عاش جوزف حرب (1944 ـــ 2014) بين الإيقاعات والقوافي. كانت قصيدته نوعاً من الدندنة أو التقاسيم على الأوزان الكلاسيكية ومجزوءاتها وتفعيلاتها، وكانت الكلمات تأتيه موزونة أو شبه جاهزة لتدخل في شعره بسلاسة ويُسر، وكان هو منشداً وعازفاً داخل معجمه اللغوي الخصب والمفتوح على موضوعات الطبيعة والحب والطفولة والمرأة. الغنائية جعلت قصيدته قابلة للتلحين والغناء، وحظيت بعض قصائده بنوع من الخلود حين غنتها فيروز.
الشاعر اللبناني الذي غيّبه الموت أول من أمس كان يطلّ على العالم من زاوية خاصة، وينصب فخاخه للكلمات، ويستدرجها إلى صور واستعارات مفاجئة وجديدة. كانت غنائيته تتجنب الصوت العالي والإيقاع المتعسّف، وتصل إلى القارئ بتدرجات متفاوتة بين الهمس والخفوت. الصور نفسها كانت حصيلة تفكير إيقاعي وتأملات وجودية وكونية مخلوطة بسيرة شخصية مخلوطة بدورها بسيرة الطبيعة والكلمات. لا نجد هذا التوصيف في عناوين دواوين مثل «شيخ الغيم وعكازه الريح»، و«سنونو تحت شمسية بنسفج»، و«زرتكْ قصب فليتْ ناي» فقط، بل إن هذه العناوين كانت تتويجاً لقصائد منجزة بحبر الطبيعة ومعجم فصولها. كأن صاحب «شجرة الأكاسيا» كان يكتب نسخته الخاصة من «المفكرة الريفية» التي كتبها الراحل أمين نخلة، وكان قريباً من الروحية اللبنانية في تجربتي سعيد عقل وشوقي أبي شقرا.

انتسب حرب إلى كتاب الطبيعة، وأنجز هويته وحساسيته الشعرية فيها، حيث «أجمل أنواع الشعر/ المكتوبُ بحبرِ ضبابْ»، وحيث الغيمُ «بيتٌ من شعرٍ خطَّته يدُ الله/ كبيرُ الشعراءْ»، بينما الشاعر نفسه تلميذ أبديّ في «صفّ» الطبيعة و«محبرتها»: «ما زلتُ صغيراً، مدرستي محبرة، أخرجُ للفرصةِ، ألعبُ بالأوزانِ، فإنْ قرعتْ راهبةُ الرؤيا/ جرسَ الحبرْ، أدخلُ صفَّ الشعرْ».
بالفصحى أو العاميّة، ربّى حرب قصيدته في كنف الجمال البكر والبراءة الشعورية والنبرة الحالمة. وعلى امتداد 16 ديواناً، ظل يحفّ لغته بالإرث الشعري الكلاسيكي، ويلامس أطراف الحداثة بمجازفات التفعيلة التي تقترب من روحية النثر ولا تتورّط فيها بشكل كامل. كتب مطولات شعرية كما في «المحبرة» التي استغرقت 1750 صفحة، وكتب قصائد قصيرة ومضغوطة من سطر أو سطرين. في الحالتين، استثمر براعته في الإيقاع وتمكّنه من العروض في جذب القارئ الذي وجد تطريباً وتدفقاً في قصائده الطويلة، ووجد التقاطاتٍ ذكية ومدهشة في سطوره المكثفة. قد نأخذ عليه تلك الحلاوة الزائدة التي كانت تذوب في كل كلمة أحياناً، وقد نبرّر ذلك بالحضور الكثيف للطبيعة وعناصرها، وبميل الشاعر إلى زخرفة جملته واستخلاص عصارتها، ولكن هذا كله ينسحب ويتلاشى عندما نقرأ اللغة الحلوة ذاتها في قصائد تحتوي على تأملاتٍ فلسفية، وعندما لا تفسد الحلاوة المعنى الذي اشتغل الشاعر في الوصول إليه، وهو نراه بالعامية في قصيدة مثل «جوانح»: «الله عَطَا للطيرْ/ خفقة هـ الجوانحْ/ يمكن ل حتى لو بمطرحْ مَنّو عايش/ داق طعم الذّل/ يقدرْ يفلّ»، ونقرأه بالفصحى في قصيدة مثل «رمح»: «الموتُ يمحوني/ أنا لستُ أكثر عنده في الوقتِ/ من ماءٍ وطينِ/ ولسوف يطلق صمته يوماً على جسدي/ ويُرديني/ ولسوف تطوي سيرتي يدُهُ/ وتطويني/ أنا لم أجئْ إلا لقتل الموتِ. كلٌّ حاملٌ رمحاً ليقتله، ورمحي ليس ديناري، ولا إكليل مملكتي، رمحي دواويني».
خصوصية حرب وقوته موجودتان في هذا التفلسف الشعري، والسعي إلى كتابة سيرته أمام أسئلة الوجود والموت، وتخليد العمل اليومي للطبيعة وتعاقب الأيام، والاشتغال على أفكار الكتابة داخل الكتابة. ولعل انسحابه في السنوات الأخيرة التي سبقت رحيله، واعتكافه في قريته الجنوبية، كانا جزءاً من ممارسةٍ شعرية يفضّل فيها الشاعر الإقامة داخل عزلته ومخيلته. هناك نوع من التنسّك الشعري في أغلب الشعر الذي كتبه حرب. شعرٌ مصنوع من الهدايا التي تقدمها التأملات والوحدة، لكنها وحدة بلا باب: «ولكي/ لا أحدٌ يقرعُ هذا البابَ عليّ/ لا بابَ لديّ». بمثل هذه اللغة التي تقارب مناخات المتصوفة في اختزال العلاقة مع العالم، كتب حرب تجربته الشعرية التي سعى فيها إلى التقاط ما هو جوهري وخالد في المجريات العابرة والمهملة. بطريقة ما، وخصوصاً في قصائده القصيرة، اقترب الشاعر المفتون بالموسيقى والوزن من العوالم الصغيرة والهامشية المزدهرة عادةً في قصيدة النثر اليومية. نجد ذلك في قصيدة «صوت»: «تحت شجرة اللوز/ مات البلبل/ وعندما هبّ الهواء/ كان أجملَ صوتُ حفيف الورق/ فعرفتُ أن روح البلبل/ صعدتْ إلى الشجرة». ننتبه هنا كيف تتضاءل سطوة الإيقاع ويتعزز نفوذ الصورة المستهدفة، وهو ما يتحقق بفلسفة أعمق في قصيدة «الشعر والشعراء» التي تصلح لأن تكون حكمة مأثورة لغياب الشاعر الذي يأمل أن يظل شعره حياً، وأن تطير روحه بجناح الخيال: «ليس يموتُ الشعرْ/ والشعراء لا يدخلون الأضرحهْ/ لأنهم لم يولدوا/ بغير أجنحةْ».

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza