أسئلة كثيرة وعلامات استفهام أكثر يطرحها الحكم الذي صدر أمس عن محكمة المطبوعات في بيروت برئاسة القاضي روكس رزق، وقضى بسجن جان الياس عاصي لمدة شهرين. الشاب اللبناني المتهم بـ«تحقير بالقدح والذم برئيس الجمهورية ميشال سليمان وتحقير شخصه والتعرّض لكرامته عبر تويتر»، كان قد استدعاه «مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية والملكية الفكرية» في حزيران (يونيو) الفائت للتحقيق معه في تهمة «الإساءة إلى رئيس الجمهورية ميشال سليمان».
جاء ذلك على خلفية مجموعة تغريدات كتبها على حسابه الشخصي على تويتر، قبل أن يطلق سراحه بضمان سند إقامة. وبعدما تفاعلت القضية ونالت حيزاً واسعاً من النقاشات حينها، «لُفلف» الملف على الطريقة اللبنانية، ليعود الآن إلى الواجهة بحكم سجن صارخ.
لماذا اليوم؟ وماذا تعني «الذات الرئاسية» التي يحرَّم المس بها؟ وإن كان كذلك، فهل الحبس هو العقاب الأعدل والأمثل؟ وماذا عن «الأنا الملكية»... من أين استوردها «بلد الحريات» الذي شهد أيضاً قبل سنوات التحقيق مع الفنان زيد حمدان بسبب كليب «جنرال سليمان»؟ وماذا عن محكمة المطبوعات التي ضاعت في الفضاء الإلكتروني وفقدت القدرة على ترسيم الحدود بين الصحافي، والناشط وحتى الأشخاص العاديين، هل يحقّ لها أن تصدر أحكاماً على مواطنين يسبحون في ذاك الفضاء بحرية، علماً أنّ جان يعمل كمطوّر لمواقع إلكترونية Web developer، أي أنه لا يمت للصحافة والنشاط الاجتماعي أو المدني بصلة؟
في رد فعل أولي على حكم السجن، ينفعل كثيرون مطالبين بحرية مطلقة للرأي. لكن لدى التوقف برهة عند تغريدات عاصي، نجد أنّها مليئة بالشتائم حتى وصلت إلى درك السوقية والرداءة. هذا من جانب عاصي، أما من جانب «الذات الرئاسية» التي يفوح منها عبق العهود الملكية البائدة، فقد تركت ملفات البلد العالقة بما فيها من أمن سائب وفقر وجرائم، لـ«تفش خلقها» بمغرّد «طائش» وتزج به في سجن الحريات الذي لطالما تغنينا ببعدنا عنه. هذا أقلّه ما عبّر عنه المتضامنون مع جان عاصي على تويتر أمس.
في حديث مع «الأخبار»، تقول المحامية ندين فرغل إن «القانون اللبناني يجرّم التعرّض لرئيس الجمهورية. وبغض النظر عن المنصب والصفة، فإنّ ما كتبه جان عاصي يصبّ في خانة القدح والذم والسبّ، وهي تهمة يعاقب عليها القانون الجزائي لو صدرت بحق أي شخص عادي بغض النظر عن صفته». أما عن تويتر كمساحة حرة مفترضة وتعرّضها لرقابة بهذا الشكل، فتقول فرغل «الموقع ككل المساحات المرئية، والمسموعة، والمكتوبة، خاضع للقانون اللبناني، أي أنّه لا يوجد منع أو حدود أو تجريم إلا بنص قانوني».
وفي ما خص مصدر الحكم وهو محكمة المطبوعات المختصة حصراً بالصحافيين، تعتبر فرغل أنه «بغض النظر عن الوضع المزري الذي يحيط بالقوانين الراعية للإعلام على أنواعه في لبنان، أكان من ناحية نوعية أو النقص في القوانين، فلا يمكن اعتبار صفحة شخصية لانسان عادي وسيلة نشر صحافية، وجان عاصي ليس صحافياً. بالتالي، لا يمكن تطبيق قانون المطبوعات بأي وجه من الأوجه. والاجتهاد في هذا الاتجاه يعتبر هرطقة».
إذاً الطرفان وقعا في فخ «الهرطقة»؟ تذكر فرغل في هذا الإطار أنّ المحاكم الفرنسية كانت قد أصدرت قرارات اعتبرت بعض صفحات الفايسبوك مساحات عامة وإن كانت شخصية، نظراً إلى تمكّن أي مستخدم لها من الإطلاع عليها. بمعنى آخر، يمكن اعتبار المساحة العامة وسيلة نشر، لكن لا يمكن تصنيفها أو تصنيف ما ينشر في متنها على أنه مادة صحافية.
في هذا السياق، يشير الخبير القانوني في مؤسسة «مهارات» المحامي طوني مخايل لـ«الأخبار» إلى أن «محكمة المطبوعات تشددت في حكمها على جان عاصي، وإن كان فعل القدح والذم واضحين في فعلته». ويضيف: «لطالما اقتصرت عقوبات الإدانة في جرائم النشر على الغرامة أو الحبس في حال غياب المدعى عليه عن حضور الجلسات»... فلماذا لم تعمد المحكمة إلى هذه العقوبة بدلاً من السجن؟
كذلك، يعتبر مخايل أن ما تفوّه به جان عاصي «لا يدخل ضمن حرية التعبير»، لكنه تخوّف في الوقت عينه من حالة «حذر في التعبير بين أوساط النشطاء والمدونين من الآن فصاعداً، وتحول الأحكام الصادرة عن محكمة المطبوعات في هذا الخصوص إلى فزاعة تثني المواطنين عن التعبير عن رأيهم بحرية».
ولفت مخايل إلى أنّ «العقوبات في قضايا الرأي والتعبير تتجه إلى تطبيق نظام الغرامات المالية المخففة من دون عقوبات الحبس»، أي أنّ جمعية مهارات «لا تدافع عن جان عاصي لكنها لا تؤيد حكم الحبس». من جهته، يقول جان عاصي لـ «الأخبار» بأنّه يستعد لاستئناف الحكم فور عودة محاميته مي خريش من السفر.




استنكار وشجب

فور انتشار خبر الحكم بالسجن على جان عاصي، استنكر نشطاء المواقع الاجتماعي ذلك، وراج استخدام هاشتاغ «كلنا_جان_عاصي» كتضامن معه، بالإضافة إلى حملات واسعة من التغريدات التي ذكرت الرئيس ميشال سليمان بالاسم وطالبته بالرحيل. كما انتشرت بعض الصور القائلة: «أهذا سليمان أم مرسي؟ لسنا أكيدين». وقلل آخرون من شأن «القدح والذم» مقارنة بما آلت إليه أوضاع البلد، مثل تغريدة: «إذا الشتيمة عقابها السجن، تعوا زقوا 4 ملايين لبناني بيسبوا الدولة من كبيرها لزغيرها كل ما نزلوا بجورة». في المقابل، وكما في النقاشات الأولى لدى اعتقاله، أيد بعض المغردين الحكم، معتبرين أن عاصي «انتهك حرمات الأخلاق ويجب أن ينال جزاؤه».