أثير السادةتحوّلت «صورة البحرين» إلى عنوان للتنازع بين السلطة والمعارضة منذ انطلاقة الأحداث في شباط (فبراير) 2011، وقد أصبحت المعارك الإعلامية تدار غالباً حول هذا العنوان. هكذا، جرت العادة أن تصف السلطة التغطيات الخبرية التي تقدمها وكالات الأنباء الدولية «بمحاولات لتشويه صورة البحرين»، فيما تعتقد المعارضة أن تلك التغطيات التي تصف أحوال المسيرات والمواجهات والاعتداءات «تكشف الصورة الحقيقية» لما يجري فيها.

من جهتها، تقترح السلطة الاستثمار والسياحة والاستقرار كملامح رئيسية لهذه الصورة، التي تقدمها للتسويق الإعلامي، وقد جرى تكريسها على مدى عقود ضمن مشاريع ومبادرات سياسية واقتصادية، للتأكيد على نجاح السلطة في إدارة البلاد. وفي الوقت ذاته، تمضي الصورة التي تسوقها المعارضة في التأكيد على الفشل السياسي للسلطة في إيجاد مخرج للأزمة التي عصفت بالبلاد، ويتمثل في صورة حراك شعبي لم ينقطع منذ ثلاثة أعوام، ومعه لم تنقطع السلطة برأي المعارضة عن ممارسة الخيار الأمني، وهو ما وفر دائماً صورة بديلة لهذا البلد في الإعلام الخارجي.
من الواضح أن كلا الطرفين يدرك جيداً قيمة الصورة _بدلالاتها الحقيقية والمجازية_ في هذه المواجهة، كلاهما يتكئ عليها لتمرير خطابه السياسي، ولإظهار صورة الطرف الآخر. مقابل صورة «الاستبداد» التي تلصقها المعارضة بالسلطة، تقدم هذه الأخيرة «الإرهاب» ضمن توصيفاتها للمعارضة وحراكها على الأرض، وهذه الصور/ الأوصاف تحتاج دائماً إلى مستندات بصرية لدعمها وتأكيد صدقيتها.
المصورون في البحرين بدورهم اختاروا أن يكونوا شهود عيان وهم يدفعون بعدساتهم للاقتراب من كل مجريات الأحداث التي مرت وتمر بهذا البلد الصغير. هم يعرفون جيداً أن رواية الأحداث لا تكتمل اليوم دون راوٍ بصري، يوسع حدود الوثائق المتاحة لوصف ما يكتبه الناس في حراكهم منذ ثلاثة أعوام حتى اليوم.
بدون الصورة، تصبح الأحداث رواية قابلة للنقض، وتستحيل لحظات قابلة للشطب من ذاكرة الناس. قد لا تبدو الصورة دائماً تمثلاً أميناً لموضوعاتها، هي الأخرى منحازة لخيارات المصورين، لكنها في الحد الأدنى أثر حي يرسم الحد الفاصل بين الحضور والغياب، يعانق الشك ويحاربه في آونة واحدة، حيث المبالغة في عناق الواقع ووصفه.
شهوة التصوير حاضرة في كل مشهد اليوم، فالصورة منذورة للحاضر والمستقبل معاً، ولا يريد لها أهلها أن تكون في حيز الماضي. المصورون من ذوي الصنعة يعلمون مسبقاً أن توثيق الأحداث ليس بتعداد الصور، لذلك لا يتصل حضورهم بمجرد رواية الأحداث بصرياً، بل في منح هذه الرواية جسدها البصري، الذي يليق بالحضور الدائم. كانت الأحداث بمثابة ميدان واسع لاختبار كل بلاغات الصورة وأسئلتها، بين كثافة الصور وكثافة دلالتها كانت المسافة تتسع بين محترفي الصورة وهواتها، حيث يصيّر المحترفون منهم هامش الحدث ومتنه إلى دراما بصرية لا تنضب، فيما تتحول كاميرات الآخرين باتجاه صياغة ذاكرة القسوة والألم، ذاكرة العواطف التي تعيش على تخوم الأحداث على نحو مباشر، وذاكرة القلق التي تتضخم في لعبة الانتظار. وكلما تضاءل حجم الضوء العابر إلى مسيراتهم، جعلوا من كاميراتهم حصانة لها من العتمة!
لا يمكن حصار الصورة وأفعالها، كما لا يمكن فرض رقابة على ما يراه الناس اليوم. هذا العالم المحموم بلعبة التبادل اليومي للأخبار عبر قنوات التواصل قد جعل من الرقابة لوناً من الاستخفاف، لذلك لا يجدي تردد الصحف الرسمية في نقل التغطيات الفوتوغرافية عن احتشاد الناس المتكرر خلف شعاراتهم. ولن يلغي هذا الغياب عن التغطية ذلك الدفق البصري الذي يفتح في كل مرة كوة للشك في المرويات الرسمية، لتصبح الصورة بذلك عقاباً لكل الذين يراهنون على حصارها وتقييدها.
خطرة هي الصورة لهذا الاعتبار، لكونها سلطة قابلة للدخول ضمن امتيازات الناس، وغير مقتصرة على ساسة المال والإعلام، سلطة تترك ظلالها على الحقيقة، الذاكرة، وعلى تأويلات هذا الواقع وأحداثه. وهذا ما يفسر ما حملته السنوات الماضية من تضييق وملاحقة للمصورين البحرينيين، الذين عرف عدداً منهم الطريق إلى السجن والتحقيق، وكان آخرها توقيف المصور أحمد الفردان، وهو الأمر الذي لم يفلح في تضييق خيارات الصورة، أو حتى تعطيل جريانها!
لذلك ستبقى للبحرين أكثر من صورة، تنتعش بآمال الناس وتطلعاتهم، بهواجسهم وأسئلتهم، وطالما ظلت الأزمة حاضرة بلا مخارج، تتأرجح فيها كل المواقف والحقائق، ستظل الرغبة في واقع لا تطاوله الصورة ولا تقاربه العدسات حلماً موشوماً بالسراب، إذ إن سحب الغازات المسيل للدموع ستظل تزاحم صور ناطحات السحاب في محركات البحث ووكالات الأنباء، وصور المسيرات التي يتحشد فيها الآلاف ستزيح بين وقت وآخر صور الحشود السياحية التي تقصد البحرين في مختلف المناسبات.