باريس ـ أحلام الطاهرحين دعي جيرار غاروست (1946) إلى الإليزيه، طلب من جاك شيراك أن يتمدد على الأرض ليتمكن من تأمّل المنحوتات بشكل أفضل. وحين كان على موعد مع صحيفة «لوموند»، طاردته الشرطة في ضواحي باريس لأنه عكّر إحدى حفلات الزفاف. وحين رُزق بمولود جديد، طلب من زوجته أن تُلبس الأخير ملابس بيضاء وأفرغ الشقة من محتوياتها لينام على الأرض وسط دائرة رسمها بالطباشير، فاستيقظ في «مستشفى سانت آن للأمراض العصبية».
بعد نشر كتابه «اللامُطمَئِن» (راجع الكادر) تحوّل غاروست إلى بيسوا الفن التشكيلي. يجيب من يسأله عن شطحاته الحلمية وشخوص لوحاته المُجنّحة الهاربة من العهد القديم، «ليس لدينا إلا الواقع لنحبه ولا شيء آخر» والواقع الذي أحبّه غاروست لا يُفسِّر، بل يَستفسر، يصغي، يراقب ثم يفاجئنا ببنية عالية الحساسية، وإيقاع لوني آسر.

ها هي تجاربه التي لفتت الانتباه على نطاق عالمي، تصلنا كرسالة مأثورة وُضِعت داخل زجاجة ووصلت إلى شواطئنا بعد ذلك بثلاث سنوات. معرضه «حكايات يعجز عنها الوصف» تحتضنه صالة «دانيال تاملبون» التي يقدّم فيها سلسلة لوحات استلهمها من رواية «فاوست» لغوته في 2011. يتخلى هذه المرة عن أحادية الموضوع ليختار ثلاثين عملاً تتنوع بين الرسوم والمجسمات النحتية. تؤكد مكانته كأبرز من هيأ تيار «التشخيصية المحدثة» الفرنسية وتمكننا من استعادة أهم محطات مسيرته التي بدأت مع «ثورة الطلاب» في باريس عام 1968. متابعو هذا التشكيلي الفرنسي يتذكرون جيداً مساهمته في تصميم ديكور الإليزيه ومنحوتات «كاتدرائية القيامة في إيفري» في فرنسا، وقبة «مسرح نامور» في بلجيكا. مزج بين الرسم والحديد المُطاوِع في جدارية عملاقة لمكتبة فرنسا الوطنية واستخدم التصوير الجصّي (الفريسكو) في العديد من القصور والمقارّ الرسمية. يقول غاروست إنه يرتاب في أشياء كثيرة حول نفسه، لكنه لم يشكّ قط في موهبته. مزج الخامات والأساليب وبحث من خلال اللون وتقنياته عن منطقة ذاتية لم تتزامن مع الاشتغال الفكري لباقي زملائه في الـ«بوزار» (المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة). وكان عليه أن يخطو بالتجريد السائد وقتئذ خطوة كبيرة في اتجاه التشخيص ليهز المشهد الفني الفرنسي من جذوره منذ بداية الثمانينيات.
كل ظهور «مُعاصر الحقيقة» كما يصفه الفيلسوف ميشال أونفري، حدث يثير العديد من النقاشات حول حساسية «ما بعد الحداثة». مَن غيره يقدّم اقتراحاً بصرياً يجمع بين قصص لافونتين وشخصيات الكتاب المقدس ومغامرات دون كيشوت والتراث الحكائي للأشكيناز، ثم يُقحم في الخلفية صورة طفولية لتان تان وكلبه ميلو؟ يُذكّرنا، ليس بالضبط بما نسينا (إنّه أكثر براعة من أن يفعل ذلك)، بل بما اخترنا أن ننسى، وتلك الخيارات تبدأ غالباً في عهد الطفولة. غاروست لا ينسى شيئاً من طفولته، وهكذا هو في حالة تعايُش مستمرة مع ما يسعى إليه من ألم ومرح. يطلق كائناته كالطيور، يجذبها إلى الأسفل وإلى الأمام، يلويها، يشوّهها، يقدّسها، يثنيها ويكسرها كالمرآة، ثم يجمع صورته المتكررة من هنا وهناك.
في أعماله الجديدة، ستطلّ علينا عناصر ومرجعيات غير متجانسة، أرضيات شطرنجية وأجنحة ضعيفة وأجساد بتحريفات حلمية. بلا ليونة ولا استحالة، تتحول أطراف أحدهم إلى جذور شجرة، وتستطيل يد آخر لتلامس خدّ حبيبته. ليس عجيباً هنا أن تعشش طيور العقعق في البيوت وتتشابك أغصان الأشجار على شكل مشانق. وليس عجيباً أن تعترضنا سلحفاة لافونتين مقلوبة على ظهرها وحمير الأنبياء مستغرقين في اجترار الكتب. جماليّة بصرية ملتبسة ستقود العين حيث تتوهج الخلفية صافية صفاءً عبثيّاً لتضيء شخصيات «الكوميديا الإلهية» لدانتي، أو ترتجّ وتميل إلى الشحوب لتعتني بملاك تتعرق أصابع يديه الملونة بين سطور التوراة. لا تغيب التحريفات القسريّة في بنية الجسد، لا يغيب الفزع من المرض ومن الوحدة ومن الآخرين. عنوان المعرض يبدو في غير حيّزه، إذ يكفي المتفرّج أن يلمس ازدحام العناصر وغنى الأفكار التي تولّدها، ليدرك أنّ ما من شيء إلا يستطيع الفن أن يعبّر عنه. وفنّاننا مُمارِس عتيد يسلّط قبضته المحكمة على مواضيعه، ويحوّل لوحاته إلى توصيف دقيق لروحه وتناقضاتها. يرسم نفسه بطلاً توراتياً أو كائناً هجيناً أو مريضاً أو مهرّجاً، بريشة تمزج بين شاغال وإل غريكو وتسترجع الدلالات والرموز السحرية والميثولوجية في شطح لوني وتخييلي سيُعدي سيدة في المعرض، فتتنقل بين الزوّار، تهمس لكل واحد على حِدة :«الذين غيّبوا السماء ورسموا الغيوم كانت حركتهم أثيرية بامتياز».
على أي حال، يتعلّق الأمر بوضع تأمّلي، بالمعنى المزدوج للكلمة، روحي وجمالي. وهو ما يتكرر بشكل مُركّب في فن غاروست، ويضطر المُشاهد إلى حشر رأسه مراراً في الكتالوغ متتبّعاً أي شرح أو تاريخ أو اسم. ولدينا مثلٌ غير بعيد: اكتشاف السنطور الخرافي في لوحة «السنطور وعش العصافير» ليس أغرب من اكتشاف مزهرية صينية بداخلها كلب يعتمر عشّ عصافير. في المقام الأول، هناك الصورة وتكويناتها التي تتفاعل مع بعضها البعض لتحيلنا إلى مرجعيات مختلفة في الذاكرة، وفي المقام الثاني، يسحب السنطور العين إلى حيث تتجه نظرتُه وحركة جسمه، وينقلنا من الغفوة إلى الانتباه، ومن الحلم إلى الإصحاح 22 من سفر التثنية: «إذا اتفق قدامك عش طائر في الطريق في شجرة ما أو على الأرض فيه فراخ أو بيض، والأم حاضنة الفراخ أو البيض فلا تأخذ الأم مع الأولاد. اطلق الأم وخذ لنفسك الأولاد لكي يكون لك خير وتطيل الأيام». تعِد الوصية بعمر مديد، وفي هذا المنحى، فالجمالية التي يصل إليها الفنان عبر قوانين الشكل ولغته، تخلق مساحةً للتفكير في الإنسان الأكثر زوالاً من كل الأشياء، الإنسان الذي يعاني خشية الموت.
وتعبيراً عمّا أصابه من ضياع واستلاب ذهني في بعض الأحيان، يُطلّ علينا في بورتريه شخصي «الناووس» (130 × 195 سنتم ــ 2012) مبحراً في قارب صغير، لا يعرف كيف يرفع شراعاً أو يرمي مرساةً صلبة. الدراسات القديمة القريبة من الأنثروبولوجيا جعلت الجنون تجلياً لعنصر غامض ومائي في الإنسان، «إنه فوضى مبهمة وسديمٌ متحرك وموت كل الأشياء التي تمثل ثبات الذهن» يوضّح غاروست. ومن هذا الترابط القديم بين الماء والجنون، ظهر في المخيال الأوروبي شبح «سفينة الحمقى» وهي سفينة غريبة جانحة، يتكون طاقمها من مجانين طردتهم المدن من جنباتها وسلّمتهم إلى الأمواج. وسيأخذ القارب دلالات أخرى قريبة من طقوس التطهير والعبور إلى سبل مجهولة تخفي الكثير من المعارف.
جيرار غاروست، الذي يُبقي يديه منهمكتين في العمل، هو نفسه رجل الحكاية الذي حلم برسم كل ما في العالم من أشياء. وعلى مدار السنين، عمّر الفضاء بصورة الأقاليم والممالك والجبال والبحار والسفن والجزر والغرف والأدوات والنجوم والخيول والناس. وقبل موته بقليل أدرك أن ما ترسمه تلك المتناهية الطويلة من خطوط هي صورة وجهه.

* «حكايات يعجز عنها الوصف»: حتى 26 شباط (فبراير) ــ «غاليري دانيال تاملبون»، باريس ـــ www.danieltemplon.com





اللامطمئن يجالس فان غوغ

منذ حوالى أربعين عاماً، شخّص الأطباء إصابة جيرار غاروست بالاضطراب الوجداني ثنائي القطبية Bipolar disorder. لكن بمساعدة زوجته إليزابيت التي يعتبرها ملاكه الحارس، نجح في ترويض «شياطينه» الداخلية. وقد تحدّث الفنان عن هذيانه وأزماته في كتاب مذهل حمل عنوان «اللامطمئن»، أهداه إلى زوجته التي يجهل كيف تأقلمت مع مشكلته وتعلّمت كيفية تنبؤ أزماته واستدراكها. في إحدى مقابلاته، يرى غاروست أنّ ربط الجنون بالفن يزعجه كثيراً، مضيفاً: «مرضي منعني من الرسم بقدر ما أريد. كنت أرسم ثم أحطّم لوحاتي في مراحل الاضطراب التي مررتُ بها. وأنا متأكّد من أنّه لو كانت هناك أدوية لهذه المشكلة في زمن فان غوغ، لكانت أعماله أكثر غنى».