عند دخولك «مركز بيروت للفن» لن تجد أعمالاً فنية أصلية، بل صوراً فوتوغرافية عنها. دهليز مؤلف من صور عملاقة تغلف الجدران في معرض «ما بعد أطلس» للمتخصص في تاريخ الفن والفيلسوف الفرنسي جورج ديدي هوبرمان والمصوّر النمسوي أرنو جيسينجر.
في بدايات القرن العشرين، قام المتخصص في تاريخ الفن الألماني آبي واربرغ (1866 ـ 1929) بتغليف لوحات خشبية بقماش أسود، وعلّق عليها مختارات من حوالى ٢٠٠٠ صورة فوتوغرافية، وقصاصات من كتب وجرائد، لتتمحور كل مجموعة من اللوحات حول ثيمة معينة. كان الهدف تقديم أطلس يجمع المقاربة الفلسفية لهذه الصور ومقاربتها التاريخية ضمن فنون عصر النهضة الأوروبية. يومها، وصفه آبي واربرغ بـ«قصة عن الأشباح للبالغين». وحين توفي واربرغ، ترك خلفه سلسلة قيّمة تدعى «أطلس منيموزين» المؤلفة من ٨٢ لوحة، لا يتوفر منها اليوم سوى صور فوتوغرافية ملتقطة لها.
تلك التجربة لخلق أطلس يحاول قراءة التاريخ عبر الصور بطريقة مختلفة، شهدها التاريخ أيضاً مع داروين في كتابه «التعبير عن العواطف عند الإنسان والحيوان» (١٨٧١) الذي يضم عدداً من الصور الفوتوغرافية التي تحاول أن تبرهن نظرياته العلمية. كذلك منذ عام ١٩٦٨ حتى اليوم، قام الفنان الألماني غيرهارد ريختير بتأليف أطلسه المكوّن من لوحات تحتوي على صور وقصاصات جرائد ومجلات، تعكس مسيرة الفنان وطريقة عمله. «أطلس» ريختير يتألف اليوم من ٨٠٢ لوحة، ولا يزال قيد التطور.
تأثر جورج ديدي هوبرمان بريختير، لكن مشروع «أطلس منيموزين» لواربرغ كان محفزه لتقديم معرضه «أطلس: كيف تحمل العالم على ظهرك» في «مركز الملكة صوفيا للفن» في مدريد عام ٢٠١٠. في المعرض، قدم هوبرمان صوراً من «أطلس منيموزين» إلى جانب لوحات، وصور فوتوغرافية، وكتب فنيّة، وأفلام لحوالى ١٤٠ فناناً وكاتباً ومنظّراً. عبر توليف تلك الأعمال في صالة واحدة، قدّم هوبرمان وسيلة فنيّة تحاول عرض وفهم واستكشاف تنوع وتعقيد العالم كما مسار التاريخ الممتد من القرن العشرين حتى الحادي والعشرين. ثم عاد وقدم المعرض ذاته عام ٢٠١١ في مدينتين في ألمانيا هما كلارلسوه وهامبورغ.
لكن العقبات اللوجستية والمالية أمام نقل المعرض إلى صالات أخرى حول العالم، دفعت هوبرمان إلى طلب المساعدة من صديقه المصوّر أرنو جيسينجر. هكذا، التقط الأخير آلاف الصور الفوتوغرافية للأعمال في المعرض الأساسي. وفي كل مرّة، كانا يختاران عدداً من الصور، ويطبعانها بمقاسات مختلفة للعرض في صالة جديدة تحت عنوان «ما بعد أطلس». وكما يقول ديدي هوبرمان: «بات يمكننا نقل المعرض بأسره في حقيبة واحدة». هكذا جال المعرض على «استديو فرينوا الوطني للفنون المعاصرة» و«متحف ريو للفن» عام ٢٠١٢، واليوم، يتخذ شكلاً جديداً في بيروت. هنا، اختار الثنائي طبع ٣٣ صورة بحجم 3.5 × 2.5 متر، تمّ لصقها على الجدران لتغلف صالة المعرض. في قاعة منفصلة، يقدم جيسينجر عرض صور عن المتخصص بتاريخ الفن الألماني أيضاً ياكوب بوكهارت (١٨١٨ـ ١٨٩٧). أما ديدي هوبرمان، فيقدم فيديو يظهر اللوحة رقم ٤٢ من «أطلس منيموزين»، وإلى جانبه تجهيز فيديو «منيموزين ٤٢» مؤلف من مقتطفات من ٢٥ فيلماً، تتمحور حول ثيمة الألم. مشاهد من أفلام لمخرجين، أمثال: غودار، مخملباف، بازوليني، فاروكي، بارادجانوف، أنجولوبولوس وغيرهم.
لم يبق لنا من «أطلس منيموزين» إلا بعض الصور الفوتوغرافية، ما يحيل إلى نظرية «الهالة» لوالتر بنجامين، وحديثه عن إعادة استنساخ الأعمال الفنية وما تخسره وتربحه خلال تلك العملية. بالطبع لا يقتصر معرض «ما بعد أطلس» على مجرد صور لأسباب لوجستية وتقنية فقط، بل إن المعرض الأصلي «أطلس: كيف تحمل العالم على ظهرك» أصبح بأسره اليوم جزءاً من تاريخ المعرض الجديد «ما بعد أطلس»: تاريخ لوحات، وصفحات، وأفلام تحوَّل منذ لحظة ولادتها إلى تفاعلها مع بعضها البعض في معرض «أطلس» ثم تحولها إلى صور فوتوغرافية في «ما بعد أطلس». اليوم، أصبحت الصور الفوتوغرافية هي العمل الفنّي. خيارات أرنو جيسينجر في الزاوية والإطار لالتقاط الصورة أعطت الأعمال بعداً إضافياً ومجتزأً في الوقت ذاته، ثم إن توليفها واحدة جنب الأخرى وقبالتها أضفى حواراً لم تقصده ربما لحظة ولادتها.
عند مدخل «مركز بيروت للفن» صورة كبيرة من فيلم جان لوك غودار «كارثة» (٢٠٠٨)، أطلق عليها الفنانان اسم «كارثة بالأحمر». يتوقف عندها هوبرمان قائلاً: «بالطبع، ليست مصادفة وضعنا تلك الصورة عند مدخل المعرض في بيروت».

«ما بعد أطلس» لجورج ديدي هوبرمان وأرنو جيسينجر: حتى ٢٢ آذار (مارس) ــ «مركز بيروت للفن» (جسر الواطي ــ بيروت) ــ للاستعلام: ٣٩٧٠١٨/01



هناك وهناك

في فيلمه «هنا وهناك» (1974)، ينتقد المخرج جان لوك غودار توليف الصور في السينما، لأنه يمنعنا من رؤية الصورة الكاملة، فسرعة التوليف في السينما تؤدي إلى النسيان. إن معرض «ما بعد أطلس» يوقف ذلك التوليف السريع للصور، ويعرضها جميعاً على لوحة واحدة كبيرة، على جدران «مركز بيروت للفنّ»، لكي نتروّى عندها، ونتخذ المسافة الكافية فنحاول عبرها قراءة التاريخ.