في التسعينيات، سافر مصورون وفنانون إلى بلدان عالمية للبحث عن صور فوتوغرافية ومجموعات حيث تقيم الجاليات العربية واللبنانية تحديداً. كانت تلك المرحلة الأولى في بناء أرشيف «المؤسّسة العربيّة للصورة» الذي وصل إلى 500 ألف «غرض صوري». اليوم، تطلق إحدى أكبر مؤسسات الأرشيف البصري في العالم العربي منصّتها الإلكترونية بالتزامن مع عيدها الثاني والعشرين. ليست المنصّة وحدها الحدث بذاته. يتجاوز المنظّمون فكرة عرض المجموعات لديهم، إلى إعادة التفكير في مفهوم الأرشيف، وأدوات الحفظ، وكيفية خلق نقاشات سياسية وفنية وتاريخية معاصرة حول الصور وممارسات الأرشفة، أمام التحوّلات الرقمية السريعة. أسئلة كثيرة تثيرها هذه التجربة الجديدة للمؤسسة: ماذا يعني أن تملك مؤسسة ما اليوم مجموعات فوتوغرافية للمنطقة منذ ستينيات القرن الثامن عشر إلى اليوم؟ كيف يمكن تفعيلها عبر الفضاء الرقمي؟ وكيف يمكن قراءة هذه الوثائق بوصفها مواد حية لا قطعاً من الماضي؟
حفلة عشاء، سوريا، حوالى ١٩٥٠-١٩٦٠، طبعة تظهير بالجيلاتين. مجموعة هيفا كوكاش

تحوي «المؤسسة العربية للصورة» 500 ألف وثيقة بصرية من صور، وفيديوهات، ونيغاتيفات، وأفلام وأغراض من استديوهات فوتوغرافية ووثائق أخرى. جغرافياً، تجاوزت المجموعة حدود لبنان، لتشمل المنطقة العربية، وشمال أفريقيا وبلدان الشتات العربي منذ ستينيات القرن الثامن عشر إلى اليوم. مع ذلك، لا يمكن فصل هذه التجربة عن مرحلة ما بعد الحرب. إذ إنها لم تبصر النور ربّما إلا بفضل أسئلة تلك المرحلة، ضمن التوجّه الملحّ للفنانين والباحثين نحو الذاكرة. ذاكرة الحرب تحديداً. لعل الصورة الفوتوغرافية كانت المجال الأمثل للعودة إلى التاريخ وفهمه، بصفتها وثيقة منه، إلى جانب قدرتها على توالد المعلومات والمعاني إلى ما لا نهاية مع مرور الزمن. أدى الأرشيف البصري والمكتوب، بما يحويه من أحداث تاريخية بين الواقع والمتخيل دوراً أساسياً في هذه التجارب الفنية، التي أقامت قطيعتها مع تجارب الماضي، لتعود إليه بطريقتها. المؤسسة كانت واحدة من هذه التجارب الجماعية الفردية لدى تأسيسها عام 1997. تبلغ إحدى أكبر مؤسسات الأرشيف في العالم العربي والمنطقة 22 عاماً هذه السنة. لكن الآن لم يعد الأرشيف محكوماً بالماضي تماماً، ولا بالحرب، بل صار وثيقة حيّة ومفتوحة أمام احتمالات ونقاشات جديدة. لم تتوقّف المؤسسة عن مساءلة مفاهيم الأرشيف والوثائق والصور، من خلال دراستها.

فريد الأطرش في منزله، فان ليو، القاهرة، مصر، ١٩٥٩. مجموعة فان ليو

«اليوم لا تقتصر مهمّة الصورة على تاريخ معين، بل على ممارسات تصويرية مختلفة، وبلدان وجماعات...»، يخبرنا مدير المؤسسة مارك معركش وهو يصف مهمّتها الجديدة التي أعيدت صياغتها أخيراً. سنوات طويلة منذ أطلق المصور اللبناني فؤاد خوري، والفنان أكرم زعتري، والمصور سامر معضاد المؤسسة للحفاظ على الصور في العالم العربي وفهم ممارسات التصوير فيه. إلى جانب الفنانتين المصرية لارا بلدي والمغربية إيتو برادة، سافر هؤلاء إلى الشرق الأوسط، وإلى بلدان أفريقيا وأميركا اللاتينية مثل مصر والمكسيك والسنغال والمغرب والعراق ومدن الإسكندرية والقاهرة ودمشق وحلب... السنوات الأولى من عمر المؤسسة، اقتصرت على بناء الأرشيف ومراكمته وحفظه.

صورة دعائية تظهر تعديلات أرادها المصور، ألفريدو يزبك، المكسيك، غير مؤرخة. مجموعة ألفريدو يزبك

وجوه وأمكنة وأساليب فوتوغرافية مختلفة كانت تتكدّس في مركز المؤسسة في الأشرفية الذي لم يكن مجهزاً حينها، أبرزها الممارسات المخضرمة لمصورين صحافيين وفنانين وأصحاب استديوهات، بالإضافة إلى صور هاوية تتمثّل في المجموعات الخاصة والألبومات العائلية. بقيت في صناديق ولم تخرج منها إلا لدى انتقال المبنى إلى ستاركو حيث جهّزت أوّل غرفة مبرّدة، بالإضافة إلى استقدام مواد أرشفة بهدف الحفاظ على المجموعات وحمايتها. «هذه الغرفة كانت الأولى عربياً، مع العلم أنها كانت تفتقر إلى التكنولوجيا الأصلية».

بورتريه امرأة، سليم أبو عز الدين، مصر، القرن العشرون، تحويل رقمي لنيغاتيف على زجاج. مجموعة فيصل أبو عز الدين

إذ إن المؤسسة تعاونت مع شركة تكييف لتركيب نظام خاص (يتحكّم بالحرارة والرطوبة) لا يزال يستخدم حتى اليوم. محطّات كثيرة مرّت فيها المؤسسة التي تخلّت منذ البداية عن حصر مهامها بمركز أرشيف بحت، مقابل تفعيله ومدّ سياقات فنية له، عبر معارض ولقاءات وأبحاث، أبرزها معارض أكرم زعتري، ووليد رعد، وكتابات جلال توفيق... بقيت المجموعات تصل حتى عام 2011، إلى حين انتقالها إلى الجميزة، أي مقرّها الحالي، الذي يحوي قسم الحفظ والقسم الرقمي، بالإضافة إلى مكتبة تضمّ أكثر من 2400 كتاب متخصص بالتصوير وممارسات الأرشفة، وأبحاث عن المنطقة. ماذا عن مستقبل هذا الأرشيف؟ يخبرنا معركش أن المؤسسة التي انضمت إليها كليمانس كوتار هاشم عام 2016، كمديرة مساعدة، شهدت تجديد في الأهداف والمهمات. لم تعد المؤسسة قادرة على استقبال مجموعات أخرى، لذلك تطمح إلى العمل على التحكم بالمجموعات التي تريدها، بالاعتماد على المواضيع والأجزاء والحقبات والمجتمعات التي تغيب عنها. أما الخطوة الأبرز، فتتمثّل بالمنصة الرقمية التي تطلق اليوم، بدعم من «آفاق» و«مؤسسة فورد» والسفارة النرويجية في لبنان.

المنصّة الرقميّة
مع الوقت يكتسب الأرشيف معاني جديدة من المكان أو الفضاء الذي يحويه. يعود هذا إلى أول أشكال الأرشيفات في المدن الإغريقية التي كانت تفرض عزل الأرشيف العام في أماكن خاصة، بعيداً عن أعين الناس. إشكالية بدّدها العصر الرقمي الذي جعل الحدود بين الخاص والعام أكثر ضبابية، بينما عبث بدور الأرشيف ومفهومه في وقت لم يعد يمكن فيه اللحاق بسرعة تراكمه بوتيرة تجعل من حيوات الناس الخاصّة، الوثائق المستقبلية العامة.

بورتريه امرأة مأخوذ داخل الاستوديو، ١٩٥٠-١٩٦٠، نيغاتيف صبغي على أسيتات السليولوز. مجموعة أرغش

بعد إغلاق المؤسسة لحوالى ثلاث سنوات، تأتي المنصة الرقمية لتشريع هذه الصور أمام الناس مجدداً «على هذا الأساس وضعنا برامج متعددة وأدوات جديدة بهدف الوصول إلى جمهور أوسع، وبهدف فهم دور المؤسسة». لكن ما التوجّه الذي ينبغي للمؤسسات الأرشيفية اتباعه لرقمنة وثائقها، خصوصاً إذا كانت ذات طبيعة مادية كالصور مثلاً؟ الخطوة الأولى لرقمنة أرشيف المؤسسة بدأت عام 1997. تبعتها رقمنة مجموعات كبيرة من الصور بين 2009 حتى 2016، لكن ذلك تمّ بطريقة كلاسيكية، وفق معركش، من خلال قصّ الصورة حسب إطارها، أي الاكتفاء بما كانت تظهره عدسات المصوّرين. كان على المؤسسة أن تبحث عن أساليب جديدة للانتقال بمجموعاتها إلى الفضاء الرقمي، مع اتباعها تسمية «الغرض الصوري» التي وسّعت من محتوى الصورة. هكذا صارت تتسع لدلائل وعلامات أخرى، مثل المعلومات والعبارات التي يكتبها أصحاب المجموعات على الوجه الخلفي مثلاً، والتحولات المادية والتفاعلات الكيميائية التي تصيب هيكلها مع الوقت... يخبرنا معركش أن الصورة تؤخذ كما هي الآن بكافة أوجهها وجوانبها. إذ يتم تصوير النيغاتيف نفسه، قبل تظهيره، بالإضافة إلى تركيز الأضرار والتدخلات البشرية فيها، بهدف استخراج الكمية الأكبر من المعلومات.

طريق المنارة، أوجين كوتار، بيروت، لبنان، ١٩١٤، صورة مجسمة زجاجية. مجموعة أوجين كوتار

كل هذا سيضاف إلى المعلومات التوثيقية عن المجموعات وطريقة وصولها إلى المؤسسة، وتواريخها وممارسات مصوريها التي سترفق مع المعروضات باللغتين الإنكليزية والعربية. أسلوب جديد يحيي الجانب المادّي للصورة داخل الفضاء الرقمي الذي كان أول ما فعله التخلي عن جسمها الملموس. في مرحلتها الأولى، ستحوي المنصة الرقمية 25 ألفاً من هذه الصور لم تعرض من قبل، وتشكّل 5% من مجموعات المؤسسة التي تتعدى 300 مجموعة. هناك أيضاً 35 ألف صورة، ستحمّل على مراحل لاحقة، فيما يسعى القائمون إلى رقمنة 15 ألف غرض سنوياً، بهدف إتاحة كل المجموعات للجمهور. هكذا حرص القائمون على تمثيل كل مجموعة من خلال 3 أغراض صورية، ستعرض ضمن قسم «المجموعات» التي تتنوّع بين أساليب التصوير المختلفة، وموادها مثل النيغاتيف، والزجاج، والمطبوعات... أمام كل هذه التمايزات، بالإضافة إلى المناطق والمواضيع والوجوه التي تحويها الصور، كيف ستتم أرشفتها؟ يشرح مارك أن تقسيم المجموعات على المنصّة يخضع للتقسيم المادي للصور، والذي يعتمد وفق عمل المؤسسة، على الطريقة التي وصلت فيها إليها. إلا أن أدوات البحث على الإنترنت ستتيح للزائر الوصول إلى الصور من خلال كلمات مفتاحية أيضاً (تواريخ، مواد، مناطق، مواضيع…).

تركيب صوري، زحلة، لبنان، ١٩٣٦، طبعة تظهير بالجيلاتين. مجموعة ألين مانوكيان

ضمن نظرة المؤسسة إلى مفهوم الأرشفة، وضرورة إحيائه، تحوي المنصّة قسم «المختبر»، الذي يدعو الفنانين والباحثين والكتاب وطلاب الجامعات إلى إقامات عبر الإنترنت، من خلال اختيار صورة أو مجموعة منها كركيزة بحثية أو فنية أو كتابية. «نسعى إلى استخراج الأرشيف إلى نقاشات معاصرة»، يقول معركش، حيث ستتيح هذه الخطوة كتابة سير للصور مبنية على استخدامات الزوّار الافتراضيين وتفاعلهم معها. أما القسمان الأخيران، فهما «اكتشف» المخصص لنشاطات المؤسسة وإصداراتها ومعارضها، بالإضافة إلى engage حول كيفية التواصل مع المؤسسة، والوصول إلى المحفوظات والمجموعات أو تقديمها لها. الأهم من هذا كله أن المشاركة مفتوحة أمام كل الناس. إذ سيكون متاحاً لهم تقديم معلومات عن الصور، إن أرادوا، عبر نوافذ محددة لا تتبناها المؤسسة قبل التأكد منها.

ممارسات الأرشفة
من خلال مبادرة MEPPI بالتعاون مع «معهد غيتي للحفظ»، و«متحف متروبوليتان»، وجامعة Delaware، وحوالى 112 من مؤسسات الأرشفة في الشرق الأوسط، بدأت «المؤسسة العربية للصورة» بترجمة مصادر متخصصة في الأرشيف والصورة من الإنكليزية والفرنسية إلى العربية، وخلق أدواتها في الحفظ، وبناء حقل معجمي للكلمات التقنية باللغة العربية. في السنوات الأخيرة، أحدثت المؤسسة تعديلات على المصطلحات، وأعادت النظر في طرق الأرشفة، بالتزامن مع التغيرات الرقمية. تسمية «الغرض الصوري» فرضت تغييراً في مفهوم الصورة، من خلال نظرة شاملة لا تقف عند الظاهر منها.

نزهة، المغرب، غير مؤرخة، طبعة تظهير بالجيلاتين. مجموعة مامي برغاش

من ناحية ثانية، يخبرنا معركش، أن المؤسسة لن تكون مركزاً أرشيفياً فحسب، إنما مكان يطرح أسئلة نقدية جديدة: ماذا يعني أن تمتلك مؤسسة ما أرشيفاً هائلاً اليوم؟ كيف يمكن تفعيله؟ هل على المؤسسات استيراد الممارسات الأرشيفية من الخارج وفق مقاييس معترف بها عالمياً؟ هكذا تنصرف المؤسسة إلى البحث عن أدوات حفظ خاصة، تناسب المنطقة والمعلومات التي يحويها الأرشيف. في طريقتها لحفظ الصور، لا تجري المؤسسة أي تدخل أو تعديل على الغرض. تكتفي بتنظيفها، قبل وضعها في غرف مبرّدة ولا يتم إخراجها إلا من أجل رقمنتها، أو في حال مشاركتها ضمن معارض أو مناسبات.
تحتوي على 25 ألف صورة لم تعرض من قبل، وتشكّل 5% من مجموعات المؤسسة

كذلك، ستعلن المنصّة عن مواعيد الزيارات للعامّة، التي ستكون مخصصة مرتين في الأسبوع بسبب قلّة عدد العاملين في المؤسسة الذين يصل إلى ثمانية فقط. «اخترنا هوية للمؤسسة تجمع ما بين ممارسات الأرشفة وتحليلها ونقدها وما بين الممارسات الفنية الحالية التي تسمح أن نستخرج حوارية معاصرة وفهم الحاضر». يأخذ القائمون في الاعتبار كل ما يأتي من مجموعات الصور خلال رحلتها ووصولها إلى المؤسسة: «لم تعد أولويتنا تقتصر على الحفاظ على ما يُرى من الغرض الصوري. قد تختلف الأولوية بين غرض وآخر. أحياناً يكون الاهتمام بممارسة المصور، وأحياناً بالحقبة الزمنية... خصوصاً أن أحد أهم أهدافنا هو فهم ممارسات التصوير في المنطقة العربية وتطوّرها منذ اكتشاف تقنيات التصوير الأولى حتى اليوم». هنا لا يمكن الحديث عن تاريخ واحد للمنطقة العربية، إذ أن المنصة «تدعو إلى قراءة متنوّعة للثقافات والتواريخ المتعددة في المنطقة».

* http://www.arabimagefoundation.org/