البحث هادئ لكن السرد لشدة متانته يتسارع كما لو أنه يسابق نفسه. ينطلق وسام سعادة في «إعادة قراءة» مفارقات الطبقة العاملة الألمانية، قبل الحرب العالمية الأولى، من فكرة أساسية، لطالما أهملها الباحثون العرب الذين يقرأون تاريخ الماركسية في أوروبا: هزيمة كومونة باريس. يعتبر هذه الهزيمة، وأحوال «الثورات» الفرنسية قبلها، نقطة استدلال رئيسية، لتحديد درجة الحررة الثورية في المناخات الأوروبية آنذاك، كمدخل منهجي لقراءة أزمة الاشتراكية الديموقراطية في زمانها، عبر سيرة واحدة من رموزها التاريخية: روزا لوكسمبورغ.ملف العدد 22 من «بدايات» عموماً عن «روزا الحمراء». بعد كل شيء لا تحتاج روزا إلى تعريف. لكن ما يميّز ورقة وسام سعادة الأولى في الملف هو بناء الصورة من جديد للوصول إلى سيرة «سياسية» لروزا لوكسمبورغ، لا إلى صورة يوتوبية، بوصفها غالباً انعكاس لصورة الاشتراكية الديموقراطية الأوروبية في زمانها. ذلك أن الماركسية التي بين أيدينا ولشدة تصدعها بأوهام مريديها، لم تعد تاريخية. سيرة روزا تتقاطع مع سيرة كارل كاوتسكي ومع سيرة برنشتاين، وليست مفارقة أن تتقاطع مع سيرة لينين، وأن تتقاطع سيرهم جميعهم مع سيرة كارل ماركس نفسه. هذا ما يعرفه الجميع. لكن في النهاية التقاطعات هي تقاطعات، تفسِح مجالاً للتماهي في مواضع معينة، لكنها تترك مجالات اختلاف أيضاً. في «مفارقات الطبقة العاملة الألمانية»، يدرس سعادة مساحات التقاطع، ويصوّب النظر نحو مفترقات الخروج عن الالتقاء بين الاشتراكيين مع كارل ماركس، ويركز على دراسة حالة لوكسمبورغ.


منذ السطور الأولى، يبدو كاتب الورقة مسكوناً بفكرة ماركسية جوهرية: التغيير. ذلك أن ماركس نفسه يتذمر في «رأس المال» من استمرار الفلاسفة في تفسير العالم، بينما المهم هو تغييره. وربما يكون هذا مأخذاً جذرياً على الحركة الاشتراكية الديموقراطية نفسها، وأحد مآزقها الأساسية. فأولى الأفكار في البحث الذي أمامنا تدور حول تحديد العلاقة بين النقابات والحركة الاشتراكية في أوروبا، وتصويب النظرة التاريخية إلى الماركسية، أو «النظرات» التاريخية إليها، بحيث أنها لم تكن «فرنسية» ممثلة في اشتراكيي فرنسا، بل كان تأثيرها في ألمانيا أوضح بكثير مما هو في فرنسا. هناك حيث صُنِف الاشتراكيون كأعداء للإمبراطورية، تحديداً خلال حقبة «القوانين الاستثنائية». وينبه منذ البداية إلى الدور المشبوه لفرديناند لاسال، الذي أرخى بظلاله على مؤتمر غوتا في تجاهل السمة الطبقية للدولة، وإلى دور بسمارك نفسه في التصدي للاشتراكيين الألمان. ومن هذا المدخل المحكم، ينفذ سعادة إلى «ماركسيات» أوروبا في سياقاتها التاريخية. دور كارل كاوتسكي- الذي ستختلف معه روزا لوكسمبورغ لاحقاً - في صياغة برنامج ايرفورت أساسي هنا. ولأنه في الأساس ثمة آراء في صياغة البرنامج الشهير، بحيث ينقسم إلى نصفين، نصف بتأثير من كاوتسكي ونصف بتأثير من برنشتاين، كان يجب المرور على كل هذا، للتفسير بدرجة بديهية، ولكن للتحليل والتصويب أيضاً. فبرنامج ايرفورت رغم تأثره بالبيان الشيوعي، لم يطالب بالجمهورية. قبل ذلك، في غوتا، غاب الصراع الطبقي، لكنه في ايرفورت حضر نظرياً، ما استدعى تدخل إنجلز. وفي فترة سابقة، وتعقيباً على غوتا، الذي اتحد فيه ورثة ايزيناخ الممثلون ببيبل ليبكنخت مع اللاساليين، كان ماركس قد أعلن رفضه التوجهات الأقلوية والرهانات على بسمارك وعلى النمسا الكاثوليكية، وكان هذا واضحاً في تقريع نتائج المؤتمر. ولعدة أسباب، ومن أهمها استمرار الدفاع عن الإمبراطورية، ولد ايرفورت في موقع ملتبس ماركسياً، خاصة أن البرنامج تجاهل «التفاوت الرهيب الذي يحمي الطبيعة العسكرية للملكية البروسية وسيطرة الأرستقراطية على مفاصل الدولة».
بعد ربط منهجي لألمانيا بأحداث كومونة باريس، والمسألة الزراعية ومصادر «النزعات الإصلاحية» في الحزب، يصير الحديث عن روزا لوكسمبورغ ساطعاً. لقد لمع اسمها في الأساس عندما تصدت لبرنشتاين، وخاصة في مسألة النقابات. بالنسبة لها كان النضال النقابي يشبه النضال البرلماني، بمثابة إعداد العنصر الذاتي، وهو «الوعي الطبقي» للثورة الاشتراكية، وبهذا المعنى كانت وظيفة النقابات بالنسبة لها دفاعية دائماً. ما هو لافت، أنه وفي رسالته إلى بيبل، والتي انتقد فيها «غوتا» استنكر انجلز استنكاراً حاداً عدم الإشارة إلى تنظيم الطبقة العاملة بما هي طبقة، عن طريق النقابات، مستذكراً التجربة الباريسية، بحيث خسرت البروليتاريا معارك يومية ضدّ رأس المال. لقد طالب إنجلز بمنحها مكاناً في تنظيم الحزب، وهذا ما ستعارضه روزا لوكسمبورغ. وإذ نتحدث عن مفارقات، فلا تعود «شطحات» روزا حدثاً بحد ذاته (أفرد وسام سعادة في الملف نفسه ورقة مفصلة عن «تراكم رأس المال وإشكالية «إعادة الإنتاج»: من ماركس إلى لوكسمبورغ)، فبرنشتاين نفسه ربما يكون أهم «محرّف» في تاريخ الماركسية حسب معظم القراءات الماركسية. للإنصاف يستعرض سعادة في بحثه نقاط قوة لوكسمبورغ، وتجسيدها لصلة الوصل بين الثورة الروسية في نطاقها البولندي وبين فكرة الإضراب السياسي الجماهيري التي أخذت تشكل هوية كفاحية ليسار الاشتراكية الديموقراطية الألمانية. لا يفوته، قبل ذلك، أن يفكك خلافها مع كاوتكسي، وأسبابه الحقيقية. عشية الحرب العالمية الأولى، كان لينين يملك الأمل بأن يقود كارل كاوتسكي يسار الأممية، لكن روزا لوكسمبورغ رأت أبعد من لينين في هذه النقطة: اليأس من كاوتسكي. ما لم تنتبه إليه روزا لوكسمبورغ هو أن الجماهير العمالية كانت متعطشة إلى الحرب أكثر من البورجوازية نفسها. وهذا سببه برنامج ايرفورت نفسه، حسب قراءة سعادة. هنا، يمكننا إعادة الاستنتاج بأن ايرفورت لم يخرج تماماً من عباءة غوتا. حسب البيان الشيوعي، الفئات المتوسطة تصير ثورية، إذ ينتظرها السقوط إلى صفوف البروليتاريا. ومن وجهة النظر هذه، حسب ماركس في نقد غوتا، كان القول عن الفئات المتوسطة إنها «تشكل مع البرجوازية»، ومع الإقطاعيين أيضاً، «كتلة رجعية واحدة بالنسبة للطبقة العاملة»، بمثابة الخطأ الكبير. صُدم لينين بكاوتكسي وموقفه الرخو حيال الحرب وكان هذا مفهوماً، لكن صدمة روزا لوكسمبورغ، كانت من الجماهير البروليتارية نفسها. في ختام بحثه، يدرك سعادة أنه فتح المجال أمام الكثير من الأسئلة عن مواقف روزا لوكسمبورغ وكتابتها خلال الحرب، لكنه، كعادته، لا يستعجل الإجابة.