في 20 تموز (يوليو) من العام الماضي، صدحت أغنيات أم كلثوم في معبد باخوس في «مدينة الشمس» خلال سهرة أحيتها المصريتان مروة ناجي ومي فاروق، واستعادتا خلالها أعمال «كوكب الشرق» بقيادة المايسترو المصري هشام جبر (1972) ضمن فعاليات «مهرجانات بعلبك الدولية». في التاريخ نفسه من العام الحالي، يعود جبر إلى الصرح الثقافي والأثري البارز نفسه ليكرّم عملاقاً آخر حفر اسمه في قلوب الملايين: عبد الحليم حافظ (1922 ــ 1977).تجربة أم كلثوم كانت «جميلة جداً» بالنسبة إلى المايسترو المقيم في «دار الأوبرا» المصرية و«تركت أثراً كبيراً في نفسي». هذا ما يؤكّده في حديث مع «الأخبار» في أروقة مكتب «مهرجانات بعلبك» في بيروت بعد ظهر يوم ربيعي حارّ. ويشدّد الفنان الذي توزّعت دراسته الموسيقية بين مصر وفرنسا على أنّ «لهذا المكان طاقة إيجابية رهيبة، شعرت في أحضانه بتفاؤل وفرح شديدَيْن، خصوصاً أنّ عمالقة كثراً وقفوا على هذا المسرح في السابق». يرى هشام جبر أنّ حفلة السنة الماضية كانت «ناجحة في المزج بين موسيقى أم كلثوم والتلوين والتوزيع الأوركسترالي الذي أنجزناه، ما أعطى فرصة جميلة لمَنْ يجهلون الموسيقى الشرقية للاستمتاع بـ «كوكب الشرق». لقد قرّبناها منهم بفعل التعديلات التي أجريناها».
بناءً على ذلك، أراد القائمون على المهرجان تكرار التعاون مع المايسترو و«استثمار» هذه النتيجة الإيجابية ضمن تجربة مختلفة توجّه تحية إلى «العندليب الأسمر». وبعدما قُدّمت أمسية 2018 في قالب سيمفوني، ها هو هشام جبر يذهب في خياله أبعد من ذلك. سهرة من العمر ستدعو إليها بعلبك كل الراغبين في السفر إلى أيّام أشعل فيها عبد الحليم قلوب الملايين، وفتح نافذة على مرحلة عابقة بالحنين. لهذه الغاية، حُسم القرار بأن تترجم التحية على شكل حفلة سينمائية ــ موسيقية (ciné-concert) تحمل عنوان «ليلة مع عبد الحليم»، تولّى فيها هشام جبر مهمّة التوزيع على أن يقود أوركسترا فلهارمونية رومانية ضخمة تضم 70 عازفاً بالتعاون مع «الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق عربية».

محمد عساف ملمّ بـ«حليم»، يشبهه لناحية الملامح والسمرة، وهذا مهم في حفلة قوامها النوستالجيا

أما توليف الفيديوات المرافقة للأغنيات الحيّة وإعداد المفهوم البصري العام، فمهمّة ألقيت على عاتق المخرج المصري أمير رمسيس، المدير الفني لـ «مهرجان الجونة السينمائي». وكان جبر ورمسيس قد تعاونا في الدورة الماضية في ciné-concert استعاد الموسيقى التصويرية لعدد من أفلام السينمائي يوسف شاهين (1926 ــ 2008) ضمن برنامج تكريمه في مناسبة مرور 10 سنوات على رحيله.
وبالنسبة إلى الاسم الذي وقع عليه الاختيار لاسترجاع أغنيات عبد الحليم حافظ، فهو الفنان الفلسطيني الشاب محمد عسّاف (1989) الذي تشاركه المطربة المصرية نهى حافظ أداء أغنيتي دويتو، هما: «حاجة غريبة» (كلمات فتحي قورة، وألحان منير مراد) من فيلم «معبودة الجماهير» (1967 ــ إخراج حلمي رفلة)، و«تعالي أقلّك» (كلمات حسين السيّد، ألحان منير مراد) من فيلم «لحن الوفاء» (1955 ــ إخراج إبراهيم عمارة).
يرى هشام جبر أنّ اختيار عسّاف موفق جداً نظراً لعوامل عدّة؛ أبرزها صوته الجميل، وحبّه لعبد الحليم ومعرفته الجيّدة بأرشيفه الذي يحرص على غنائه في حفلاته وإطلالاته الفنية، بالإضافة إلى شعبيته الواسعة بين الشباب لا سيّما بعد فوزه بلقب «محبوب العرب» في الموسم الثاني من برنامج «أراب آيدول» (mbc). وهناك عامل أساسي ومهمّ آخر يتمثّل في «الشبه» بين محمد و«حليم»، لناحية الملامح والسمرة، وهو ما له «أهمية في حفلات يكون قوامها النوستالجيا»، على حدّ تعبير هشام جبر.
صحيح أنّ العقود الماضية شهدت حفلات استعادية عدّة لريبيرتوار وأعمال عبد الحليم حافظ، غير أنّ ما يميّز «ليلة مع عبد الحليم» هو «النجاح في التحدّي الأصعب». فالرهان بالنسبة إلى جبر، هو التمكّن من تقديم التراث بنَفَس جديد «من دون حصول تغريب يُفقد الناس القدرة على التماهي والارتباط بما يسمعونه ويشاهدونه… أي، إطلاق العنان للخيال من دون التأثير على روح المادة الأصلية».
الحفلة مؤلّفة من جزءين تستمرّ على مدى ساعة ونصف الساعة. وبالنسبة لانتقاء الأغنيات، فيبدو أنّ هذا الجانب الأصعب في العملية ككل، إذ «بدأنا باقتراح 200 أغنية، ليتقلّص العدد إلى 77، ومن ثم 67، فيصل أخيراً إلى 35. لكن العدد سيكون أقل من ذلك»، يقول جبر. ويضيف: «الموضوع شاق للغاية لأنّ أرشيف عبد الحليم غاية في الغنى والتنوّع، لكن هناك أعمال لا يمكن التنازل عنها كـ «جبّار»، و«لست قلبي»، و«بلاش عتاب»، و«نعم يا حبيب»، و«حبّك نار»...».
التحدي يكمن في تقديم التراث بنَفَس جديد «من دون حصول تغريب يُفقد الناس القدرة على التماهي والارتباط بما يسمعونه ويشاهدونه»


يعلّق جبر آمالاً كبيرة على ciné-concert صيف 2019، فيما يبدو على يقين بأنّه سينجح في أوساط الشباب الذي يعدّ عبد الحليم قريباً منهم. في هذا السياق، يلفت جبر إلى أنّه على خلاف ما قد يعتقد بعضهم، «فوجئنا العام الماضي بأشخاص يافعين يردّدون أغنيات أم كلثوم بانسجام شديد، ما يثبت أنّنا لا ننسى تراثنا وما زلنا متأثّرين به، كما أنّ هذه القامة تجاوزت مصريّتها وتحوّلت إلى تراث عالمي مرتبط بالأرض والتاريخ والحب. فما بالك إذا كان عبد الحليم محور المشروع؟».
لا يستطيع هشام جبر أن يخفي حبّه الكبير للبنان عموماً وبيروت خصوصاً، التي يحرص على ألا يغيب عنها أكثر من شهرين: «أتحجج بالعمل كي أزور هذه المدينة التي تحوي مزيجاً من الإسكندرية والقاهرة… الروح والثقافة البصرية للأولى وضجيج وجنون الثانية… لا أشعر بالغربة هنا، إلا أنّني في حالة اكتشاف دائم. أنا مدمن شره على لبنان».
الفنان الذي يشغل منذ كانون الثاني (يناير) 2019 منصب المدير الفني لـ «مركز التحرير الثقافي» في «الجامعة الأميركية في القاهرة»، يرى أنّ الجمهور اللبناني هو «أغزر متلقٍّ في الوطن العربي، إذ إنّه على استعداد ليعطي من وقته ومجهوده للاستمتاع بالفن على الرغم من غلاء الأسعار أحياناً، ناهيك عن أنّ عدد الأحداث الفنية التي يشهدها هذا البلد هي الأكبر في العالم العربي نسبة لمساحة البلد وعدد سكانه». لذلك، سيبقى للمشاركات الفنية هنا طعم آخر!

* «ليلة مع عبد الحليم حافظ»: السبت 20 تموز ــ الساعة الثامنة مساءً ــ أدراج «معبد باخوس» (بعلبك). للاستعلام: 01/999666