فيلم لهيروكازو كوريدا يعني «دراما عائلة» من عيار ثقيل، وطراز نفيس. المعلّم الياباني (1962) بارع إلى حدّ مدهش في نسج شخوص وعلاقات داخل الأسرة، مستخرجاً الجديد واللامع في كلّ مرّة، رغم تقليديّة الطرح للوهلة الأولى. يلعب على ثلاثيّة الذاكرة والفقد والموت. يحيل «صدمة» حاضر (رحيل أب أو أخ، انتحار زوج، جريمة، اكتشاف مذهل...) على تاريخ عائلي ملتبس، وروابط تخفي أكثر ممّا تظهر، بغية الوصول إلى خلاص أو نوع من التسوية المقبولة مع الذات والمحيط. هذا لا يعني ربحاً أو نهايةً سعيدةً، بل الحياة التي تفرض نفسها وماهيتها على الجميع. يجد القوّة والرقّة في أبطاله في آن. يصنع رهافةً استثنائيّة في العلاقة بين المرئي واللامرئي، بين الظاهر والباطن، بين الحاضر والغائب، بين البارز وما تحت السطح. علاقة حميميّة، شعريّة، فيّاضة بالأحاسيس والشجن والبحث النفسي. تعبر القطارات الضواحي الهادئة بين طوكيو وهوكايدو. يستوي الطعام الياباني في المطابخ، مضفياً ألفةً على البيت برمّته. الأطفال في أدوار بطولة غالباً. تكبر الأعضاء تحت سراويلهم صباحاً فيما ينضجون. تعصف السماء. تثلج، ملقيةً تأثيرها على النفوس والأفئدة. مشاهد شديدة الحياتيّة. احتفاء بالتفاصيل الصغيرة. إيقاع هادئ. توليف مضبوط على يد الصانع نفسه. ضربات بيانو متقشّفة بين حين وآخر. ميلانكوليا لا تلغي الضحك واللحظات الصافية. لا ميلودراما. لا صراخ. لا مبالغات. هكذا، يتشكّل عالم محبّب على الشاشة. لنا أن نميّز شريطاً لهيروكازو بعد دقائق على متابعته.ذلك أنّ قصّة نجاح ابن طوكيو ازدهرت على مهل، منذ طفولة في قاعات السينما بدلاً من صفوف المدرسة. افتتان بأعمال أوزو وكوروساوا ورينوار وتروفو وفيليني، لكن من ناحية السيناريو لا الإخراج. يتكوّن الحلم في أن يكون روائياً وسيناريستاً. دراسة ذلك في جامعة «واسيدا» مرهقة لناحية حصص اللغة (ساعتان لغة إنكليزيّة، وضعفها صينيّة)، فيتحوّل التحصيل الأكاديمي إلى السينما. التخرّج عام 1987. البدء كمخرج مساعد في وثائقيات التلفزيون. إذاً، يُصقَل «هوس» الكتابة بحبّ الرواية، وممارسة التوثيق، وخبرة الميدان. يغدو كوريدا الوريث الشرعي للكبير ياسوجيرو أوزو. هو يعترف بتأثير كين لوتش عليه. نلمح قربه من شغل الصيني هو هسيان هسين والماليزي ساي مينغ ليانغ، إضافةً إلى بعض من مايكل هاينكه ونوري بيلج جيلان. يصبح أحد أهم سينمائيي العصر الحالي، وأكثرهم انتظاراً، وأغزرهم إنتاجاً بين روائي ووثائقي وتلفزيوني. عشرات المشاركات الدوليّة، وتتويجات في كان والبندقية وسان سيباستيان وشيكاغو وفانكوفر وميونيخ وأبو ظبي.
بعد تناول علاقات وأزمات منزليّة في أفلام كثيرة، مثل «بعد الحياة» (1998)، و«ما زلت أسير» (2008)، يتنوّع كوريدا في المنظور والعمق، وصولاً إلى السؤال الجذريّ في تحفته «الابن سرّ أبيه» (2013 ــــــ جائزة لجنة التحكيم في «كان»): ما هي العائلة حقاً؟ هل يصنعها الرابط البيولوجي فقط أم مشتركات أقوى؟ أليس العيش والتربية أرسخ من الجينات والدم؟ الهاجس يصبح أكثر إلحاحاً وذكاءً في جديده «سارقو المتاجر» (2018 ـــــ 121 د.) الفائز بسعفة «كان» الفائت، كأوّل شريط يابانيّ منذ «ثعبان البحر» (1997) لشوهي إمامورا. تُضاف إلى ذلك ترشيحات أوسكار وغولدن غلوب وبافتا، وتتويجات أفضل فيلم أجنبي في السيزار وميونيخ وبالم سبرينغز. من خلال أسرة تمتهن سرقة الدكاكين والمحلّات، يُطرَح نقاش البنية والتكوين. ليس كأفراد فقط، وإنّما كحضور وانتماء إلى بيت بالدرجة الأولى، ثمّ إلى مجتمع كامل، بشكل أشمل من «لا أحد يعرف» (2004 ــــ أفضل ممثّل في كان).
يعتبر كوريدا أحد أهم سينمائيي العصر الحالي، وأكثرهم انتظاراً، وأغزرهم إنتاجاً


نحن في ضواحي طوكيو الفقيرة. عائلة تعيش على الحافّة. تتدبّر قوتها يوماً بيوم. أثناء عودة الزوج والولد من رحلة سرقة اعتياديّة، يعثران على طفلة وسط البرد. يأخذانها إلى عشاء الأسرة الدافئ، على أن يعيداها لاحقاً. الحروق والندوب في جسدها، وأصوات شجار أهلها، ينسف النيّة كليّاً. يقرّرون إبقاءها عندهم. بهدوء وتؤدة، يرسم كوريدا بورتريه عمّن يعيش ويكدّ على الهامش طوال حياته، من دون أمل في حياة أفضل. مهنهم مسخّرة لجعل معيشة غيرهم أكثر هناءً. «أوسامو» (ليلي فرانكي) يكدح في البناء. «نوبويو» (ساكورا أندو) تنظّف وتكوي في مصبغة. «آكي» (مايو ماتسوكا) تهزّ ثدييها لمتفرّجين خلف الزجاج. وفق ذلك، يأتي فعل السرقة كنوع من التحقق والانتقام من بنية كاملة، ناهيك عن فائدته المباشرة. الدليل أنّ غنائم هؤلاء اللصوص لا تتجاوز كيس طعام أو علبة شامبو أو قطعة حلوى. صحيح أنّه تصويب على سلطات لا تبدي اكتراثاً أو حتى معرفةً بوجودهم، إلا أنّ هيروكازو يفضّل إبقاء الجانب الأخلاقي ضمن أطفال العائلة نفسها. هل ما نفعله صواباً؟ بالتأكيد، لأنّ ما يوجد في المتاجر لم يصبح ملك أحد بعد. لا بأس طالما أنّ المحل لم يفلس!



هنا، يأتي التناقض الجميل. ثمّة دفء وحنان بين أفراد العائلة، ولكن «الحبل السرّي» هو الحاجة والاستغلال. «أوسامو» يعطف على الصغيرة «يوري» (ميو ساساكي). يريد من «شوتا» (جيو كيري) أن يناديه «أبي»، غير أنّ كل ذلك مرتبط بمصلحة السرقة أصلاً. الجدّة ليست أفضل حالاً بطريقة أخرى. هذا لا يلغي أنّ حنانها حقيقي. من جانبهم، يظهر الأبناء أكثر صدقاً وإخلاصاً لبعضهم ولأسرتهم. في لحظات مفصلية، هم الأكثر نضجاً وانتماءً وثباتاً أخلاقياً. كوريدا ينتصر دائماً للجيل الجديد. يراه أكثر يقظةً ووعياً وحرصاً على الضمير. يثق في قدرته على تحمّل المسؤولية، والإمساك بزمام الأمور، بل تحقيق المعجزات. «أتمنّى» (2011)، و«بعد العاصفة» (2016)، و«الجريمة الثالثة» (2017) أمثلة على ذلك.
مفاجآت صادمة تتوالى في الفصل الأخير. مسلّمات وبديهيات تصبح على المحك، ما يجعلنا نتساءل عن حياتنا كذلك. بتقدير التفاصيل والمنمنمات، وروعة النعم البسيطة، ومستوى رفيع من إدارة الممثّل، يحقق كوريدا أجمل أفلامه. تحفة عن معنى العائلة، والنضج، والفرص الثانية، والتصالح مع ماضٍ وواقع وذات... عن التسامح في أجمل صوره، والإنسان بحلوه ومرّه وتقلّباته التي لا تكتفي من الدهشة.

* «مهرجان متروبوليس لسينما الشباب»: بدءاً من اليوم حتى 14 نيسان ـــ «متروبوليس أمبير صوفيل» ـ للاستعلام: 01/204080
* تنطلق عروض «سارقو المتاجر» اليوم في «سينما سيتي أسواق بيروت»، و«أمبير بروميير» و«متروبوليس أمبير صوفيل».



الدورة الرابعة من المهرجان: برمجة متنوّعة ومكثّفة
إنّها الدورة الرابعة من «مهرجان متروبوليس لسينما الشباب» (MY Film Fest) (11 – 14 نيسان/ أبريل)، في «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية). الحدث (تأسّس عام 2016)، تنظّمه «جمعيّة متروبوليس»، بالتعاون مع السفارتين الدنماركية والأميركية في بيروت، و«المعهد الدنماركي المصري للحوار»، و«المعهد الفرنسي في لبنان». هذا جزء من مبادرة «سينما على الطريق» (انطلقت في حزيران/ يونيو 2015)، التي تهدف إلى محو الأميّة السينمائيّة لدى الأطفال من سن الـ5 فما فوق، من خلال ثلاثة أجزاء: عروض التوعية في مخيمات اللاجئين والتجمّعات غير الرسميّة، ونادي سينما الموبايل في المدارس العامّة، ومهرجان متروبوليس لسينما الشباب.
برمجة متنوّعة، مكثّفة، نظراً إلى مدّة المهرجان. تتناسب مع مختلف الشرائح العمرية من سنتين الى ما فوق 18. تتضمن 7 أشرطة طويلة، من بينها فيلم مفاجأة. 4 برامج للأفلام القصيرة. حفل موسيقيّ لعازف البيانو مارك إرنست، مرافقاً كلاسيكيّات قصيرة لشابلن وباورز وآخرين، إضافةً إلى 3 ورشات عمل.
الافتتاح بجديد المعلّم الياباني هيروكازو كوريدا «سارقو المتاجر» (11 نيسان س: 8 مساءً)، الفائز بسعفة مهرجان كان السينمائي، حول عائلة فقيرة تمتهن سرقة المحال والدكاكين.
يُعرَض أيضاً «ذكرى لا تنسى لصديق» (2018، 28 د. – 12 نيسان س: 7 مساءً) لوسام شرف. جديد السينمائي والصحافي والمصوّر اللبناني الفرنسي (1973) نال أخيراً جائزة لجنة التحكيم في مهرجان هيروشيما السينمائي الدولي. يرجع إلى إحدى مدارس بيروت عام 1985. «شادي» (رالف هلالي) طفل متفوّق في الـ13 من العمر، إلا أنّه قصير القامة. يكتشف إمكانية جني المال من مساعدة زملائه في وظائفهم. يستغل الأمر لجذب اهتمام الجميلة «ريا» (ناتالي عيسى)، وإبعادها عن الطلاب الأطول منه. عرفنا شرف في عناوين عديدة. الروائي الطويل «من السماء» (2016، 71 د.) عن ميراث الحرب الأهليّة ضمن جوّ من العبث والهذيان. كذلك، الروائي القصير «جيش النمل» (2007) عن هوس السلاح، والوثائقي الطويل «كل هذا وأكثر» (2012، 62 د. – التانيت البرونزي في «أيام قرطاج السينمائية» 2012)، عن صورة بلد أنهكه الاحتراب، من خلال ثلاث شخصيّات، هي رفيق الحريري، حسن نصر الله وهيفا وهبي، استناداً إلى باروديا حول شعار وزارة السياحة اللبنانيّة. قبلهما، أنجز روائيين قصيرين، هما: «هز يا وز» (2004)، و«البطل لا يموت أبداً» (2006). أيضاً، شاهدنا له روائياً متوسط الطول، هو «فيما بعد» (2016، 34 د)، عن أرواح ضائعة، وجغرافيا خالية معادية لأبنائها. وثائقي «شيف فلين» (2018، 82 د. – 12 نيسان س: 8 مساءً) يتابع قصّة النّجاح الملهمة لطفل بدأ خطواته الاحترافيّة في عالم الطهي في سنّ العاشرة، محوّلاً غرف منزله إلى مطعم متنامي الشهرة.
بالتزامن مع جولته العربيّة في الإمارات وتونس، يعرض أنيماشن «البرج» (2018، 79 د. – 13 نيسان س: 4 مساءً) للنرويجي ماتس غرورد، إثر جائزتين في المهرجان الدولي لأفلام الأطفال في شيكاغو، ومشاركات دوليّة عديدة. الطفلة «وردي» تعيش في مخيم للاجئين الفلسطينيين في لبنان. تقوم بالتعرّف إلى تاريخ عائلتها، من خلال قصص يحكيها لها ثلاثة أجيال سابقة من اللاجئين. أداء الأصوات لكلّ من: رومانيا عدل كسرافي، محمد بكري، نجلاء سعيد ومراد حسن. غرورد درس الرسوم المتحركة في جامعة فولدا، وتابع في الدنمارك وبيروت وبكين. حالياً يُدير شركة إنتاجه الخاصة Nubbsjangs Productions حيث يطوّر مشاريع أفلامه، إضافة الى تدريس الرسوم المتحركة.
من البرازيل، يصل أنيماشن «تيتو والطيور» (2018، 73 د. – 14 نيسان س: 5 مساءً) لغوستافو شتاينبيرغ وغابريال بيطار وأندريه كاتوتو. مرض الخوف يجتاح العالم، فيبدأ «تيتو» مع أصدقائه مغامرة البحث عن علاج، استناداً إلى بحث أبيه المتعلّق بالطيور.
تحيّة الختام بجديد فيليب ليساج «تكوّن» (2018، 129 د. – 14 نيسان س: 8 مساءً) الآتي من لوكارنو وتسالونيكي ومونتريال، حول ثلاثة مراهقين في تجاربهم الأولى، وإصرارهم على الحق في الحبّ والحريّة.
علي...