء الذي صودر بعد نكسة 1967، وفق منصور. رغم تنوّع الرمزيات في اللوحة الفلسطينية، بقي الاحتلال يرى الأرض أرضاً، والفن فناً، فمنع اختصاصي الهندسة الزراعية والفن عن الجامعات. حين انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في نهاية الثمانينيات، كان لا بد من إعادة النظر في دور الفن أمام التغيّر الذي طرأ على واقع مقاومة الاحتلال. جاءت حركة «نحو التجريب والإبداع» ضمن هذا السياق على أيدي منصور وعناني وتماري وبركات. أعادوا ابتكار الأرض الفلسطينية التي كانت قد احتلّت الأعمال الفنية منذ ما قبل النكبة عام 1948. في القدس وبيت لحم والناصرة، كانت اللوحات محمّلة بالسرديات الدينية ورموزها، منها قبة الصخرة والأيقونات المسيحية، والفتوحات مثل دخول صلاح الدين الأيوبي إلى القدس بعد حربه من الصليبيين، وعمر بن الخطاب، حتى في الأعمال الاستشراقية كما قال عناني. تحدّث الأخير عن مفهوم الرمز وعلاقته بالهوية وبالشكل والمضمون مثل شجر الزيتون وحقولها التي يرى فيها منظوراً جمالياً، بالإضافة إلى المصدر الاقتصادي الذي تشكّله بالنسبة إلى الفلسطينيين قبل أن تقضي عليها الجرافات الإسرائيلية.

«فجر» لفيرا تماري (قماش وأصباغ قماش وأقلام تلوين مائية فلسطين ١١٢ × ٤٨ سنتم _ 2019، بإذن من فيرا تماري

من ناحيتها، كلّما رأت فيرا تماري أشجار الزيتون تقتطع من الحقول، كانت تشعر بالحاجة إلى خلقها مجدّداً على اللوحة التي تداخلت فيها الجذوع بالجسم الإنساني. صحيح أنّ الرمزيات بقيت متشابهة مع اللوحات التي سبقت فترة الانتفاضة، إلا أن فناني حركة «نحو التجريب والإبداع» سعوا إلى ابتكار أساليب حداثية جديدة. تركت الانتفاضة تغييراً جذرياً في لوحاتهم، وفي مسار الفن الفلسطيني بشكل عام. الدعوة التي وجّهتها القيادة الوطنية الموحّدة للانتفاضة، بمقاطعة المنتوجات الإسرائيلية، شقّت لهم مسارات فنية جديدة. بطريقة أو بأخرى، لم تكن تلك المواد التي طرأت على اللوحة إلا مستخرجة من الأراضي التي رسموها ونقلوها. أدخلوا إليها مواد محليّة وطبيعية مثل الطين والحنة والقش والجلد والخشب... في معرض «هموم الهويّة»، الذي يأتي ضمن التعاون بين «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» و«دار النمر» بعد تجارب سابقة مماثلة مثل معرض «الكلمة الرمز: فلسطين» السنة الماضية، رأينا لوحات للفنانين الأربعة تعود إلى مجموعاتهم الشخصية ومجموعة «دار النمر» وبعض المجموعات الخاصّة الموجودة في لبنان.
لم تكن المواد التي طرأت على اللوحة إلا مواد مستخرجة من الأراضي التي رسموها دائماً

ليست الأعمال المعروضة بذاتها هي الحدث، إذ أنها لا تكاد تغطي إلا مراحل بسيطة من تجاربهم الفنية. لكن المعرض، بأعماله القليلة التي نراها، كافٍ لأن يوقظ الحدود مجدّداً. لأن يذكّرنا بالجدران التي تفصلنا عن فلسطين (أوقف الفنانون سليمان منصور ونبيل عناني في مطار بيروت)، حيث كانت هناك صعوبات في نقل اللوحات إلى بيروت. غابت أعمال تلك الفترة عن المعرض، لكنّ فلاحات سليمان منصور حضرن بعباءاتهن المطرّزة وسط حقول البرتقال ضمن لوحات من فترة الثمانينيات، وأجساد/ جذوع فيرا تماري المصنوعة من القماش والأصباغ والألوان المائيّة في مجموعة من أحدث أعمالها (2018 و2019). كذلك، عرضت أحدث أعمال تيسير بركات مثل «العرس والاجتياح» التي تتصدرّ مشهد اللوحة فيه دبابات أمام مساحة مجرّدة ومكسّرة، إلى جانب لوحات نبيل عناني وزخرفاته على الخشب وبورتريهاته لشخصيات فلسطينية.