أصدر الصديق عبدالله بو حبيب في آذار 2019 كتاباً بعنوان «أميركا القيم والمصلحة، نصف قرن من السياسات الخارجية في الشرق الأوسط». والحقيقة أنّ قلة من اللبنانيين مؤهلة للكتابة عن أميركا، وعبدالله بو حبيب ينتمي إلى هذه القلة مع ميزتين: ميزة في اللغة، فجاء كتابه بلغة سهلة ومختصرة ومفيدة ولا حشو فيها ولا تكرار، وميزة في المضمون فالكاتب عليم بالعقل الأميركي، فهو من خريجي الجامعة الأميركية في بيروت في ستينات القرن الماضي، التحق في منتصف السبعينات بالبنك الدولي في واشنطن في عام 1976 لغاية 1983 حين عُين سفيراً للبنان في واشنطن حتى عام 1990، وعاد إلى البنك الدولي ليتبوأ موقع مستشار رئيسي لنائب رئيس البنك في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وليت بو حبيب كتب تجربته قبل سنوات، لكان جنّب لبنان العديد من الأخطاء في التعامل مع الولايات المتحدة الأميركية، وقد يكون العكس صحيحاً إلى حد ما.يتناول المؤلف أحوال المنطقة وأوضاعها المعقدة والمتفجرة، وقد استخلصت ثمانية دروس وفيها الأكثر بكثير.
• الدرس الأول يتعلق بعنوان الكتاب بالذات، فأقول: إن القيم تحفظها أميركا لنفسها وشعبها في الداخل، وتتعامل مع الخارج من منطق المصلحة. وبقدر ما القيم ثابتة إلى حد ما، فإن المصلحة تتبدل مع الظروف والأحداث، وبالتالي فإن الخطاب المبدئي أو العاطفي لا يفيد في التعامل مع أميركا. وحده خطاب المصالح المشتركة هو الخط السريع لأي تفاهم مع الأميركيين.
• الدرس الثاني يتعلق بإسرائيل «الحليف الذي الذي لا يُستغنى عنه» كما كتب المؤلف الذي أشار إلى أنّ واشنطن ملتزمة بالحفاظ على تفوق إسرائيل العسكري في الشرق الأوسط. والواقع أنّ كل الإدارات الأميركية المتعاقبة خلال نصف قرن دعمت إسرائيل، وكل كلام غير مطابق للمصالح الإسرائيلية يُتهم صاحبه بالسامية والعنصرية. ويذكرني هذا الدرس بما قاله موشي ديان في مذكراته التي أصدرها في عام 1976: «إنّ الولايات المتحدة الأميركية تقدم لنا المساعدات والنصائح، فنأخذ المساعدات ولا نعمل بالنصائح».
• الدرس الثالث أسماه المؤلف بـ «حماية مصادر النفط وتواصل تدفقه» وهذا أمر حيوي جداً بالنسبة إلى أميركا والغرب. وقد أقامت واشنطن لهذه الغاية قواعد عسكرية دائمة لقواتها في سلطنة عمان والبحرين والكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة والسعودية، ولكن لفترة معينة فقط. ويلفت الكاتب إلى أنّ الرئيس جورج بوش الابن كتب في مذكراته إنّ «علاقة أميركا مع المملكة واحدة من أكثر المسائل أهميةً. تحت أرض هذا البلد العربي السني، خِمس مخزون نفط العالم، وللسعودية نفوذ كبير مع المسلمين (حول العالم) باعتبارهم حراس المسجدين المقدسين في مكة والمدينة». ويلحظ الكاتب أنّ الاتفاقات الأميركية - السعودية على أساس الأمن مقابل النفط بقيت سارية المفعول إلى يومنا، مع تداول على الحكم سبع ملوك سعوديين وأربعة عشر رئيساً أميركياً.
• الدرس الرابع يتناول ما أطلق عليه المؤلف بـ«إيران العدو اللدود» الذي تعمل أميركا لإسقاطه وبالحد الأدنى لوقف تمدده في دول المشرق العربي في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين واليمن، ولوقف تأثيره على شيعة البحرين والمنطقة الشرقية من السعودية، ناهيك عن حزب الله في لبنان وحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة. وأصبح السلاح النووي الإيراني وحزب الله والجهاد الإسلامي أسباباً رئيسية لقلق دائم من قبل واشنطن وتل أبيب، على الرغم من توقيع اتفاق الغرب مع إيران على وقف إنتاج السلاح النووي العسكري وتحويله إلى أهداف سلمية بما عُرف بـ«اتفاق الخمسة زائداً واحداً». الدرس الرابع أن التراجع أحياناً هو بأهمية الهجوم، فقد عرفت إيران كيف تحافظ على إنتاجها النووي السلمي وسحب الذرائع لشنّ أي حرب عليها.
«تفاهم مار مخايل» أغضب بوش، فاندلعت في تموز 2006 الحرب لسحق «حزب الله»


• الدرس الخامس مخصص لما أسماه الكاتب بـ«سوريا العصية» التي بدأت فيها الحرب الأهلية في آذار 2011 وتوسعت تدريجياً لتصبح إقليمية ودولية. دعا الرئيس الأميركي باراك أوباما الرئيس بشار الأسد إلى التنحي على غرار ما فعله نظيراه التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك. لم ينصَع الأسد، فاتهمه أوباما باستخدام السلاح الكيميائي ضد المعارضة في غوطة دمشق في عام 2013، ورأى أنّه تخطى الخط الأحمر، وقرر ضرب سوريا في 30 آب 2013. تدخل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فحال دون الضربة الأميركية وعمل على تجريد سوريا من سلاحها الكيميائي والبيولوجي. وتجدر الإشارة إلى أنّ أوباما وعد الأميركيين خلال حملته الانتخابية بأن يعمل على إخراج الجيش الأميركي من العراق وأفغانستان، فكان من الصعب عليه أن يقحم جيشه في سوريا، فقرر ترك الأمر لروسيا لتغرق في الوحول السورية، كما غرق سابقاً الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، ولكن روسيا ليست الاتحاد السوفياتي، وسوريا ليست أفغانستان، هذا هو الدرس الخامس.
• الدرس السادس تكلم فيه الكاتب عن «حرب خاسرة» في العراق. فبعد أحداث 11 أيلول 2001، أمر الرئيس بوش الابن ببدء الحرب على العراق، ووصلت القوات الأميركية إلى مشارف بغداد في أقل من أسبوعين، فسارع لا بل تسرّع الرئيس الأميركي بإعلان انتهاء الحرب وإجراء الانتخابات. اختصر نائب رئيس الجمهورية الأميركية ديك تشيني في مذكراته الحرب على العراق كالآتي: «نُزيل صدام حسين، ونقضي على الخطر الذي شكله، ونعمل على إقامة حكومة تمثيلية». لكن ما حصل في الواقع هو عكس ما جرى التخطيط له، إذ أسهم انهيار صدام حسين في ظهور تنظيم «القاعدة» تحت عنوان مقاومة الاحتلال، وتحولت الحرب في العراق إلى حرب مذهبية بين السنّة والشيعة. وكتب بو حبيب «أن القوات الأميركية راحت تواجه حوالى ألف اعتداء في الأسبوع وارتفعت الخسارة البشرية إلى مئة أميركي شهرياً». وقد استحال على الجيش الأميركي الحلول محل مؤسسات العراق الأمنية والعسكرية. ويشير بو حبيب إلى أنّه «لا يمكن للجندي الأميركي أن يصبح شرطياً ناجحاً في شوارع بغداد». ولم يتفهم الأميركيون أنّ الانتخابات لا تولد الديمقراطية في بلد لم يمارس فيه الشعب ثقافة القبول بالآخر، واحترام حقوق الأقليات، والتداول على السلطة. وتبين أنّ من السهل للولايات المتحدة التغلب على العراق عسكرياً، لكن من الصعب جداً أن تربح السلام، وهذا هو الدرس السادس.
• الدرس السابع تناول فيه عبدالله بو حبيب الموضوع الفلسطيني وأطلق على هذا الفصل عنوان «السلام المفقود». وأشار إلى أنّ الرئيس بوش الابن قرر في تشرين الثاني 2003 الإعلان عن خريطة الطريق لحل الأزمة الفلسطينية باعتماد «حل الدولتين»، لكن مفاوضات السلام لم تصل إلى نتيجة ولم توقف الحرب، فتمسك بوش بشعار الحرية والديمقراطية لتغطية فشله في العراق وسوريا، وقد اعتادت أميركا تبرير تدخلها في شؤون الآخرين برفع شعارات الحرية والديمقراطية، كما اعتادت تبرير هزائمها نتيجة تدخلها برفع الشعار عينه، وهذا هو الدرس السابع.
• أما الدرس الثامن والأخير، فيتعلق بلبنان تحت عنوان «المحاولة الفاشلة». سرد المؤلف في كتابه مجريات الأحداث قبل وبعد اغتيال رفيق الحريري وصولاً إلى توقيع الجنرال ميشال عون والسيد حسن نصرالله «تفاهم مار مخايل» في 6 شباط 2006، ما أغضب الرئيس الأميركي، فاندلعت في 12 تموز 2006 الحرب لسحق «حزب الله»، وكان المتوقع لها أن تنتهي خلال أسبوع ظناً «أنّ لبنان كعب أخيل سوريا وحزب الله أيضاً». لكن الحرب امتدت إلى ثلاثة وثلاثين يوماً وتحولت إلى كعب أخيل لإسرائيل. وكان جورج بوش الابن متعطشاً للنصر، فأطال زمن الحرب كي تحقق إسرائيل أهدافها، وكان ديك تشيني يرفض مشاريع وقف إطلاق النار بقوله: «اتركوا إسرائيل تُنهي عملها». ولكن لم تستطع إسرائيل إنهاء عملها، وهذا هو الدرس الثامن: إنّ الجيش الإسرائيلي الذي كان لا يُقهر، قهرته المقاومة اللبنانية، واضطر لوقف إطلاق النار وما زالت صورايخ حزب الله تشكل تهديداً لأمن إسرائيل القومي.
لم ينتهِ كتاب عبدالله بو حبيب عند صدوره لأنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب اتخذ ثلاثة قرارات بدلت قواعد اللعبة في الشرق الأوسط. قرر ترامب نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأعلن اعترافه بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان المحتلة، وهو على أهبة تأييد قرار إسرائيل بضم كامل الضفة الغربية تدريجياً. أسقط ترامب «حل الدولتين»، وأعلن نتنياهو في مطلع آذار الماضي: «أقول بشكل لا لبس فيه لن تقوم دولة فلسطينية». وفي ظني أنّ دونالد ترامب أدخل أميركا في سياسات جديدة في الشرق الأوسط قد تكون أسوأ مما كانت عليه هذه المنطقة في نصف القرن الماضي.
* سياسي ومحامي لبناني