لندن | انكشفت اللعبة منذ بعض الوقت ولم يعد سهلاً تسويق أكوام البروباغندا التي أنتجها أنصاف مثقفين سوريين وعرب وحتى غربيين لمصلحة واجهات الإعلام الغربي كجزء من مجهود الحرب الناعمة المساندة للعدوان العسكري على سوريا. هؤلاء وجدوا أن طريق الثراء وأبواب الهجرة إلى الغرب، تفتح لهم بقدرة قادر ما داموا مستعدين للانخراط في برنامج ضخم لنشر الدعايات الأيديولوجية المعادية للنظام في قنوات الفن والأدب والثقافة والسينما. هكذا، أصبحت صالات الفنون في برلين ولندن وباريس منشغلة بأعمال تشكيليين سوريين يصورون شظف العيش في ظل الديكتاتور، وتتسابق دور النشر المعروفة بعلاقاتها الوثيقة بالأجهزة الاستخبارية الغربية لإغراق الأسواق بروايات عن السجن والهجرة والبطولات الثورية المزعومة تترجم إلى اللغات الغربية قبل أن توزع نسخها العربية (من بيروت تحديداً وتلك قصّة أخرى)، بينما أصبحت الأعمال السينمائيّة المعادية لسوريا مرشحة تلقائيّة للفوز بأوسكار أو سعفة أو دب ذهبي في واحد من مهرجانات الغرب بغضّ النظر عن قيمتها الفنية. لكن الحقيقة أنّه رغم الدعم الكثيف والاستثنائي مالياً ودعائياً، فإن هذه المنتجات بقيت ضعيفة المحتوى تبدو في مجملها موجهة للجمهور الغربي أكثر منها للجمهور المحلي ودائماً وفق توجهات الجهات الممولة ذات الأجندات غير البريئة إطلاقاً.

هذا الإطار لا بدّ منه كمدخل لقراءة فيلم المخرج السوري طلال ديركي «عن الآباء والأبناء» (2017 ـــ 99 د) الذي يروي تفاصيل حياة جهادي قاعدي يقيم وأسرته (ثمانية أبناء وزوجتان) في إحدى قرى إدلب شمال سوريا. ديركي كان من الرعيل الأوّل من المصورين السوريين الذين اكتشفوا منجم الذهب المسمّى الإعلام الغربي المعادي لسوريا. انطلق يسجّل الأحداث وفق مقاسات محددة حيث لا تصل الكاميرات العالميّة، ويهربها من هناك إلى بيروت ــــ في الملابس الداخليّة لزوجة المستقبل بحسب مقالة لصديقة العائلة منشورة على الإنترنت ـــ حيث ورشات عمل «سي. إن. إن»، و«رويترز» و«فرانس برس»، و«بي. بي. سي» المتخصصة في الشأن السوري. بعد فيلمه الوثائقي «العودة إلى حمص» (2013)، قرر أن يعيد الكرّة وينتج شيئاً جديداً على نفقة رعاة ألمان كرماء وبدعم قطري، لكن هذه المرّة من إدلب، حيث الجيب الأخير في الشمال الغربي الخارج عن سلطة الدولة السورية، ومستفيداً من شبكة علاقاته الكثيفة بالتنظيمات الجهادية التي تعود للسنوات الأولى من الحرب.
رغم ذلك كلّه، فإن فكرة أن يسجّل أحدهم وثائقيّاً عن وقائع العيش اليومي في الإمارة الإدلبيّة، تبدو مثيرة للاهتمام مهما كانت مرجعيّة صانع الفيلم، بالنظر إلى أن تلك المنطقة تبدو للمراقب من بعيد كأنها ثقب أسود. وتزداد الإثارة بعد ترداد ديركي ادّعاءه بأنّه خدع جبهة «النصرة» طوال عامين وأقنعها بتعاطفه مع قضيتها وأنّه يرغب في تقديمها للعالم من خلال فيلم وثائقيّ يصوره في بيت أحد الجهاديين المحليين.
النتيجة مخيبة للآمال. فالفيلم لا يمكن قبوله كعمل وثائقي من حيث المبدأ. تبدو أحداثه مصطنعة وحواراته مفتعلة وشديدة السطحيّة، فكأنه نسخة رديئة من «كفرناحوم». ويُقدَّم الجهاديّون المحليّون فيه أناساً جهلة بسطاء يستمتعون بسفك الدماء ويقاتلون العالم بأسلحة بدائيّة وينقلون ثقافتهم المريضة لأبنائهم الذين سيكبرون ليكونوا وحوشاً أبشع من آبائهم، لكنهم مع ذلك لطيفون وإنسانيون وحتى مثاليون حدّ السذاجة، من دون أن يقدّم أدنى تفسير لمنطلقات هؤلاء أو دوافعهم أو مدى تغلغل علاقاتهم بـ «أصدقاء» سوريا تمويلاً وتسليحاً وتوجيهاً. لقد اختار ديركي أن تتعامى عين كاميرته عن الحقائق الأهم، واكتفى بتقديم صورة أكزوتيكية تتوافق تماماً مع نظرة العقل الاستشراقي المريض لنموذج ذلك الإسلامي الشرقي المتوحش والمتخلّف والمتطرّف الذي يصنّع القنابل البدائيّة في البيت بوجود الأطفال ويُقصي النساء ويقسو عليهن. وهو لذلك خطر على البشريّة جمعاء. تلك صورة تخدم المؤسسة الغربيّة التي تعمل بحرفيّة على تمويه الصراع الطبقي في بلادها وتمديد هيمنة القلّة فيها من خلال بناء انقسامات أفقيّة بين فئات المجتمع بسلاح الحروب الثقافيّة المزعومة بين الإسلام والغرب، والتلويح الدائم بالغول القادم من الشرق أو كذبة تنظيم «القاعدة» الذي لم يكن يوماً سوى فرانكشتاين أنتجته مختبرات المخابرات الأميركية والبريطانية والألمانية والإسرائيلية بالتعاون مع زميلاتها السعودية والمصرية والأردنية والباكستانية.
إيقاع الفيلم شديد البطء يوقع المشاهد في الملل. كما أن استبعاد مشاهد العنف المباشر، أفقده علاقته بمحيطه حتى يمكن أن تكون القصة صوّرت في منزل سعودي أو أندونيسي أو نيجيري لا في سوريا من دون أن نلحظ شيئاً. تقنياً الصورة سيئة ويظهر الأطفال الصغار فيها قبل مقاتلي «القاعدة» شديدي الاعتياد على التصرف بطبيعتهم أمام الكاميرا. وهذا أمر لا يحدث في فيلم يفترض أنّه وثائقي. كما أن حركة الكاميرا مغرقة في بدائيتها ومليئة بلقطات كليشيهيّة الطابع ومفتعلة بالكامل، بينما تبدو أسئلة ديركي القليلة لأبو أسامة – شخصيّة الفيلم الأساسيّة – استدراجيّة الطابع، لا سيّما في الحوار الأخير معه حول معركة الهرمجدون الأسطورة التوراتيّة التي يحب سماع أخبارها المتصهينون في الغرب.
حاول ديركي أن يعوّض ملل المشاهد من خلال نهاية دراميّة الطابع: أحد الأبناء – واسمه أسامة تيمناً بأسامة بن لادن – ينتهي إلى الالتحاق بمعسكرات «القاعدة» حيث يتم تدريب الأطفال على القتال، بينما يستمر الابن الثاني أيمن – تيمناً بأيمن الظواهريّ – في تلقي التعليم المدرسي. نراه يستمع إلى الفتيات في صفه وهن ينشدن قصّة المركبة الفضائيّة التي زارت سالم وطلبت إليه المخلوقات الآتية من كوكب بعيد أن يعلمها الحبّ والسلام حيث هم في الفضاء لا يدركون سوى لغة الأرقام! لكن هذه النهاية تبدو ملفقة بالكامل.
رسالة الفيلم؟ بحسب ديركي في مقابلة مصوّرة له من كاليفورنيا حول شريط «عن الآباء والأبناء» أن الأمم المتحدة يجب أن تتدخل وتمنع الآباء من نقل أمراض العنف لأبنائهم الصغار. تلك الفكرة المسطحة هي الحدود القصوى لقدرة ديركي على تفسير التعقيد الاجتماعي والطبقي والايديولوجي والتاريخي والسيكولوجي الذي أنتجته المغامرة الأميركية في سوريا.
بالطبع، من حق كل ذي كاميرا أن يقّدم رؤيته الشخصيّة للعالم. إذ يستحيل أن تكون هناك كاميرا موضوعيّة بالكامل، ولا مناص من أنّ كل عمل فني يحمل في طيّاته - بشكل أو آخر - مضموناً سياسياً مباشراً أو مضمراً. ولذلك، فالعهدة تكون على المتلقي الذي ينبغي أن يعرف أيّ نظارة تلك التي يستعير، ليرى بها عند مشاهدته الأعمال الفنية. لأجل ذلك، لا عتب على ديركي شخصيّاً، لكن منهج المؤسسات الثقافية الغربية على رأسها «أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة» الأميركية الترويج لأعمال تفتقر إلى أدنى مكونات المهنية أو القيمة الفنية على أنها فتوحات كبرى ترشّح للفوز بالأوسكار، فتلك إساءة إلى مصداقيّة تلك المؤسسات وتسييساً فجاً لجوائزها التي باتت تُمنح أساساً خدمة لأجندات معينة ولو كان ذلك على حساب المضمون والمهنيّة والقيمة الاحترافية.