«يسقط بس!» كان هذا هو الشعار السوداني الشهير على مواقع التواصل الاجتماعي، باستخدام هاشتاغ «يسقط بس» جامعاً الحشود افتراضياً وواقعياً للالتفاف حول فكرته، وجميل أن نسمع ببزوغ هاشتاغ جديد عقب إعلان المجلس العسكري تولي إدارة البلاد: «لم تسقط بعد». أتمنى من كل قلبي ووجداني ألا يكون الشعار السوداني الذي ارتفع في كل أرجاء السودان وخارجه كافياً للرضا التام؛ فلا تراجع حتى زوال هذا الصنم العسكري القابع على كبد السودان منذ عقود طويلة.وأرجو ألا تكون الغاية هي فقط «بس»، فكما رأينا تبدلت السحنة العسكرية بسحنة عسكرية جديدة، كما كتبت بالأمس «الوضع في السودان انتقل من نظام عسكري أحمر إلى نظام عسكري أصفر إلى نظام عسكري بُنيّ. والألوان لا ترمز لأي شيء، لكن النظام العسكري لم يتغير، التشبث بالحكم ما زال قائماً، الوعود تتكرر بالكلمات نفسها واللهجة والحمأة نفسها!».
«حوار عاطفي» للسوداني صلاح المر (أكريليك على كانفاس ــ 90×90 سنتم ــ 2017)

التغيير فقط في الشكل؛ فمن يرجع لكلام البشير في خطبته الأولى للشعب، يرى أنه قالها واقفاً، بينما ابن عوف قال الكلام نفسه وهو جالس على كرسي وثير، وبقيت البذلة العسكرية ذاتها والرمز السلطوي ذاته، وتُليت الشعارات الرنانة ثم القرارات المبدئية التي ظاهرها رحمة وباطنها البقاء إلى ما شاء الله، وحتى بعد ظهور النسخة الثالثة لعبد الفتاح البرهان في «المشهد الثاني»، كان الزي العسكري هو المتصدر للكلام والأمر والقرار؛ فما أشبه الليلة بالبارحة!
الذهنية العسكرية ذهنية صارمة متزمتة، وهي سلطة نظامية تقوم على نهج صريح ذي عُملة وجه منها أمر والآخر طاعة، ولا يوجد لها غير هذه العملة في التعامل مع الآخرين. أما الجماعة الثانية غير الرسمية والمنظمة بجدارة بعد الجيش، هي جماعة التدين السياسي، فمنتظرة دوماً سقوط الضحية وبعدها ستكثر السكاكين! هناك دائماً من يعملون في الخفاء ولهم ترتيباتهم وتنظيمهم للقفز على كرسي السلطة، فأوضاع بلادنا الكارثية لم تكوِّن أي كوادر مدنية حرة رسمية منظمة تعمل بالتشارك. وبقي السودان ممزقاً في عرقيات، وقد تمزق قبل سنوات إلى بلدين وإلى أطراف منسية بائسة. هكذا فضّلت السلطة خنق العدالة في التشاور وهتك الحرية لأي تنظيم سياسي معارض.
لا يمكن الآن إنكار دور «تجمع المهنيين السودانيين» الذي شكّل حراكاً مهماً بكل جلد على مدى زمن طويل، صامداً ومنظماً تحريك التجمعات، رغم كونه خارج أي تحزبات رسمية أو نقابات وطنية، فائزاً بثقة الجماهير لقيادة المعارضة من أجل إيجاد بديل للنقابات الرسمية التي يسيطر عليها النظام، وقد نجح في أن يكون أداة فاعلة لتنفيذ العصيان المدني والإضراب كوسيلة سلمية للتغيير السياسي.
أما المطالبة بتسليم البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية، فسوف تتعقد أكثر، والأزمة الأزلية هي في أصل دولنا السلطوية التي ليس فيها عدالة حقيقية تسمح بالمحاسبة الشفافة الواضحة. لذلك يقع الديكتاتوريون عند سقوطهم تحت براثن ما يسمّى بالعدالة الدولية والبوليس الجنائي من خارج البلاد.
كما رأينا تبدلت السحنة العسكرية بسحنة عسكرية جديدة


قالت المصادر فور سقوط البشير إن أميركا ومعها خمس دول أوروبية هي بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا وبولندا قد طلبت فوراً عقد جلسة مغلقة، بينما بدت روسيا أكثر تعقّلاً وأعرب متحدث باسم الرئاسة الروسية، بأن ما يجري في السودان هو «شأن داخلي». هذه الدول في حقيقة الأمر لا تبحث عن استقرار السودان من أجل عيون السودان، بل لديها مصالح وأشغال في السودان لو تعطلت لخسرت الكثير مادياً و«هيْمنيّاً» على المدى الطويل.
الحديث عن «اقتلاع» البشير و«وضعه في مكان آمن» يلخص الحال. كلمة اقتلاع ستهدئ النفوس كأنها تضع ثأراً للناس لكنه قد يكون ثأراً وهمياً. أما القوس الثاني من الكلام، فهو يشي بلا شك بوضع السلطة في مكان آمن إلى حين التصرف المناسب. الثورة كانت ستقوم آجلاً أو عاجلاً، لكن الديكتاتور دائماً يعظ وأبداً لا يتعظ.
في حوار لي مع جريدة «الأهرام» قبل أربعة أعوام وثلاثة أشهر بالتحديد، سألني المحاور سؤالين: الأول كان: «كيف تقيم الأوضاع في السودان؟». قلت له حرفياً التالي: «الوضع في السودان مربك ومرتبك منذ سنوات. السودان منعزل برغم التشدق بغير ذلك، ومتشرذم بالقطيعة الجغرافية والقطيعة القبلية، والسلطة التي تحكم لسنوات طويلة وأساسها عسكري يبرز التدين لا الدين، سلطة تضيع منها الحكمة والرشد مقابل التسلط والجبروت العسكري والبوليسي. سلطة تعتقد أن حل جميع المشكلات يكمن في المدفع والدبابة أو السجن ونفي الرأي الآخر!». والسؤال الثاني كان: «هل السودان مقبل على التأثر بالثورات العربية؟». وقلت: «بالتأكيد السودان مقبل على ثورة لا بد منها، حتى لو اختلف شكلها عن ثورات الربيع العربي؛ فالشعب مسحوق ممزق والسلطة إذا كانت على دراية فهذه مصيبة، وإذا لم تدر فالمصيبة أعظم. الإصلاحات المطلوبة تحتاج لتغييرات ليس للحكومة الحالية مقدرة على تحقيقها. حين تعتبر السلطة القائمة أن الرأي الآخر مجرد معارضة لا تعمل إلا على إسقاطها، وليس استكمالاً نحو بناء دولة ديمقراطية؛ فهي بهذا تسير لزوال مؤكد حتى بعد الانجرار إلى دائرة العنف.
ما أقوله هنا على سبيل المثال يعتبره البعض منهم عمالة أو خيانة أو تخريباً وليس رأياً يستحق الحوار، وهذه سمة لنهاية مجد جنرالات الدنيا وجنرالات الدين في كل العالم!». وأعيد قولي بالأمس: استمر أيها الشعب السوداني النبيل حتى ترضى؛ فلا حُسن نية للثورة مع المتسلطين!

* روائي وشاعر ولد لأب سوداني مهاجر في مصر التي نشأ فيها قبل أن يهاجر إلى النمسا حيث يعيش ويعمل الآن