«منذ هدمت السلطة دوار اللؤلؤة وهي تلاحق أشباح الرموز. لقد انبثقت من دوار اللؤلؤة آلاف الرموز الثورية: الشهداء والنُّصُب والجدران والأماكن والشخصيات والتواريخ والأحداث والنغمات والصوايات وحتى الكلمات. لقد تابعت الصورة الفوتوغرافية كل ذلك وأعادت خلقه افتراضياً. واكتشفت السلطة لاحقاً أنّ الدوار لم يكن شيئاً قابلاً للهدم، بل كان صورة، فراحت تلاحق بالموت صوره الكثيرة، من هنا جاء عنوان كتابنا «الصورة دونها الموت».
«دون» في اللغة العربية ظرف، تأخذ معناها بحسب ما يضاف إلى هذا الظرف، وهناك سبعة معانٍ على الأقل لها: فوق، خلف، أمام، غير، قبل، اسم فعل بمعنى خذ، تهديد ووعيد.
«دون» في عنوان كتابنا تتضمن كل هذه المعاني، فهي محاطة من جميع جوانبها (خلف، أمام، فوق، تحت، قبل) بالموت. الديكتاتور يلاحقها، بقوات المرتزقة وسحب الغازات السامة والسجون والمخابرات والتعذيب وقوانينه المفصلة على مقاس استبداده. الموت هو العيش في ظل الديكتاتورية، حيث الذل والخضوع والملاحقة، كلها ظلال موت، يريد الديكتاتور أن يجعلنا نعيش دونها. صور «ثورة 14 فبراير» محاطة بظلال الموت هذه، ومصورو الثورة دون صورهم. أحمد إسماعيل مات لأنه مصوّر، أحمد حميدان اختطف لأنه مصوّر، حسين حبيل سجن لأنه مصوّر. أحمد الفردان عُذب لأنه مصوّر. صورهم دونها الموت. يلاحقون الديكتاتور بصورهم، ويلاحقهم بظلال الموت». تلك هي مقدّمة كتاب «الصورة دونها الموت» الذي صدر أخيراً في الذكرى الثالثة للثورة البحرينية.
يوماً ما سيحكي أحدهم ملحمة شعب جعل من الكاميرا والجدران سلاحاً كي لا تذهب ثورته طيّ النسيان. تنمو حكايات البحرين من خلال اللوحة الحية والصاخبة. تخالف في ذلك فكرة رولان بارت التي روَّجها في كتاب «الغرفة المضيئة» عن وجوب بقاء الصورة الفوتوغرافية صامتة.
العمل الجديد صدر بثلاث لغات: (العربية والإنكليزية والفرنسية) عشية ذكرى «ثورة 14 فبراير» (عن صحيفة «مرآة البحرين» ضمن مشروع «أوان ذاكرة اللؤلؤة»)، وحوى هذا المشروع التوثيقي أكثر من 200 صورة، بعدسة فوتوغرافيين بحرينيين أدوا دوراً كبيراً في نقل صورة الاحتجاجات التي شهدتها البحرين منذ بداية 2011 حتى نهاية 2013، رغم الرقابة والاعتقالات، والعنف، والقيود، وقتل واعتقال عدد منهم بحجة نشر صور كسرت الخوف في مملكة الديكتاتور.
تحليل المشهد الفوتوغرافي في المملكة الصغيرة هو هدف المشروع الوحيد الذي يحوي ثمانية فصول ركزت على تأريخ مرحلة زمنية من توليد الضوء حيث لا ذاكرة، عدا ذاكرة الثورة. لا تعليقات كثيرة، ولا تواريخ محددة إلى جانب بعض الصور التي احتواها الكتاب. فقط لعبة الكشف هي ما يفضح قوتها. قد تحبها أو تنغمس فيها أو تتأملها. لكنك لن تستطيع فرزها، لأنها ليست عملاً فوتوغرافيا فحسب، بل هي أيضاً صورة ثورة حية محاطة بالموت.
شغل المحتجون بتصوير انتفاضتهم. هنا قورنت العدسة بالرصاصة. ذهبت احتفالات الديكتاتور ومهرجاناته الفخمة، وخطاباته الباهتة، وبقيت صور دوار اللؤلؤة في أول أيام الثورة وبقي علم البحرين يرفع في يد كل متظاهر في ساحة الحرية.
هُدم الدوار، وخرج من الجغرافيا، لكن رمزيته بقيت في الصورة والذاكرة البحرينية المعاصرة. سقطت اللؤلؤة على يد جيش «درع الجزيرة»، ودحرجت معها كرة الخوف التي حملها ضد مواطنيه، مغامراً بكل شيء في سبيل بقاء كرسيه وعائلته بعيدين عن المسّ رغم مرور 1000 يوم على الثورة.
تنتقل العدسة بعدها لتقديم سلسلة صور لشخصيات تقدمت المسيرات وحافظت على سلمية الانتفاضة، منهم رجال دين وحقوقيون وناشطون وأطباء وعوائل المعتقلين والشهداء. الشعارات التي رفعت في يوم «14 فبراير» 2011، أُفرد لها فصل كامل داخل الكتاب، حمل عنوان «اللؤلؤ المنثور»، بدأت بكلمة «نفسي فدا وطني» كتبها علي المؤمن (22 عاماً) على صفحته الفايسبوكية، ليستشهد بعدها بأيام. تلتها صور الشهداء، وكلماتهم الأخيرة. مع جريان الدم، ارتفع الشعار الأشهر في الثورة «يسقط حمد» فيما «قنّاصو» الصورة عملوا على بقاء الثورة البحرينية ثورة غير منسية. مصوّرو الوكالات المحترفون ومصوّرون مجهولون لم يتعبوا في ملاحقة القاتل بجريمته. لم يتوقف التوثيق ولم تتوقف الإصابات والاعتقالات ضدهم، منهم المصور أحمد حميدان المعتقل منذ 29 كانون الأول (ديسمبر) 2012، وأحمد الفردان الذي اعتقل وعذِّب في كانون الأول (ديسمبر) 2013، بالتهمة نفسها: حمل كاميرا!
لافتات كثيرة ترفع في كل تظاهرة جديدة، توثق رسوماً وصوراً ومطالب ما زال الشعب يخرج من أجلها كل يوم: كلمات مارتن لوثر كينغ، شعارات ومطالب تؤيد الحكومة المنتخبة وترفض التجنيس السياسي.
أخفيت وجوه الثوار بعد حملة قمع تبعت أحداث فبراير 2011. أرعبت الناس يد الجلاد. يد قتلت وسجنت وعذبت وجوهاً تم إظهارها على التلفزيون الرسمي واتهامها بالخيانة. خوف اعتقد الديكتاتور أنه قد تم حشوه بعمق في ذاكرة الشعب. فشلت الحملة المكارثية، ليعود الناس إلى الشارع بوجوه معلنة وبنفس طويل للحرية.
للمرأة البحرينية مساحة في قلب الصورة كما هي في قلب الثورة. فصل «حالة ورد» النسوي صنع مشهديتها الخاصة. حتى اليوم، دخلت أكثر من مئتي معتقلة سجون آل خليفة بسبب قصيدة، أو موقف، أو صرخة. صور كثيرة للمرأة الثائرة تتقدم ساحات النضال، لا يميزها سوى عباءتها وعلم بلادها الذي تصر على رفعه في كل مسيرة.
أهمية الصورة في الذاكرة البحرينية، تأتي من كل شيء داخل إطار ملعب الثورة. لكنه خارج إطار لعبة الديكتاتور عن شعب ظنّ أنه سيربح عليه بالتفتيش والمحو داخل ذاكرته الحية ومطاردة انتفاضة فوتوغرافية.