ربما هي الحكاية الأبدية في «توصيف» المرأة وعذاباتها، تلك التي تطرقها المخرجة والكاتبة المسرحية لارا قانصو في عملها الجديد «غياب» الذي يعرض على خشبة «دوار الشمس»: أربع نساء يخضن في خمسة كتبٍ والملايين من الحكايا. الأرملة «الشامان» (نسبة لفكرة الحكيم/ ة الهندي في قبائل السكان الأصليين في القارة الأميركية) التي تذهب إليها الفتيات بحثاً عن «الراحة»؛ الفتاة المعنّفة المحاصرة بعنفٍ داخل مجتمعها، الأخرى التي تنجب خارج الزواج؛ الرابعة التي يقطع والدها رأسها ويدور في القرية باحثاً عن «شرفه». كل هذا بالتأكيد لا يكفي الكاتبة/ المخرجة. إنها تريد المزيد. تغوص في كتبٍ تعتبرها بوابةً للنقاش في المسرحية لا مجرد ارتكازٍ عليها: روايات «ضاغطة» كونها تقارب المأساة الأنثوية/ البشرية بكل توحشها وقسوتها، مثل «أفروديسيا الأرملة» (1938) للكاتبة الفرنسية/ الأميركية مارغريت يورسنار، و«رجم ثريا» (1990) للصحافي الفرنسي (من أصل إيراني) فريدون صاحب جم، و«الانتحار أو الغناء» (1994) للفيلسوف والشاعر الأفغاني سيد بهاء الدين مجروح. أضف إلى ذلك المخزون الهائل من المشاعر، دراساتٍ معمقة لا في الأنوثة/ الأنثوية فحسب، بل أيضاً في الفكر البشري عموماً مع كتابين مهمين مثل «نساء يركضن مع الذئاب» لعالمة النفس الأميركية كلاريسا بنكولا إستس، و«اختراع التاريخ» للفيلسوف الفرنسي جورج ديدي هوبرمان.إذاً تغوص قانصو عميقاً لا بحثاً عن إجابات في ما يتعلّق بالمرأة/ الأنثى التي تحاول مقاربة حكايتها من جميع الجنبات. إنها حكايةٌ ورحلة شديدة القسوة تحفّ بها المخاطر من كل ناحية: قسوة المجتمع، العائلة، البيئة المحيطة، وكذلك الأنظمة التي تفعل كل ما تقدر عليه لتمارس المزيد من القمع على المرأة. تروي إحدى بطلات المسرحية بسرعةٍ تاريخ «إعدامات» المجتمع لفتياتٍ ونساء «حقيقيات» تحت حججٍ ومسمياتٍ مختلفة. هنا يحضر السؤال: هل لارا قانصو «نسوية» (بالمعنى الشائع لكلمة feminist)؟ تجيب بسرعة وبديهية: «لا لستُ كذلك، أنا أصوّر المرأة كما أراها وأحسّها، لا أعمل بهذه الطريقة». إذاً هي تحاكي عذابات النساء عبر هذه القصص المأخوذة من الروايات كما من الأبحاث التي تناولتها. تقارب المسرحية بالتأكيد جسد المرأة كونه وعاءً «مقدساً»، فهذه «القدسية» هي التي تجعله هو ذاته «جسد المأساة والعقاب» في آنٍ واحد. يغيب الرجل في المسرحية، لكنه يبقى كالقدر في المسرح الإغريقي، مطلاً عبر تأثيره المباشر وغير المباشر على الحيوات التي تعيشها بطلات العمل: إنه المعشوق، والحبيب، والصديق، والأب، والأخ، ومسيّر المجتمع ومن يسنُّ القوانين الظالمة و«العادلة». إنه يغيب جسداً عن المسرح، لكنه يظل هاجساً متربصاً في كل لحظة.
أدائياً، تطل أربع نساء على الخشبة: قدمت ضنا مخايل صورة مختلفة عن المرأة، تمزج بين عمرها (هي أكبر سناً من زميلاتها) وحجمها (بنيتها الجسدية أكبر)، ما يعطيها جانباً اتساعياً وعمرياً يعزّز حضورها كأم، وكحكيمة، وغيرهما من الأدوار التي تقمصتها على الخشبة. في دور الأم التقليدية، نراها ترفض «ابنتها» بحجة التقاليد والعادات ضمن منطوق: «يا ريتني ما خلفتك قبل ما تعملي هيك». هنا لا يهم ما هو «الهيك»، المهم هو «العيب». ستيفاني كيّال بدورها تقدّم شكلاً مختلفاً لشخصيتها. تبدو في مشهد «الشتاء» محاصرةً بأشباحها وشياطينها الداخلية التي تودي بعدد كبيرٍ من الفتيات إلى القبول بالمجتمع وبظلمه تحت حججٍ مختلفة. حتى حين تحاول إظهار قليلٍ من «فرح»، تظهر مهارة كيّال، فتعطي فرحاً «حزيناً، مستعجلاً ومفتعلاً». تؤدي ماري تيريز غصن دورها بنوعٍ من التلقائية العفوية، ما يضفي جانباً لطيفاً على المسرحية، فتبدو الفتاة «البريئة/ الضحية» التي يصل بها الأمر حد الموت في لحظةٍ ما. حتى حين تحاول رفع صوتها، يأتي الصوت مبحوحاً خافتاً. أما الممثلة السورية نوار يوسف، فهي واحدة من اكتشافات المسرحية، إذ تؤدي بحرفةٍ تليق بالممثلات السوريات، خصوصاً في مشهد «البحر المتلاطم» حيث تلعب دور المرأة الضائعة باحثةً عن حبيبها الذي قطع رأسه.
سرد لـ«إعدامات» نساء تحت حججٍ ومسمياتٍ مختلفة


على الجانب الآخر، تعبت المخرجة اللبنانية في تصميم سينوغرافيا صوتية ومكانية تشابه ما تريد تقديمه: إنها حياة متلاطمة، متعددة الدرجات والطبقات. سعت مع مؤلف الموسيقى عبد قبيسي إلى تقديم مادةٍ حيةٍ للغاية. شاهدنا موسيقى organic تشبه الطبيعة أكثر من أي شيءٍ آخر. على الجانب الآخر، هي لم تنس الشق المشهدي، فقدّمت صورةً «حيةً» في كل لحظات المسرحية. وإذا كانت الفتيات لا يهدأن، فإن الديكور هو أيضاً يشارك في العملية. نجد مشهد «البحر المتلاطم» الذي أدى ما هو مطلوبٌ منه بجدارة، فيما مشهد «الشتاء» أقرب إلى السريالية في لحظةٍ ما. تعرف لارا قانصو استخدام البيئة المسرحية بشكلٍ كبير، حيث تبدو الإضاءة ذكية، والديكور جزءاً لا يتجزأ من العمل. إنها مسكونة بالجمالية كما تقول: «أنا مسكونة بشكلٍ كبير بالمشهد. أنظر إلى المشهد وأتابعه، إن أحسست بأنه أعجبني، أواصل استعماله، إن لم يفعل، أغيّره حتماً. جمالية المشاهد هي أساسٌ في عملي، وهذا أمرٌ لا أتنازل عنه البتة».

* «غياب»: 20:30 حتى 14 نيسان (أبريل) ــ مسرح «دوار الشمس» (الطيونة) ــ للاستعلام: 01/381290